أ - بعد أن قامت المعارضةُ السورية
المسلحة باختطاف الراهبات من دير القديسة تقلا في معلولا، وما أثاره هذا الأمر من
ضجة منددة داخل سوريا وخارجها؛ ظهرت فجأة أصواتٌ من داخل سوريا ومن ضمن الفريق
الموالي للنظام، على صفحات التواصل الاجتماعي، مستغربة ظهور هذه الضجة وما يرافقها
من مساعي حثيثة للإفراج عنهن في حين لا يزال الآلاف من المختطفين والمفقودين يكاد
لا أحد يهتم بهم. ويتساءل هؤلاء: كيف من الممكن أن تكون ثلاث عشرة راهبة أهم من
آلاف المختطفين والمفقودين ؟ وما هو شعور أهالي المختطفين عندما يرون هذا الاهتمام
الزائد بالراهبات في حين لا يهتم أحد بأولادهم ؟ وليصلوا إلى نتيجة أن النظام السوري
قد أخطأ في التعاطي الزائد بموضوع الراهبات.
من جهة أخرى،
ومع ازدياد هجرة المسيحيين من سوريا بعد بدء الأحداث الأمنية كانت قد ظهرت أصواتٌ
تتهِم مسيحيي سوريا بقلة الوطنية وبالجبن لأنهم لم يحملوا السلاح ويدافعوا عن
وجودهم كما تفعل باقي الأقليات من أكراد وشيعة ودروز وعلويين.
ب - أقل ما يمكن أن يقال عمن يطلقون هذه الاتهامات إما أن
لديهم قصر نظر فاضح، أو كره لمسيحيي سوريا...
- أولاً، حول اهتمام النظام السوري وحلفائه بالإفراج عن
الراهبات المختطفات.
أهم مأخذ على المعارضة السورية
المسلحة، أي الانتكاسة السياسية الأهم لها، هي قيامها بجرائم ضد الإنسانية بحق
مسيحيي سوريا، من قتل وتطهير طائفي وخطف وقنص وقصف وسبي نساء واغتصابهن وتخريب
وتدنيس الكنائس والأديرة والتعرض لرجال الدين والرهبنة، وخاصة ما حصل مع المطرانين
المخطوفين ومؤخراً مع خطف الراهبات من معلولا.
بالطبع كل سكان سوريا من مسلمين ومسيحيين هم معرَّضين أو ضحايا لهذه
الجرائم من قبل المعارضة المسلحة. لكن عندما تحصل هذه الجرائم بحق المسيحيين يكون
لها ضجة أكبر من عندما تحصل بحق غيرهم، أي يترتب عليها انتكاسة سياسية أكبر
للمعارضة. وخاصة عندما تحصل بحق رجال الدين والرهبنة والكنائس والأديرة، لأن هذه
هي رموز لحرية العبادة المسيحية.
السبب في هذا الأمر، هو أنه يوجد ضرورة عالمية للمحافظة على المسيحية في
هذه المنطقة، أي في سوريا والدول المجاورة لها. فالمسيحيون في كل أنحاء يهمهم هذا
الأمر لأن هذه المنطقة هي مهد المسيحية. والمسلمون بدورهم يهمهم هذا الأمر لإظهار
أنفسهم كمنفتحين ومتقبلين الآخر ومتعايشين معه. والذين هم غير مسيحيين وغير مسلمين
يهمهم بدورهم هذا الأمر من باب المحافظة على التنوع الثقافي في هذه المنطقة.
باستثناء فريقين في العالم يعملان على إلغاء الوجود المسيحي في هذه المنطقة، الأول
هم الأصوليون الإسلاميون المتطرفون (قسم منهم وليس جميعهم) الذين يعتبرون
المسيحيين كجسم غريب داخل إماراتهم الإسلامية المستقبلية؛ والثاني هم صناع القرار
في السياسات الغربية، الأمريكية والحليفة لها، والذين بناءً على سياساتهم في
العراق وسوريا يبدو واضحاً أنهم يعملون على إلغاء الوجود المسيحي في هذه المنطقة.
أي إنه
بالنظر إلى الضرورة العالمية للمحافظة على المسيحية في هذه المنطقة، تصبح جرائم
المعارضة السورية المسلحة بحق المسيحيين، وخاصة بحق رجال الدين منهم والرهبنة
والأديرة والكنائس، هي الانتكاسة السياسية الأهم لها.
بالتالي،
عندما يقوم النظامُ السوري وحلفاؤه، داخل سوريا وخارجها، بتسليط الأضواء على
الراهبات المختطفات والمطرانين وبعض الكهنة المختطفين، فهذا ليس لأن هؤلاء هم أهم
من آلاف المخطوفين والمفقودين، وليس لأن النظام السوري يخاف من الغرب المسيحي
ويريد أن يسترضيه بهذه المسألة (كما تذهب بعض التعليقات)... بل السبب هو أنه كلما
زاد تسليط الأضواء على هؤلاء الراهبات والمطرانين والكهنة، أدى هذا إلى زيادة
تشويه صورة المعارضة السورية المسلحة عالمياً، وكان هذا الأمر ربحاً سياسياً
أكبر للنظام وحلفائه...
الحرب
العالمية الدائرة في سوريا هي أولاً وأساساً حرب إعلامية وسياسية وثانياً هي حرب
عسكرية؛ وكلما زاد الربح الإعلامي والسياسي زاد تحسن الوضع العسكري على الأرض.
- ثانياً، حول الهجرة الملحوظة لمسيحيي سوريا.
عندما قرر
أكراد سوريا البقاء فيها وحمل السلاح والدفاع عن أنفسهم في مواجهة جرائم الأصوليين
المتطرفين، فليس السبب في هذا أنهم أكثر وطنية أو شجاعة من المسيحيين، بل السبب
أنه هناك ميليشيات كردية خارج سوريا مستعدة لأن تمدهم بالسلاح والمتطوعين إذا لزم
الأمر. وعندما قرر شيعة سوريا البقاء فيها وحمل السلاح والدفاع عن أنفسهم في
مواجهة جرائم الأصوليين المتطرفين، فليس السبب في هذا أنهم أكثر وطنية أو شجاعة من
المسيحيين، بل السبب أنه هناك ميليشيات شيعية خارج سورية ودول شيعية مستعدة لأن
تمدهم بالسلاح والمتطوعين إذا لزم الأمر؛ مع العلم أنه عند التحدث عن حزب الله فهو
ليس مجرد ميليشيا، بل أحد أقوى الجيوش ويشكِّل دولة داخل دولة. وكذلك هو الحال مع
الدروز في قرارهم البقاء وحمل السلاح. أما العلويون فمن الطبيعي أن يكونوا مطمئنين
إلى أنهم آخر فئة قد يتخلى عنها النظام؛ لكن على ما يبدو أنهم أصبحوا يتذمرون من
طريقة تعاطي هذا النظام مع مختطفي ريف اللاذقية...
أما عن
مسيحيي سوريا فبالطبع ليس هناك من ميليشيات مسيحية خارج سوريا مستعدة لأن تمدَّهم بالسلاح
والمتطوعين.
المسألة لا
تتوقف عند هذا الحد، لنعد قليلاً بالذاكرة إلى ما حصل في العراق. فمسيحيو العراق لم
يكونوا المسؤولين عن أخطاء نظام صدام حسين لا من قريب ولا من بعيد؛ وليسوا هم من
طلب وترجى وتوسل الأمريكيين لكي يحتلوا العراق وينهوا هذا النظام؛ وفي النهاية
ماذا كان مصيرهم ؟
كان مصيرهم
أنه في العام 2010 أعلن تنظيم "دولة العراق الإسلامية" أن مسيحيي العراق
أصبحوا جميعاً "أهدافاً مشروعة للمجاهدين" و"أن كل المراكز والمنظمات والهيئات النصرانية، رؤوساً
واتباعاً، أهداف مشروعة للمجاهدين حيثما طالته أيديهم"... تحت حجة أن الكنيسة القبطية في مصر تسجن في
أحد الأديرة سيدتين مسيحيتين اعتنقتا الإسلام، وأنها لم تفرج عنهما بعد انقضاء
المهملة التي منحها لها هذا التنظيم. وأعقب هذا التهديد اعتداءات على كنيسة وبيوت
للمسيحيين في بغداد أوقعت عشرات القتلى منهم. أي إن تنظيم "دولة العراق
الإسلامية" تجاهل كل ما لحق ويلحق بمسيحيي مصر من تجاوزات وغبن وتهميش،
واستند إلى رواية مشكوك بصحتها ليستبيح دم مسيحيي العراق.
بالتالي،
وبعد أن ظهر إلى الوجود التوأمُ لهذا التنظيم، وتحول إلى "داعش"،
"الدولة الإسلامية في العراق والشام"، فماذا سيكون مصير مسيحيي سوريا لو
سقط النظام، وماذا سيكون مصير المسيحيين في أية منطقة من سوريا بعد أن يفقد النظام
السيطرة عليها ؟
انطلاقاً من
هذه المعطيات أعلاه علينا النظر إلى الأسباب الحقيقية التي وراء هجرة قسم ملحوظ من
مسيحيي سوريا.
ج - أي شخص لا يحتاج لأن يكون خبيراً إستراتيجياً لكي
يدرك ما أوردناه أعلاه عن اهتمام النظام السوري وحلفائه بالراهبات المختطفات
والمطرانين والكهنة المختطفين، أو ليدرك الأسباب وراء هجرة المسيحيين... التمنيات
أن الذين انتقدوا موقف النظام وحلفائه من هذه المسألة والذين وصفوا مسيحيي سوريا
بقلة الوطنية وبالجبن، أن يكونوا قد قالوا هذا الكلام عن قصر نظر أو تسرّع أو عدم
انتباه، وليس أن يكونوا قد قالوه كرهاً بالمسيحيين، لأن مسيحيي سوريا "مش
ناقصن مصايب".
د - الحل الوحيد في سوريا الذي من شأنه أن ينهي الأحداث
الأمنية حتى خلال أسابيع، وينهي أيضاً وجود الأصوليين المتطرفين، ليس فقط كمسلحين
في سوريا أو في غيرها بل أيضاً ينهي وجودهم كفكر ونهج في أي مكان في العالم؛ هو في
مواجهة رأس الأفعى مباشرة، أي في العمل بخطة (إستراتيجيا) تعتمد وسائل المحاربة
الإعلامية والسياسية والاقتصادية للولايات المتحدة وتؤدي في المستقبل المنظور إلى
إنهاء زعامتها العالمية وإلحاق هزيمة كبرى بها وبإسرائيل ومَن معهما. هذه الخطة
كنتُ قد وضعتُها بناءً على دراسات معمَّقة وغير مسبوقة، في علوم السياسة
والإستراتيجيا والتنمية والسوسيولوجيا.
حول الملخَّص عن هذه الخطة انظر "نحو الانتصار في سوريا وهزيمة أمريكا":
حول أسباب عدم البدء بهذه الخطة لغاية الآن انظر "محور المقاومة... العجز وقلة الجرأة":
http://www.amersemaan.com/2013/11/blog-post.html
حول موقف مسيحيي 14 آذار في لبنان من مسيحيي سوريا انظر
"الداعشيون المسيحيون":
عامر سمعان ، باحث وكاتب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق