سنقوم فيما يلي بالردّ على الانتقادات التي توجَّه إلى مسألة تقديس المياه في الكنيسة المسيحية الأرثوذكسية، ثم سنوضح الأبعادَ الروحية
والأخلاقية غير المحدودة لهذه المسألة وفق الرؤية الأرثوذكسية لها، والتي تختلف
جذرياً عن كيفية تعاطي باقي المذاهب الدينية مع مقدساتهم.
تقام خِدَم تقديس المياه، بشكل أساسي، أثناء عيد الظهور الإلهي في السادس من كانون الثاني
داخل الكنائس من قبل الكهنة؛ ويشرب المؤمنون من المياه المقدسة وقد يأخذون منها
إلى منازلهم. ويتم رشّها على البيوت والسيارات والأبنية والمعامل والحقول وغيرها
لمباركتها. كما يمكن للمؤمنين أنفسهم القيام بهذا الرش، والاحتفاظ بها طيلة السنة
في بيوتهم وزيادتها من المياه العادية عند نقصانها... ولا شيء يمنع أن تقام خدمة
تقديس الماء (من قبل الكاهن أو من لديه سر الكهنوت) في أي وقت آخر من السنة، أو
حتى أن تقام في مكان ما خارج الكنيسة في حال دَعَت الحاجة.
هناك انتقادان
أساسيان كانا ولا يزالان يوجَّهان إلى هذه المسألة:
- الانتقاد الأول، أنه إذا أخضعنا هذه الماء المقدسة للفحص
المخبري، فلن يكون هناك أي فرق بينها وبين المياه العادية، وبالتالي تكون مسألة
تقديس المياه مجرد خرافة.
الردّ:
تقديس
الماء، هذا الأمر لا يتحقق من خلال حلول طاقة فيزيائية أو عناصر بيولوجية أو
كيميائية ما، أو أي شيء آخر من العالم المخلوق، في الماء لكي يكون بالإمكان
إخضاعها للفحص المخبري... والصحيح هو أن هذا التقديس، ووفق التعاليم الأرثوذكسية،
يتم من خلال حلول الطبيعة الإلهية بذاتها، أي القوى، أي النعمة الإلهية غير
المخلوقة، في الماء... ومن المنطقي أن هذه القوى الإلهية لا يمكن أن تُخضَع لأي
فحص مخبري أو تكون قابلة للقياس أو المراقبة أو غيره من خلال آلات أو معدات ما
مهما بلغت درجة تطورها.
- الانتقاد الثاني، أن رشّ المياه المقدسة، على البيوت
وغيرها، هو عبارة عن عادة وثنية نجد مثيلاتها أو ما يشبهها في البعض الديانات
الوثنية أو المعتقدات الشعبية الخرافية، وحيث يَهدفُ مَن يمارسونها إلى نَيل البركة
مما يعتبرونه مقدساً ولكي تتحسن أحوالهم في الصحة أو العائلة أو المال أو المهنة
أو علو الشأن أو ردّ المصائب وما شابه.
الردّ:
ليس الهدف من الحياة الدينية في
المسيحية الأرثوذكسية هو التحسن في الأحوال الدنيوية في الصحة والعائلة والمال
والمركز وغيره، بل هو التقدم أو السَير في القداسة التي هي التنقية اللانهائية
للسلوك والتفكير والشعور.
الشرط الأساسي للسَير في
القداسة هو النجاح في تقزيم محبة الذات، أي الأنانية، المتأصلة في النفس البشرية
لصالح نمو المحبة لله وللآخرين. "تحبُّ
الربَّ إلهكَ من كل قلبكَ ومن كل نفسكَ ومن كل فكركَ، هذه هي الوصيةُ الأولى
والعظمى، والثانيةُ مثلها، تحبُّ قريبَكَ كنفسكَ"، متى 22: 37 - 39؛ والقريب
هنا هو أي شخص في العالم مهما كانت فئته أو دِينه أو انتماؤه بناءً على ما ورد في
لوقا 10: 29 - 37.
فيتم هذا الأمر من خلال التآزر
بين النعمة الإلهية غير المخلوقة، التي يحصل عليها المؤمنُ من خلال الاشتراك في
الأسرار الكنسية، أي المعمودية والميرون والمناولة والزيت المقدس والماء المقدسة
وغيرها، وبين إرادة الإنسان. فالقداسة هي الاتحاد بالله، أي المشاركة في المجد
الإلهي الحقيقي، أي "تأله الإنسان بالنعمة الإلهية غير المخلوقة".
وبالرغم من أن النجاح في السَير في القداسة هو الهدف من الحياة
الدينية، لكن، وبالطبع، لا شيء يمنع من أن يطلب المؤمنُ في صلاته ردّ المصائب
وغيرها من تحسين الأحوال الدنيوية، لكن شرط أن تكون مكمِّلةً ومساعدةً لهذا الهدف
الأساسي ("اطلبوا أولاً
ملكوتَ الله وبرَّه وهذه كلها تزادُ لكم"، متى 6: 33). أي أن تتلى بذهنية أن الأمر متروك لإرادة الله الذي سيحسِّن
من الأحوال الدنيوية للإنسان، فقط، في حال كان هذا الأمر مساعداً له في خلاص نفسه،
أي في قداسته... فإرادة الله هي أساساً أن يكون الإنسان مخلَّصاً، لذلك، هو قد
يُبقِي على بعض مصائبه أو خسائره الدنيوية في حال رأى أن هذا الأمر سيساعده في
خلاص نفسه ("الذي يحبُّه الربُّ يؤدِّبُه، ويجلدُ كلَّ ابن يقبَله"،
عبرانيين 12: 6).
بالتالي، وفيما يتعلق بالماء المقدسة،
عندما يتناول منها المؤمنُ فهذا ليس لكي تبتعد عنه الأمراض وتتحسن صحته، بل لكي
تكون مساعدة له في السَير في القداسة. وعندما يرشها في منزله فهذا ليس لكي يصبح
المنزلُ محصناً ضد الكوارث والمصائب، بل لكي يصبح من خلالها السكنُ في المنزل مساعداً
له في السَير في القداسة. وكذلك الأمر عندما يرشها في مكان العمل أو الحقل أو على
أية آلة يستعملها فهذا ليس لكي تزداد أرباحه وأمواله، بل لكي يصبح من خلالها عملُه
في هذه الأماكن أو استخدامُه لهذه الآلة مساعداً له في السَير في القداسة...
وكما تبيَّن مما تقدَّم، أنه
عندما يتعامل المؤمنُ مع المقدسات، كالماء المقدسة والزيت المقدس ومع الماء والخمر
في المناولة في القداس الإلهي ومع المعمودية والميرون وغيره، فليس الهدف هو التحسن
في الأحوال الدنيوية، بل لكي تكون هذه المقدسات مآزرةً له في السَير في القداسة.
والتي هي طريق التواضع والنقاء الداخلي والمحبة لله وللآخرين.
بينما في المقابل، في الديانات
الوثنية أو المعتقدات الشعبية الخرافية، يكون التعامل الإنسان مع ما يُعتبَر
مقدسات هو بهدف التحسن في الأحوال الدنيوية والذي يعني تفوقه في هذا المجال، أي
العظمة الذاتية والانتفاخ والتكبّر...
بالتالي، من الخطأ الكبير وضع
التعامل مع المياه المقدسة، وغيره من المقدسات، في الأرثوذكسية، في نفس الخانة مع
التعامل مع المقدسات في الديانات الوثنية والمعتقدات الشعبية الخرافية.
حول الأبعاد الروحية والأخلاقية
في التعامل مع المياه المقدسة وغيرها من المقدسات في الأرثوذكسية:
المقدسات هي موجودة في جميع
الديانات عبر التاريخ، فليس هناك من ديانة إلا ونجد فيها وسائط مادية تُعتبَر
مقدسة، أي إنها تنقل القداسة أو البركة أو النعمة إلى المؤمنين عندما يقتربون منها
أو يلامسونها أو يقبلونها أو يعلقونها على أعناقهم أو يأكلونها أو يتلونها أو
يؤدونها. هذه المقدسات قد تكون عبارة عن أماكن أو مزارات أو أطعمة أو كتب أو رموز
أو آيات أو تمارين أو غيرها...
من جهة ثانية، في جميع
الديانات عبر التاريخ، ربما باستثناء المسيحية الأرثوذكسية، نجد فيها تركيزاً أو تعظيماً لأمجاد دنيوية يحصل عليها المؤمنون، على أحد
الصعيدين الفردي أو الجماعي، كبركة أو ثواب أو رضا من الإله.
هذا الأمر على الصعيد الجماعي
نجده مثلاً: في اليهودية في قوة وعظمة المجتمع اليهودي عبر إقامة الدولة اليهودية في
فلسطين وتطبيق الشريعة، وفي الإسلام في قوة وعظمة المجتمع المسلم عبر إقامة الدولة
الدينية أو الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة، وفي المسيحية الكاثوليكية في القوة
والعظمة الدنيوية للبابوية وخاصة في استنادها على "عصمة البابا"، وفي بعض مذاهب المسيحية
البروتستانتية (عقيدة الكالفينية) في غنى ونمو المجتمع المسيحي، وفي بعض آخر من
هذه المذاهب البروتستانتية، والمنشقة عنها، (عقيدة الصهيونية المسيحية) في غنى
وتوفيق مجتمعاتهم التي تدعم قيام الدولة الإسرائيلية على أنها تحقيق لإرادة الله، وغيره...
ونجد
هذا الأمر على الصعيد الفردي كمثل: في اليهودية في صحة الفرد وغناه وتوفيقه في
عائلته، وفي الإسلام الصوفي في طموح المؤمن لرؤية الله وتلقي العلم منه ويصبح من
"أنبياء الباطن"، وفي بعض مذاهب المسيحية البروتستانتية (العقيدة
الكالفينية) في غنى الفرد وتوفيقه في أعماله، وفي الديانات الشرقية في ممارسات
اليوغا وما شابهها في طموح المؤمن بالسيطرة على الجسد والحصول على قدرات خارقة
أخرى، وغيره...
لكن في المقابل، في المسيحية
الأرثوذكسية، وكما ذكرنا لا يوجد فيها أي مجد دنيوي، سواء على الصعيدين الفردي أم
الجماعي، كبركة أو ثواب أو رضا من الله. وعلى المؤمن أن لا يطمح بالحصول على شيء
سوى التواضع والنقاء الداخلي الذين يتحققان عبر محبته اللامتناهية لله وللآخرين...
كما عليه أن لا يطمح بالحصول على رؤية النور الإلهي أو أي شكل آخر من القدرات
الخارقة أو المقدرة على صنع العجائب ("لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا بالحري
أن أسماءكم قد كُتبت في السموات"؛ لوقا 10: 20).
وكخلاصة لما تقدَّم، نجد أنه عندما يتعامل
أبناء أيِّ مذهب دِيني مع ما يعتبرونه من مقدساتهم، ومهما كان شكلها، فهم يكونون
طامحين إلى تحقيق أحد أشكال الأمجاد الدنيوية، على أحد الصعيدين الفردي أم
الجماعي؛ ما يعني السَير في طريق العظمة الذاتية
والانتفاخ والتكبّر... بينما في المسيحية الأرثوذكسية، عندما يتعامل المؤمنون مع
المياه المقدسة، أو غيرها من المقدسات، فهم لن يكونوا طامحين سوى السَير في طريق
التواضع والنقاء الداخلي والمحبة...
وهكذا يتبيَّن لنا الأبعاد
الروحية والأخلاقية غير المحدودة والاستثنائية الموجودة في الأرثوذكسية في تعامل
المؤمنين مع المقدسات...
يقول أحد آباء الكنيسة
الأرثوذكسية بما معناه: الأرثوذكسية هي المذهب الدِيني الوحيد في التاريخ الذي
تتجه فيه العبادة بشكل حقيقي نحو الله؛ بينما في أيِّ مذهب دِيني آخر، قد تتجه
العبادة فيه ظاهرياً نحو الله أو الإلهة، في حين أنها فعلياً هي عبادة الذات أو
الأنا.
عامر سمعان، باحث وكاتب
14/ 1/ 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق