ما يتضمنه كتابي "حول الأزمة اللبنانية ونهاية الزعامة العالمية للولايات المتحدة" دراسات معمقة وغير مسبوقة في السياسة والإستراتيجيا والتنمية والسوسيولوجيا؛ من بينها: أربع نظريات جديدة في الأنتروبولوجيا المجتمعية، وخطة لحلّ الأزمة في لبنان، وإستراتيجيا تعتمد وسائل المحاربة الإعلامية والسياسية والاقتصادية لهزيمة الولايات المتحدة وإنهاء زعامتها العالمية، والتي سيكون من نتائجها الاستقرار الأمني والنمو الاقتصادي والتطور في العالم العربي ومعظم دول الجنوب.

السبت، 28 يونيو 2014

من زمن الحكواتي... إلى المونديال

     قبل مجيء التلفزيون إلى المجتمع اللبناني كان هناك مهنة الحكواتي. هذا كان رجلاً يمتهن سرد قصص خيالية أو تاريخية مصبوبة في قالب خيالي، وموضوعة بشكل يجذب انتباه الناس ويثير حماستهم استناداً على ما يوجد من قيم البطولة والفروسية والكرم وغيرها المعروفة عند العرب. هذه القصص هي كمثل "تغريبة بني هلال" و"الزير سالم" و"عنتر بن شداد" و"علي الزيبق المصري" وغيرها... وكانت "تغريبة بني هلال" هي الأكثر شهرة وجاذبية وطلباً بينها.

    كان الحكواتي يجلس في مكان عام، عادة مقهى، ويسرد كل يوم فصلاً من الرواية؛ ليس بقراءة عادية، بل بتشويق وبنبرة عالية أو منخفضة أو فرحة أو حزينة، بما يتطلبه المشهد في الراوية وبما يزيد من انجذاب الجمهور وحماسته.

     ولما كان أشهر شخصيتين في رواية تغريبة بني هلال، هما دياب الهلالي المشهور بفروسيته وقوته الجسدية وأبو زيد الهلالي المشهور بدهائه وحنكته؛ فقد كان الذين يستمعون للحكواتي، ينقسمون بين حزب مؤيد لدياب وآخر لأبي زيد. وكان يحصل أنه إذا أتى الحكواتي إلى فصل يكون فيه دياب منتصراً، أو يكون فيه أبو زيد منكسراً أو سجيناً... فإن الحزب المؤيد لدياب يتهلل فرحاً بالتصفيق والنط والرقص و"التزريك" والتعليم على الحزب الآخر المؤيد لأبي زيد... والعكس صحيح، بالنسبة إلى هذا الحزب الأخير عندما يكون أبو زيد منتصراً أو يكون دياب مهزوماً أو سجيناً. وأحياناً كانت تتطور هذه المظاهر إلى التعارك والتضارب بالأيدي والعصي والكراسي وقد تصل الأمور إلى تحطم بعض محتويات المقهى أو أن ينال الحكواتي حصة من الضرب. هذا مع العلم أن هذا الجمهور من المستمعين كان يدرك تماماً أن أحداث الرواية هي إما خيالية وإما مبالغ بها جداً.

     وبعد دخول التلفزيون إلى المجتمع اللبناني كان من الطبيعي أن تندثر مهنة الحكواتي شيئاً فشيئاً، لتحل محلها القصص والأفلام التلفزيونية. ثم جاءت العولمةُ، وتحوَّلَ العالمُ إلى قرية كبيرة تصل فيها الأخبارُ إلى كل مكان فيه بفعل وسائل الاتصال المتطورة. ثم أصبحت رياضة كرة القدم هي الأكثر شعبية على المستوى العالمي، خاصة منها مباراة بطولة العالم، ويساهم التلفزيون وباقي وسائل الاتصال المتطور في إيصالها إلى كل مكان في العالم.

     ولما كان أشهر فريقين في هذه الرياضة هما المنتخَب البرازيل والمنتخَب الألماني، فقد انقسم قسم كبير من اللبنانيين المتابعين لهذه الرياضة بين حزب مؤيد للبرازيل وآخر لألمانيا، وبشكل أقل لغيرهما من الفرق.

     أي أنه كما كان يتم الانقسام بين مؤيدين لدياب ولأبي زيد، ومن دون وجود أي رابط بين هؤلاء المؤيدين وهذين الشخصيتين، ومع مظاهر الاحتفال والتشجيع و"التزريك"... كذلك هو الأمر حالياً، حيث يوجد انقسام بين مؤيدين للفريق البرازيلي والفريق الألماني، ومن دون وجود أي رابط ثقافي أو قومي أو سياسي أو غيره بين هؤلاء المؤيدين وهذين الفريقين، ومع كل مظاهر الاحتفال والتشجيع و"التزريك"... والتي منها رفع الأعلام على البيوت وفي السيارات، وقرع الطبول والنفخ في المزامير، والمظاهرات في السيارات، وإطلاق المفرقعات والألعاب النارية...

     وبالطبع، يبقى هناك أقلية قليلة من الذين يشجعون أحد الفرق لدواعٍ قومية أو سياسية أو غيرها، كمثل تشجيع الفريق العربي المشارك لدواعٍ قومية أو الإيراني لدواعٍ سياسية أو غيره.

     أخيراً، وبالطبع، فإن ظاهرة انقسام المستمعين بين مؤيدين لدياب ولأبي زيد، أو لغيرهما من شخصيات خيالية، في روايات الحكواتي؛لم تكن مقتصرة على المجتمع اللبناني بل موجودة أيضاً في الكثير من المجتمعات العربية. وكذلك، فإن ظاهرة تشجيع الفرق المشاركة في المونديال من دون وجود أي رابط ثقافي أو قومي أو سياسي أو غيره بين المشجعِين وهذه الفرق، هي بدورها ليست مقتصرة على المجتمع اللبناني بل موجودة أيضاً في الكثير من المجتمعات في العالم.

     السبب في عالمية هذه الظاهرة، ماضياً أم حاضراً، وفي التحليل السوسيولوجي - الأنتروبولوجي، هو إيجاد نماذج، خيالية أو حقيقية، للبطولة أو النجاح تتيح للفرد من خلال اختيار أحدها من أن يثبت صحة تفكيره أو علمه، وبما يساهم في تفوقه في مجتمعه؛ وفي نفس الوقت تكون هذه العملية مساهِمةً في تنشيط وسائل للتسلية في المجتمع مرتبطة بالدورة الاقتصادية فيه... 

 



عامر سمعان ، باحث وكاتب
www.amersemaan.com
28/ 6/ 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق