ما يتضمنه كتابي "حول الأزمة اللبنانية ونهاية الزعامة العالمية للولايات المتحدة" دراسات معمقة وغير مسبوقة في السياسة والإستراتيجيا والتنمية والسوسيولوجيا؛ من بينها: أربع نظريات جديدة في الأنتروبولوجيا المجتمعية، وخطة لحلّ الأزمة في لبنان، وإستراتيجيا تعتمد وسائل المحاربة الإعلامية والسياسية والاقتصادية لهزيمة الولايات المتحدة وإنهاء زعامتها العالمية، والتي سيكون من نتائجها الاستقرار الأمني والنمو الاقتصادي والتطور في العالم العربي ومعظم دول الجنوب.

الجمعة، 13 يناير 2017

المفهوم المسيحي للموت


في المسيحية الأرثوذكسية، الموت هو انتقال من حياة وقتية قصيرة إلى الحياة الأبدية، هو انتقال من حياة يتم فيها الجهاد في الجسد بهدف التقدم في القداسة إلى حياة الظفر في الحضرة الإلهية والتمتع بالمجد الإلهي، والتي يكون كمالها في اليوم الأخير حين قيامة الأموات بالجسد وعيش المخلصين في الفردوس ("حينئذ يضيء الأبرارُ كالشمس في ملكوت أبيهم" متى 13: 43).
     فيكون أهم تكريم للميت هو الصلاة لأجله، لكي يرحمه الله ويغفر خطاياه ويشمله في تلك الحياة الظافرة والبهِجَة والمشاركة في المجد الإلهي.
     من هنا يمكن تلمس الكثير من العادات والتصرفات الخاطئة التي تحصل في الجنازات أو المتعلقة بالموت:
- أولاً، العادات والتصرفات التي تستجلب الحزن، كمثل لباس الحداد الأسود والتفجّع والنَدب وتعليق رايات الحداد في الأماكن العامة والامتناع عن المشاوير والموسيقى وحتى الامتناع عن حضور الخدم الكنسية وما شابه... فالشعور بالحزن بسبب الوفاة هو أمر طبيعي، لكن أن يتم استجلاب الحزن فهو متعارض مع الرؤية المسيحية التي تعتبر الوفاة فرصةً بهجةً للأبرار للتحرر من عبء هذه الحياة والانتقال إلى غبطة المجد الإلهي.      
- ثانياً، العادات والتصرفات التي تهدف إلى تعظيم الميت، كمثل تعليق الصور الضخمة له وإطلاق المفرقعات والرصاص أثناء الجنازة، وإلقاء الخُطَب والكلمات التي تعظّمه... كل هذا هو خطأ لأن أية عظمة دنيوية في الحياة الأرضية ليس لها أية علاقة بالعظمة في الحياة الأخرى. وإذا كان لا بد من هكذا تعظيم للميت لأسباب اجتماعية أو سياسية أو غيرها، فالصحيح أن يتم العمل به في غير وقت الجنازة وخارج حَرَم الكنيسة.
- ثالثاً، التصرفات التي تهدف إلى تصوير الميت على أنه كان صالحاً أو تقياً... هذا خطأ بدوره لأن الله وحده يعرف ما إذا كان أيُ شخص قد توفي في حالة التوبة والقداسة أم في حالة الخطيئة... ويكون المطلوب هو دائماً الصلاة من أجل الميت، حتى ولو تم التأكد من قداسته في هذه الحياة... إلا في حال تم مستقبلاً إعلان قداسته، من قبل الكنيسة، عندها يصار إلى طلب صلاته وشفاعته.
- رابعاً، التصرفات التي تعبِّر عن القرف من الجثة أو المقابر أو الموت... هذا خطأ لأنه يتعارض مع التعليم المسيحي عن تقديس الجسد من خلال الأسرار الكنسية واستمرار هذه القداسة في الرفات بعد الموت.
- خامساً، العادات والتصرفات التي تهدف إلى إبعاد الموت، كمثل من خلال تمزيق قسم من ورقة النعوة لكي لا تحدث وفيات أخرى في المنطقة، وعدم ذكر الموت أو أحد المتوفين إلا مع عبارات "بعيد الشر" أو "من غير شر" أو "بسلامة قلبك"، وما شابه... كل هذا هو خطأ كليّ لأنه يدخل في خانة الخرافات الشعبية والممارسات السحرية الماورائية المتعارضة مع الدِين. 
- سادساً، عبارات التعزية كمثل "عوَّض اللهُ بسلامتكم" و"لكم من بعده طول البقاء" و"تعيش وتاخد عمره" و"لا أراكم اللهُ مكروهاً" وما شابه... هي خطأ، كونها تصوّر الموتَ على أنه الخسارة الكبرى، وليس على أنه البداية للحياة الخالدة والبهجة مع الله... عبارة التعزية الأصح هي "الله يرحمه"، والتي هي في نفس الوقت بمثابة الصلاة للميت.
     هذه العادات والتصرفات الخاطئة، والتي نجدها في مجتمعات المسيحيين كما في مجتمعات غيرهم، معظم الناس يجدون صعوبة في التحرر منها بسبب الطبيعة البشرية الساقطة. لكن يكون المطلوب هو التنبه إلى عدم المبالغة بها أو الانجرار بلاوعي فيها، وفي نفس الوقت أن يصار إلى التقليل منها إلى أقصى حدّ... وحتى للوصول إلى التغلب على مشاعر الحزن، ولو كان المتوفى هو من أقرب المقربين، وهذا ليس بالأمر المستحيل، وقد وصل إليه الكثير ممن جاهدوا وساروا على درب الإيمان الصحيح  ("لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم" 1 تسالونيكي 4: 13).
     أما من حيث ما يحصل للإنسان فور الوفاة، وبحسب ما هو وارد في نصوص الصلوات (قانون الملاك الحارس) وفي سِيَر القديسين، فإنه من لحظة الوفاة تستطيع روحُ المتوفى أن تبصر الملاكَ الحارس الذي سيحميها ويؤمِّن انتقالها، وقد يأتي مع هذا الملاك ملائكةٌ آخرون وقديسون ليستقبلوا المتوفى ويؤمِّنوا الانتقال السلس والمريح لروحه، وهذا على حسب مدى تقدِّمه في القداسة في حياته الأرضية، وحتى قد يأتي الربُ يسوع المسيح ووالدةُ الإله لاستقباله. وفي أحيان أخرى قد تبتدئ هذه المشاهدات العلوية قبيل الوفاة، فتنفتح الأعين الأرضية للمحتضر ليشاهد كلَّ هذه الإشراقات العلوية.
     ما يعني، أنه بقدر ما يكون المتوفى متقدماً في القداسة، تكون لحظة وفاته جميلة وفرحة. بل إن أجمل لحظة في حياة القديسين هي لحظة الوفاة، حين يتحررون من عبء الجسد وينطلقون إلى ذلك المجد السماوي ("لي اشتهاءٌ أن أنطلق وأكون مع المسيح"، كما يقول بولس الرسول، فيليبي 1: 23).
     واعتماداً، تكون أفضل خدمة تؤدى للمتوفى، هي الصلاة لنفسه، والتي يمكن أن تكون صلاة فردية، كمثل "يا رب ارحم عبدك فلان"، والتي تقال للأحياء وللأموات، ولأبناء جميع الديانات، ويمكن تردادها في أي وقت. لكن الأهم هو أن يتم ذِكر المتوفى في الذبيحة أثناء القداس الإلهي (وهذا يكون خاصاً للمتوفين الأرثوذكسيين)... وبقدر ما تكون هذه الصلوات كثيرة، بقدر ما يكون المتوفى أكثر قرباً من الله، أي أكثر راحة وسعادة وغبطة وقرباً من ذلك المجد الإلهي.





عامر سمعان، باحث وكاتب
13/ 1/ 2017

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق