1
- تجاه ما يتعرض له مسيحيو سوريا من جرائم ضد الإنسانية على أيدي المعارضة السورية
المتطرفة، من داعش والنصرة وغيرها، يبدو موقف مسيحيي 14 آذار غريباً ومفاجئاً
ومتناقضاً مع الشعارات التي درج عليه هذا اليمين المسيحي في لبنان.
هذا الفريق
درج منذ عشرات السنوات على رفع شعارات "حماية الوجود المسيحي في لبنان
والمنطقة" و"الاضطهادات التي يتلقاها المسيحيون في هذه المنطقة منذ
الفتح الإسلامي" و"لبنان بلد الملجأ للمسيحيين المضطهدين في هذه المنطقة
على يد الأكثرية المسلمة" و"الضمانات للمسيحيين في لبنان لإزالة الخوف
عندهم"... هذا اليمين المسيحي في لبنان، كان يُعرَف قبل الحرب الأهلية باليمين
وأيضاً بالمارونية السياسية، ثم بعد هذه الحرب أصبح يُعرَف بالمعارضة المسيحية،
وأخيراً أصبح يُعرَف بمسيحيي 14 آذار.
الوجود
المسيحي في سوريا هو حالياً على مفترق طرق، لم يكن يوماً مهدداً بالزوال منذ 1400
عام كما هو مهدد حالياً في حال سقوط النظام؛ وكذلك هو الحال مع باقي الأقليات
الدينية، من علويين وكرد ودروز وشيعة وغيرهم.
وفي حال
سقوط النظام، فإن دور لبنان وحزب الله سيكون هو التالي، ومصير مسيحيي لبنان لن
يكون بأفضل من مصير مسيحيي سوريا. وبالرغم كل ذلك، كان ولا يزال مسيحيو 14 آذار يقدِّمون
كل دعم ممكن، إعلامي وسياسي، إلى المعارضة؛ ويرفضون أية اتهامات لها باستهداف
المدنيين المسيحيين السوريين، بالقصف أو القنص أو القتل أو الخطف أو سَبي النساء
أو الاعتداء على الكنائس ورجال الدين، ويعتبِرون أن كل هذه الجرائم إنما يقوم بها
النظام بهدف تشويه صورة المعارضة... إلى أن كان هجوم المعارضة المتطرفة العلني على
معلولا منذ أشهر، فلم يكن بإمكان مسيحيو 14 آذار القول "إن استخبارات النظام
هي من هجمة على معلولا في لباس جبهة النصرة"، فاضطروا أخيراً إلى الاعتراف
بوجود جرائم تستهدف مسيحيي سوريا، لكن جاء هذا الاعتراف باهتاً جداً ومحاولاً
التقليل إلى أقصى حد من حجم وأهمية هذه الجرائم... الأمر الذي يتناقض مع ما درج
عليه اليمين المسيحي في لبنان عبر تاريخه من الادعاء بوجود جرائم بحق المسيحيين في
المنطقة من قبل الأكثرية المسلمة والمبالغة بهذه الأمور حتى استناداً على روايات
كاذبة، و"جعل الحبة قبة"...
لكن في واقع
الأمر، وعند النظر إلى مجمل مواقف هذا اليمين المسيحي فلا يعود هناك من تناقض؛ كما
سنرى فيما سيلي.
2 - كقاعدة
عامة، ليس هناك من أقلية دينية، أو عرقية أو ثقافية، في أي مكان في العالم إلا
وتدَّعي أنها معرَّضة لتجاوزات أو اضطهادات من قبل الأكثرية، والتي قد تكبّرها أو
تصغّرها بحسب الظروف السياسية والأمنية... المشكلة ليست في هكذا ادعاءات بل في
طروحات تلك الأقلية في كيفية معالجة هذه التجاوزات والاضطهادات المزعومة...
في لبنان،
ومنذ الفتوحات الإسلامية، كان مسيحيوه يدَّعون وجود الاضطهادات والتجاوزات بحقهم،
تماماً كما هو الحال مع أية أقلية دينية في أي مكان في العالم. لكن التطور المهم،
والذي لا يزال مستمراً إلى الآن، هو أنه بعد الحملات الصليبية بَقيَ هناك قسم من
مسيحيي هذا البلد يطمح بتدخل عسكري غربي يُهزِم المسلمين ويعطي المسيحيين حريتهم
المنشودة. وكانت قد جَرَت بالفعل بعض الاتصالات بينهم وبين حكام غربيين في القرون الماضية
لحملهم على هكذا تدخل والتلويح لهم بوجود عشرات الآلاف من المقاتلين المسيحيين في
لبنان الذين هم على استعداد لتقديم المساعدة العسكرية لهكذا تدخل غربي.
هذا الحلم
لم يتحقق إلا بشكل جزئي في العام 1860 إثر مذابح طائفية بين الموارنة والدروز،
فحصل تدخل عسكري غربي في لبنان أوجد نظام متصرفية جبل لبنان كمقاطعة لها استقلال
ذاتي داخل السلطنة العثمانية، يشكل المسيحيون أكثرية سكانها ويكون حاكمُها أحد المسيحيين
من رعايا هذه السلطنة. ثم تحقق الحلم بشكل كلي في العام 1920 أثناء الانتداب
الفرنسي، وبعد أن طالب ذلك الفريق من مسيحيي لبنان وبلجاجة الفرنسيين، وتوسلوا إليهم،
لإقامة وطن يكون محمية للمسيحيين بوجه أية اضطهادات أو تجاوزات قد تحصل لهم من قبل
الأكثرية المسلمة. فكان وجودُ الدولة اللبنانية بعد أن تم توسيع حدود المتصرفية؛وأصبحت
هذه الدولة بعد الاستقلال عام 1943 بمثابة الحصن للمسيحيين، حيث يتمتعون فيها
بامتيازات استثنائية تجعل منهم حكام البلد الفعليين في الإدارة والأمن.
ومع التنبه إلى أنه عند التحدث
عن اليمين المسيحي فليس المقصود بذلك الموارنة، بل إن هذا الفريق، كان ولا يزال،
يتألف من موارنة وغيرهم من المسيحيين؛ كما كان ولا يزال يوجد فريق آخر مسيحي في
الاتجاه السياسي الآخر (العروبي) مؤلَّف بدوره من موارنة وغيرهم من المسيحيين.
منذ الاستقلال ولغاية اليوم،
لم تتغير طروحات اليمين المسيحي إلا بشكل طفيف. هذه الطروحات، أو المواقف (التي
يتم التعبير عنها من خلال الأحاديث اليومية أو الكتابات أو التصريحات أو التحركات
السياسية)، هي التالية: التحدث عن أخطار على المسيحيين
في لبنان والمنطقة من قبل الأكثرية المسلمة منذ الفتوحات الإسلامية، واعتبار أن
الأطماع والأخطار الأساسية على لبنان هي المتأتية من الجوار العربي، والقول عن لبنان إنه الحصن للمسيحيين و"بلد الملجأ" لهم و"بلد
الإشعاع" في المنطقة وإن المسيحيين هم أكثر تطوراً من المسلمين، والتطلع إلى
الحماية الغربية للبنان وللمسيحيين... والعمل على المحافظة على ما للمسيحيين من
أكثرية الامتيازات السياسية في فترة ما قبل الحرب الأهلية التي كانت تجعل منهم
حكام البلد الفعليين تحت شعارات: أنها الضمانة لهم ولإزالة الخوف عندهم، ولأنهم
الأكثرية العددية، ولأنه يعود الفضل إليهم في إيجاد الكيان اللبناني، ولأنهم
الأكثر تطوراً والأفضل في قيادة البلاد... أما بعد الحرب الأهلية ولأنه لم يعد
المسيحيون هم الأكثرية العددية وبعد تنقيص امتيازاتهم في "اتفاق الطائف"
فقد أصبح موقفهم الجديد هو العمل على زيادة الامتيازات، أو زيادة نفوذ السياسيين المسيحيين، تحت شعار إزالة التهميش عنهم...
بالعودة إلى
أجواء ما بعد الاستقلال، يكون قد تحقق حلم اليمين المسيحي بإقامة وطن للمسيحيين
يُحكَم من قبلهم ومستقل عن الأكثرية المسلمة في المنطقة ويحظى بالحماية الغربية
ويمارسون من خلاله موقفاً عنصرياً تجاه هذه الأكثرية، فيقِّدمون أنفسَهم كفئة
متطورة، تجمع بين حضارات الشرق والغرب، وتنقلُ الحضارةَ والتطورَ إلى المسلمين
اللبنانيين كما إلى باقي الجوار، وحيث بفضلهم أصبح لبنان "بلد الإشعاع"
في هذه المنطقة.
المفتاح، أو
الطرح الأهم لكي يبقى المسيحيون هم حكام البلاد الفعليين، هو التحدث الدائم عن
أخطار من قبل الجوار العربي على لبنان؛ لأنه لما كان معظم سكان هذا الجوار هم من
المسلمين ولما كان لبنان بمثابة المحمية للمسيحيين، فيصبح تفسير وجود هذه الأخطار
هو أنها أحد أشكال الاستهداف الطائفي من قبل المسلمين للمسيحيين. ويصبح من ضمن ما
يترتب عليها هو ضرورة المحافظة على امتيازات المسيحيين كضمانة لهم في فترة ما قبل
الحرب الأهلية، أو زيادتها، أو زيادة نفوذ السياسيين المسيحيين، في فترة ما بعد هذه الحرب... فيكون
السبب الحقيقي في التحدث الدائم من قبل المنتمين إلى اليمين المسيحي، ماضياً
وحاضراً، عن أخطار وأطماع ناصرية وفلسطينية وسورية وإيرانية على لبنان هو ليس
المحافظة على "الحرية والسيادة والاستقلال" كما يدَّعون، بل هو هذا
السبب الطائفي والغرائزي والعنصري المبيَّن أعلاه.
الوطن الحلم
الذي تحقق بعد الاستقلال، ما لبث أن أصيب بانتكاسة مُرَّة لم تكن في الحسبان منذ
ستينات القرن الماضي حيث تبيَّن أن المسلمين هم مَن أصبحوا الأكثرية العددية وليس
المسيحيون. والمنطق يَفترِض أنه عندما تكون أية أقلية معرَّضة لاضطهادات أو
تجاوزات فالحلّ يكون عبر إعطائها ضمانات أو امتيازات ما أو حكم ذاتي أو حتى
الاستقلال التام، وليس أن تُعطى امتيازات بالشكل الذي يجعل منها الحاكم الفعلي في
البلاد.
بالتالي،
أصبح الخيار الأفضل لدى اليمين المسيحي للمحافظة على الوطن الحلم هو الوصول إلى
تقسيم لبنان إلى كانتونات طائفية أو إلى دويلتين مسيحية وإسلامية. وليكون الكانتون
أو الدويلة المسيحية تحت نفس الطروحات التي درج عليها هذا الفريق؛ أي الكيان الحامي
للمسيحيين والمستظل بالحماية الغربية والذي يقوم بالدور الإشعاعي - الحضاري في
المنطقة. وبالتالي، المتوقَّع أن يكون بمثابة فسحة أوروبية في المنطقة العربية
والمحور لها ومحطّ الأنظار فيها وجاذباً للسياح ورؤوس الأموال منها؛ وفي حال
التقسيم التام، ستكون الدويلة المسيحية، إضافة إلى ذلك، بمثابة القاعدة العسكرية
الغربية في المنطقة.
فيكون الهدف الحقيقي من تحدث
اليمين المسيحي عن الأخطار والأطماع العربية والإيرانية على لبنان هو لإظهار أن
المستهدَف منها أساساً هو مسيحيي لبنان، ولإحراج الفريق الآخر من اللبنانيين لدفعه إما
للمحافظة على امتيازات المسيحيين أو زيادتها وإما للوصول إلى التقسيم الجزئي أو
الكلي. إضافة، من ضمن الحجج التي تعطى لتبرير التقسيم هي المحافظة على التنوع أو
التعددية الثقافية في لبنان.
3 - بالعودة إلى الأحداث السورية، فلو قام مسيحيو 14
آذار بالتحدث عن الجرائم ضد الإنسانية التي تطال مسيحيي سوريا من قبل المعارضة
المسلحة كما هي على أرض الواقع، لكانوا قد قدَّموا دعماً كبيراً إعلامياً وسياسياً
إلى النظام السوري؛ كونهم يكونون قد ساهموا بشكل كبير في إظهار الابتعاد الفاضح لهذه المعارضة عن الديمقراطية وفي إظهار الخطر الذي تشكله على الأقليات الدينية.
والعكس صحيح،
فطالما هم يقللون إلى أقصى حد من حجم هذه الجرائم، بل ويتهِمون النظامَ بتدبير
معظمها ويستمرون على نهجهم باتهامهم له بالقمع والإرهاب، فهم يقدِّمون دعماً
كبيراً إعلامياً وسياسياً إلى المعارضة المسلحة؛ كونهم يكونون قد ساهموا بشكل كبير في إظهار التزام هذه المعارضة بالديمقراطية مقارنة بابتعاد النظام عنها، وفي إظهار كيفية تفضيل المسيحيين وغيرهم من الأقليات الدينية لها على
حساب النظام... وبالتالي، يكونون مساهِمين بشكل فاعل وغير مباشر في استمرار القوة العسكرية
لهذه المعارضة، كونها ترتكز أساساً على ما عندها من قوة إعلامية وسياسية؛ ويكونون
مساهِمين بشكل غير مباشر فيما يتعرض له المدنيون المسيحيون وغيرهم من الأقليات من
جرائم ضد الإنسانية من قبل هذه المعارضة؛ وأيضاً يكونون مساهِمين بشكل فاعل في
إضعاف النظام.
بالتالي،
إذا قُيِّض لهذا النظام السقوط، مع ما قد يترتب عليه من إبادة وتهجير مسيحيي سوريا
وغيرهم من الأقليات فيها؛ فهذا يعني أن المعارضة المسلحة مع حلفائها في الخارج
سيحاولون استهداف حزب الله داخل لبنان؛ وحيث سيكون المسيحيون اللبنانيون، سواء
أكانوا من 14 آذار أم من حلفاء حزب الله، معرَّضين بدورهم لجرائم ضد الإنسانية...
هنا ستكون الفرصة متاحة أكثر من أي وقت مضى أمام مسيحيي 14 آذار لرفع الصوت
والاستعانة بالتدخل العسكري الغربي، وحتى الإسرائيلي، لإيجاد كانتون أو دويلة
حامية للمسيحيين... أي لتحقيق حلمهم القديم - الجديد والوصول إلى التقسيم. وحتى من
دون سقوط النظام، فطالما المعارضة باقية قوية يبقى الاحتمال قائماً أن تُشعلَ، مع
حلفائها في الخارج، الداخلَ اللبناني في حرب طائفية ضد حزب الله ولفتح جبهات جديدة
على الحدود ضد النظام السوري؛ ما يعني بدوره ذهاب الأمور نحو استهداف مسيحيي لبنان بجرائم ضد
الإنسانية وتوفر الفرصة أكثر من أي وقت مضى للوصول إلى التقسيم.
هذا هو
السبب الحقيقي في إصرار مسيحيي 14 آذار على المحاربة الشرسة، الإعلامية والسياسية،
للنظام السوري، وفي تقديم أقصى قدر ممكن من الدعم الإعلامي والسياسي إلى المعارضة
المسلحة والذي مما يتضمنه التقليل إلى أقصى حد مما تقوم به من جرائم بحق مسيحيي
سوريا... "إذا ما عُرِف السبب بطُل العجب"... فحتى لو تمت إبادة أو
تهجير جميع مسيحيي سوريا وتم سَبي آلاف النساء منهم، فمسيحيو 14 آذار، واستناداً
على الطروحات التي درجوا عليها، لن يرفّ لهم جفن، بل سيكونون سعيدين جداً؛ كون هذا
الوضع سيزيد من احتمال نجاحهم في الوصول إلى التقسيم.
يقال
"كل ضيعة وفيها كفايتها"، أيضاً يصح القول "كل طائفة وفيها
كفايتها"، وكما هناك قسم من السُنة في سوريا يطمح لوجود دولة إسلامية أو
برداء إسلامي تكون تحت المظلة الأمريكية وإن على حساب المجازر والإبادات والتهجير،
كذلك هناك قسم من المسيحيين في لبنان يطمح لوجود كانتون أو دويلة مسيحية تكون تحت
المظلة الأمريكية وإن على حساب المجازر والإبادات والتهجير.
4 - للتوسع أكثر في طروحات اليمين المسيحي في لبنان انظر
كتابي "حول الأزمة اللبنانية ونهاية الزعامة العالمية للولايات المتحدة"
الفصلين الثاني والرابع.
لإظهار أثر طروحات هذا اليمين المسيحي على التوترات
الأمنية المستمرة في لبنان انظر المقالة "الحلّ للأزمة اللبنانية":
للتوسع أكثر في هذا الموضوع انظر الفصل الثالث من كتابي
أعلاه.
حول الأخطار التي تهدد مسيحيي سوريا انظر المقالة
"عن الراهبات المختطفات ومسيحيي سوريا":
حول كيفية إنهاء الأحداث الأمنية في سوريا وإحلال السلام
فيها وفي المنطقة انظر المقالة "نحو الانتصار في سوريا وهزيمة أمريكا":
عامر سمعان ، باحث وكاتب
24/ 1/ 2014