كتاب "حول الأزمة اللبنانية ونهاية الزعامة العالمية للولايات المتحدة" هو دراسة في الأنتروبولوجيا المجتمعية؛ هذه الأنتروبولوجيا هي إحدى فروع
السوسيولوجيا، العلم الذي يدرس المجتمعات البشرية، وتمتاز عن باقي فروع هذا
العلم باعتمادها مناهج خاصة بها لدراسة الحياة المجتمعية، خاصة منها المنهج
الوظيفي والمنهج البنيوي.
حول القيمة
العلمية للكتاب فهي تكمن فيما يلي:
أ - إنه يتضمن أربع نظريات جديدة في الأنتروبولوجيا المجتمعية وفق المنهج الوظيفي؛ المقصود بالنظرية هو القانون العام الذي يتناول ويوضِّح أحد جوانب الحياة المجتمعية ويَصلَح لأن يُؤخَذ به في جميع المجتمعات في أي مكان وزمان؛ وهي التالية:
١ - النظرية الأولى تتناول مسألة التحتوعي الجماعي التي
تفسِّر وجود علاقات غير واعية لدى أفراد المجتمع تربط بين ظواهر مختلفة معاشة
بينهم، وبالشكل الذي يجعل الحياة المجتمعية تسير بالشكل الجيد ومحافِظةً على وجود
المجتمع. وقد وردت هذه النظرية في الفصل الأول.
٢ - النظرية الثانية تتناول كيفية استخدام أفراد المجتمع
لعامل الربط بين الدين والقومية، في حال توفره لديهم، في الصراع مع عدو ينتمي إلى
دين آخر؛ وسواء أكان هذا الصراع بهدف الاعتداء عليه أم رد الاعتداءات الحاصلة
عليهم من قبله. وقد أتاحت هذه النظرية تفسير أحد الجوانب المهمة في الأزمة
اللبنانية، وأيضاً فهم كيفية نشأة الردة السلفية في العالمين العربي والإسلامي
منذ ثمانينات القرن الماضي. وقد وردت في الفصل الرابع.
٣ - النظرية الثالثة تتناول الظروف والكيفية التي تجعل
أي مجتمع يسرِّع أو يبطِّئ في التطور، أي في نمو المعرفة المتخصصة واستخدامها في
الاقتصاد الصناعي؛ وقد وردت في الفصل العاشر.
٤ - النظرية الرابعة تتناول الظروف والكيفية التي تجعل
أي مجتمع يحسِّن أو يسيء في ممارسة الديمقراطية؛ والمقصود بالديمقراطية هو تداول
السلطة والمحاسبة لمن هم في السلطة وتساوي المواطنين في الحريات الممنوحة لهم وفي
باقي الحقوق والواجبات. وقد وردت بدورها في الفصل العاشر.
ب - المواضيع التي تتناولها النظريتان الثالثة والرابعة والمتعلقة بالتطور والتخلف
وبالممارسة الجيدة للديمقراطية أو انعدامها، هي من المواضيع البالغة الأهمية والتي
حيَّرت ليس فقط علماء السوسيولوجيا بل أيضاً السياسيين والاقتصاديين والتنمويين
والإعلاميين والبسيكولوجيين والمفكرين وعلماء الدين والتاريخ وغيرهم، الذين حاولوا
الإجابة عن أسئلة كمثل: لماذا مع كل التطور في وسائل الاتصال والمواصلات لا تزال
معظم دول الجنوب تعاني من التخلف ؟ ولماذا لا يزال فيها أميَّة ؟ ولماذا لا يهتم
أبناؤها بشكل كافٍ بالمطالعة والبحث العلمي واستخداماته ؟ ولماذا لا يزال فيها سوء
ممارسة للديمقراطية ؟ ولماذا أصلاً في القرن التاسع عشر وما قبله استطاعت
المجتمعات الأوروبية أن تتطور أسرع بكثير من غيرها ؟
وفي منتصف
القرن العشرين كان معظم هؤلاء الباحثين والمفكرين يظنون أن دول الجنوب ما أن تتحرر
من الاستعمار حتى تتمكن خلال بضع سنوات من ركب التطور وتصبح شبيهة بالمجتمعات
الأوروبية في تطورها وازدهارها... وبالطبع خابت الآمال ومرَّت عشرات السنوات على
دول الجنوب من بعد تحررها من الاستعمار ولا تزال تتخبط في مشاكل التخلف والفقر
وسوء الممارسة الديمقراطية...
وقد حاولوا
تقديم مختلف التفسيرات لأسباب البقاء في هذه المشاكل، فأعادوها إلى سوء إدارة
الحكومات في دول الجنوب أو التوترات الأمنية فيها أو الازدياد السكاني أو
غيرها من العوامل... وبالطبع كان هناك مَن أعادها إلى مؤامرات يقوم بها الأمريكيون
لإبقاء دول الجنوب في التخلف، كما كان هناك مَن أعادها إلى الاختلاف في مستوى
القدرات العقلية بين الأوروبيين وغيرهم من الشعوب...
من جهتنا،
رفضنا بالطبع إعادة أسباب التخلف وسوء الممارسة الديمقراطية إلى مؤامرات خارجية؛
وقدمنا تفسير مختلف عما سبق ويعيد هذه الأمور إلى ظروف معيَّنة؛ وأوضحنا في إطار
علمي كيف تُعاش هذه الظروف ضمن علاقات في الحياة المجتمعية بالشكل الذي يَصلَح
لأن يؤخَذ به في جميع المجتمعات، أي الذي يَصلح لتفسير أسباب تسريعها أو تبطيئها للتطور
وتحسينها أو إساءتها للممارسة الديمقراطية.
فيكون من ضمن ما أثبتناه أن أبناء الجنس البشري
ليسوا موزَّعين ضمن درجات في القدرات العقلية بين مَن يمتلكون الكثير منها ويسيرون
أسرع من غيرهم في التطور والديمقراطية ومَن يمتلكون القليل منها ويسيرون أبطأ من
غيرهم في هذه الأمور؛ بل إن جميع البشر هم في مستوى واحد في هذه القدرات، وإن مدى
سَير مجتمعاتهم في التطور والديمقراطية يعود إلى ظروف معيّنة محيطة بهذه
المجتمعات، وإنه إذا ما تغيَّرت هذه الظروف في المجتمعات التي توصف بالمتخلفة
فستسير بسرعة نحو التطور والديمقراطية، وأيضاً إذا ما تغيَّرت هذه الظروف في
المجتمعات التي توصف بالمتطورة فستسير من جهتها نحو التخلف وسوء الممارسة
الديمقراطية.
ج - إضافة إلى الأربع نظريات الواردة أعلاه، هناك نظرية خامسة تتعلق بما يترتب على
الصراع بين مجتمعَين يكون أحدهما الأكثر قوة وتطوراً ويرفع شعار نقل الازدهار والتطور
إلى الآخر؛ وقد تم التطرق إليها في الفصل التاسع دون مناقشة كافة جوانبها، كونها
تحتاج إلى مساحة كبيرة ولا يمكن اختصارها
ببضع صفحات.
د - من
المهم التنبه إلى أنه في السوسيولوجيا يوجد عدد كبير من النظريات تتناول مختلف
المواضيع في الحياة المجتمعية والتي منها المواضيع الواردة أعلاه. وهذا العدد
الكبير يعود إلى كثرة المدارس والمناهج في هذا العلم. هذه النظريات الكثيرة، من
السهولة اكتشاف مواطن الخطأ أو الضعف فيها، أي اكتشاف عدم صلاحيتها.
من بين المناهج
المعتمَدة في السوسيولوجيا هناك المنهج الأنتروبولوجي الوظيفي ( أي
الأنتروبولوجيا المجتمعية وفق المنهج الوظيفي )،
كما ذكرنا أعلاه، الذي هو الأكثر دقة وصلاحية لدراسة الحياة المجتمعية، كونه
يتناول هذه الحياة على أنها عبارة عن علاقات بين ظواهر معاشة ضمن أنظمة مترابطة،
وليس عبارة عن ظواهر متراكمة أو متوارَثة أو مستورَدة أو مقتبَسة أو على أنها
موجودة بحكم الصدفة أو نتيجة نزوات نفسية أو على أنها فضلات أو غيره... واعتماداً،
فالدراسة التحليلية التي تعتمد هذا المنهج تكون الأكثر صحة ودقة وعمق في فهم
الحالة المراد دراستها؛ كما أن النظريات التي تعتمد هذا المنهج تكون الأكثر صحة ودقة وعمق، وهي، أي هذه النظريات، ليست فقط قليلة في العدد بل أيضاً نادرة
بالنظر إلى صعوبة التوصل إليها وصياغتها. وقد تطرقنا في الفصل الأول من الكتاب
إلى أهمية المنهج الأنتروبولوجي الوظيفي.
حول النظريات
الواردة في هذه الدراسة، لا يكفي القول إنها أكثر دقة وصلاحية من غيرها فقط لكونها
قائمة بحسب المنهج الأنتروبولوجي الوظيفي؛ بل لا بد من القيام بخطوة ضرورية
مكمِّلة، وهي إجراء مقارنة بينها وبين باقي النظريات التي تناولت نفس المواضيع ( أي
التحتوعي الجماعي والربط بين الدين والقومية والتخلف والتطور وحسن أو سوء الممارسة
الديمقراطية... )،
وليس فقط النظريات السوسيولوجية منها بل أيضاً تلك التي تناولت هذه المواضيع
انطلاقاً من العلوم الأخرى كالسياسة والاقتصاد؛ ثم أن تُظهِر هذه المقارنة كيف
أنها أكثر دقة وصلاحية منها.
وبالطبع،
هذه المقارنة تحتاج إلى مساحة كبيرة لم يكن من الممكن أن توضع في نفس الكتاب؛ وسنقوم بها مستقبلاً في مؤلفات أخرى.
ه - إضافة، مما هو وارد في هذا الكتاب ويساهم في إعطائه قيمته العلمية
الاستثنائية:
١ - دراسة تحليلية معمَّقة غير مسبوقة عن الأزمة اللبنانية، تعتمد المنهج
الأنتروبولوجي الوظيفي، وتوضح كيفية انقسام المجتمع اللبناني بين تيارين أساسيين،
وكيف أوجد هذا الانقسامُ الأرضيةَ الخصبة للتوترات الأمنية على مدى عشرات السنوات؛
كما توضح مدى تشعبات وتعقيدات هذه الأزمة وارتباطاتها بعوامل عدة، محلية وعالمية، بدءًا من مسألة
الربط بين الدين والقومية عند الموارنة... وصولاً إلى السياسة العالمية في الشرق
الأوسط.
٢ - دراسة تحليلية معمَّقة غير
مسبوقة عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري وباقي الاغتيالات والتفجيرات التي حصلت في
لبنان والتي يمكن ربطها بهذا الاغتيال وصولاً إلى مسألة تنظيم فتح الإسلام، تتناول
الظروف السياسية والأمنية المحلية والعالمية المحيطة بكل هذه الأحداث، وتوضح كيف
أن الولايات المتحدة هي المستفيد الأول منها والمتهَم الأول. وحيث تستند هذه
الدراسة على المقاربة الأنتروبولوجية الوظيفية والبنيوية لهذا الموضوع.
٣ - دراسة تحليلية معمَّقة غير مسبوقة عما يُعرف
بثورات الربيع العربي، بدءًا مما حصل في تونس ومصر إلى ليبيا ووصولاً إلى سوريا،
توضح العلاقة بين هذه الأحداث والزعامة العالمية للولايات المتحدة وكيف شكَّل
التدخلُ العسكري الغربي في ليبيا حبلَ إنقاذ لهذه الزعامة، وأثر كل ذلك على
الأحداث في سوريا وعلى اللغط الحاصل بمسألة الوزير السابق ميشال سماحة. وحيث
تستند هذه الدراسة بدورها على المقاربة الأنتروبولوجية الوظيفية والبنيوية لهذا
الموضوع.
و - الدراستان عن الأزمة اللبنانية واغتيال الحريري هما اللتان بُنيَ عليهما الحل المقترَح للأزمة اللبنانية الذي من شأنه أن يؤدي إلى بناء الدولة الآمنة والقوية
والمزدهرة؛ وقد تم التطرق إليه في الفصل الثامن من الكتاب.
كما أن الخمس نظريات المذكورة أعلاه، إضافة إلى هذه الثلاث دراسات، هي التي بُنيَت عليها بشكل أساسي الإستراتيجيا المقترَحة التي
من شأنها أن تؤدي إلى إنهاء الزعامة العالمية للولايات المتحدة وإلحاق هزيمة كبرى
بها وفي نفس الوقت تسريع العملية التنموية في معظم دول الجنوب نحو الاستقرار
الأمني والنمو الاقتصادي والتطور وتحسين الممارسة الديمقراطية؛ وقد تم التطرق إليها في الفصل الثاني عشر من هذا الكتاب.
فيكون من
ضمن ما أثبتناه أن السوسيولوجيا وفق المنهج الأنتروبولوجي الوظيفي
بإمكانها أن تقدِّم ليس فقط الفهم المعمَّق للواقع المجتمعي بل أيضاً الخطط
التغييرية حيث باقي العلوم من الممكن أن تبقى مقصِّرة أو عاجزة في هذا المضمار.
ز - بالنظر
إلى كثرة المدارس والمناهج والنظريات في السوسيولوجيا وتضارب نتائجها ببعضها أو
تباعدها عن بعضها، أصبح هناك رأي شائع عند معظم المتخصصين والمهتمين بالعلوم
الاجتماعية والإنسانية والدينية والسياسية والعسكرية ( أي
الآداب والفنون والتاريخ وعلم السكان وعلم الآثار والبسيكولوجيا والتربية والإعلام
والسياسة والإستراتيجيا والعلوم العسكرية والاقتصاد والحقوق وغيرها )
بأن للسوسيولوجيا مكانة ثانوية بين هذه العلوم.
لكن بالنظر
إلى ما هو وارد في هذا الكتاب، أصبح من الواضح أنه في حال اعتماد السوسيولوجيا
للمنهج الأنتروبولوجي الوظيفي يصبح لها مكانة أساسية بين مجمل هذه العلوم الواردة
أعلاه، وأنها تستطيع أن تقدِّم مساهَمةً في أيٍّ منها قد تفوق أهميتها ما تستطيعه
هذه الأخيرة أن تقدِّمه لنفسها؛ لأن جميع هذه العلوم، هي أولاً وأخيراً، تعاش ضمن
مجال واحد والذي هو المجتمع البشري، والسوسيولوجيا هي العلم المؤهَّل أكثر من غيره
لدراسة هذا المجتمع...
ح - أخيراً
نشير إلى أنه بالرغم من المضمون العلمي المعمَّق لما هو وارد في الكتاب إلا أنه قد
تمت كتابته بأسلوب سهل ومبسَّط يجعله في متناول جميع الناس حتى الذين ليس عندهم
أدنى إلمام بالسوسيولوجيا. وذلك، لأنه ليس موجَّهاً فقط إلى المتخصصين بهذا العلم،
بل إن معظم فئات المجتمع من المتخصصين والمهتمين بالعلوم الاجتماعية والإنسانية
والدينية والسياسية والعسكرية... إضافة إلى النشطاء السياسيين، ووصولاً إلى الناس
العاديين... هم معنيين به بشكل أو بآخر.
عامر سمعان ، باحث وكاتب
٢٤/ ١/ ٢٠١٣، وقد تمت إعادة تنقيح هذه المقالة في ١٩/ ٣/ ٢٠١٣ .
٢٤/ ١/ ٢٠١٣، وقد تمت إعادة تنقيح هذه المقالة في ١٩/ ٣/ ٢٠١٣ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق