ما يتضمنه كتابي "حول الأزمة اللبنانية ونهاية الزعامة العالمية للولايات المتحدة" دراسات معمقة وغير مسبوقة في السياسة والإستراتيجيا والتنمية والسوسيولوجيا؛ من بينها: أربع نظريات جديدة في الأنتروبولوجيا المجتمعية، وخطة لحلّ الأزمة في لبنان، وإستراتيجيا تعتمد وسائل المحاربة الإعلامية والسياسية والاقتصادية لهزيمة الولايات المتحدة وإنهاء زعامتها العالمية، والتي سيكون من نتائجها الاستقرار الأمني والنمو الاقتصادي والتطور في العالم العربي ومعظم دول الجنوب.

الخميس، 12 يونيو 2014

الإنسان المتحَيوِن والإنسان المتأنسِن - رؤية أرثوذكسية

 
     الوحوش التي تعيش في الغابات، بالرغم من أنها مخيفة إلا أنها في واقع الأمر حيوانات ضعيفة وجبانة؛ فهي تتوحشَن في مواجهة المخلوقات الأضعف منها، أما عندما تتواجه مع تلك التي هي أقوى في البنية الجسدية أو في كثرة العدد، عندئذ تتهرب من المواجهة وقد تلوذ بالفرار.
     على سبيل المثال، الأسد في حال تواجَه مع أسد أقوى منه فإنه يلوذ بالفرار تاركاً له لبواته وحتى جراءه ليقوم هذا الأخير بقتلهم وليستولد نسلاً خاصاً به من هذه اللبوات؛ أيضاً في حال تواجه الأسدُ مع ثلاثة ضباع أو أكثر فإنه يترك لهم الفريسةَ ويلوذ بالفرار مهما كان جائعاً.
     كل إنسان عند ولادته، يولد تلقائياً في داخله وحشٌ، يجعله طيلة حياته يسعى لأن يستكبر أو يهيمن أو يهين أو يتعدى على باقي الناس الأضعف منه والذين لا تتوفر لهم حماية منه، وفي نفس الوقت يجعله يخاف وينحني ويتذلل ويستظل بمن هم أقوى منه، كأصحاب السلطة والمناصب العليا والثروة والشهرة؛ بما يخدم مسعى دائم منه في رفعة نفسه وتعظيمها. وعندما يصدر عنه محبةٌ لهؤلاء أو أولئك، فتكون محبة أنانية أي نفعية ولمصلحة دنيوية، فهو يحب فقط الذين يستفيد منهم أو من الممكن أن يستفيد منهم إفادة مادية أو غير مادية.
     في حال وصل أي إنسان إلى مرحلة يكون فيها متعاطفاً وخادماً ومتواضعاً أمام مَن هم أضعف منه، وفي نفس الوقت غيرَ خائف أو خانع أمام مَن هم أقوى منه بل مواجِهاً لهم متى ظهر الشرُّ أو الخطأ منهم ومهما بلغوا في رفعة السلطة أو الثروة أو الشهرة؛ عندئذ يكون قد نجح في لجم وتقزيم ذلك الوحش الذي في داخله، أي في التحوّل من إنسان متحَيوِن إلى إنسان متأنسِن.
     يبقى السؤال، هل بإمكان أي إنسان أن يحقق هذا التحوّلَ ؟ أي هل بإمكانه تحقيق تحوّل جذري في شخصيته ليكون، إلى أقصى الحدود، وديعاً ورقيقاً وطيباً نحو مَن هم أضعف منه وفي نفس الوقت جريئاً وشجاعاً في مواجهة عتاة هذا العالم حتى ولو كانوا دولاً عظمى ؟ أي هل بإمكانه أن يسيطر إلى حدود قصوى على نفسيته في إبعاد مشاعر الاستعلاء والهيمنة والاعتداء على مَن هم أضعف منه وفي إبعاد مشاعر الخوف والخنوع والتذلل نحو مَن هم أقوى منه ؟
      في الرؤية المسيحية الأرثوذكسية حول هذا الموضوع: "اخلعوا الإنسانَ العتيق مع أعماله والبسوا الإنسانَ الجديد الذي يتجدد للمعرفة على صورة خالقه حيث ليس يوناني ولا يهودي ولا ختان ولا قَلف ولا بربري ولا إسكيثي، لا عبد ولا حرّ، بل المسيح هو كل شيء وفي الجميع" (كولوسي 3: 9 - 11).   
     اليوناني في هذا النص هو رمز للانتماء إلى مجتمع معروف بامتلاكه الحكمة والعلوم أكثر من غيره، كون هذا الأمر هو ما كان قد اشتهر به اليونانيون قبل وأثناء مجيء المسيح. اليهودي هو رمز للانتماء إلى مجتمع معروف بامتلاكه الإيمان أكثر من غيره أو الإيمان الصحيح، كون اليهود هم الشعب الذي كان قد حافظ على الإيمان بالإله الواحد قبل مجيء المسيح.
     الختان هو شريعة ختان الذكور المعمول بها في الدين اليهودي. وقد حصل أنه من بعد أن اقتبل قسمٌ من اليهود المسيحيةَ عند نشأتها أنهم حافظوا في ذلك الوقت على شريعة الختان وعلى قسم آخر من الشرائع، إلى أن أتى وقت لم تعد هذه الشرائع معمولاً بها في المسيحية... فيكون الختان في هذا النص رمزاً للانتماء إلى فئة همها المحافظة على تقاليد تشير إلى ماضٍ مجيد أو أصول رفيعة لكي تفتخر وتنفخ نفسَها من خلالها ("إن أولئك الذين يرغبون في رضا الناس رغبةً بشرية إنما هم أولئك الذين يلزمونكم الختان... لأن الذين يختتنون لا يحفظون الشريعة، ولكنهم يريدون أن تختتنوا ليُفاخِروا بجسدكم"؛ غلاطية 6: 12 - 13). القَلف هو حالة عدم ختانة الذكور. وقد حصل أنه في نشأت المسيحية أن الذين اقتبلوها من غير اليهود لم يلتزموا بشريعة الختان أو غيرها من الشرائع اليهودية.... فيكون القَلف في هذا النص رمزاً للانتماء إلى فئة ليس عندها تقاليد تشير إلى ماضٍ مجيد أو أصول رفيعة لكي تفتخر وتنفخ نفسَها من خلالها.
     البربري هو رمز للانتماء إلى مجتمع معروف بعدم تحضره. الإسكيثي هو رمز للانتماء إلى مجتمع قوي عسكرياً، كون الإسكيثيين كانوا قوماً عُرِفَ عنهم هذا الأمر وكانوا يعيشون في زمن نشأت المسيحية في المنطقة الممتدة شمال تركيا نحو البحر الأسود.
     بالتالي، يكون المقصود من هذا النص الإنجيلي أن قيمة الإنسان في المسيحية لا تتأتى من انتمائه إلى فئة عُرِف عنها علو المنزلة أو انخفاضها في ناحية أو أخرى، ولا أن يكون مثلاً من ضمن الأحرار أو العبيد، أو من ضمن الأغنياء أو الفقراء، أو من ضمن المثقفين أو الجهال، أو من ضمن الذكور أو الإناث، أو من ضمن الأصحاء أو المرضى، أو من ضمن جميلي الشكل أو قبيحيه، أو غيره... بكلمة أخرى، إن قيمة الإنسان لا تتأتى من مكاسبه الدنيوية، سواء أكان قد حَصَّل هذه المكاسب بفعل انتمائه إلى فئة ما أم بجهده الشخصي أم بالوراثة؛ لأن الفرد عندما يُقيِّم باقي الأفراد بناء على مكاسبهم الدنيوية فإنه سيَضَع مَن قد حصَّلوا منها أقلّ منه في مراتب أدنى من مرتبته، ومَن قد حصَّلوا منها أكثر منه في مراتب أعلى، وليتعامل مع أولئك في تعدي أو هيمنة عليهم ومع هؤلاء في خوف وخنوع وتبعية لهم؛ وما كل هذا إلا بهدف زيادة المكاسب الدنيوية الخاصة به وليتمكَّن من رفع مرتبته وزيادة أتّباعه وتعظيم نفسه؛ أي لكي "يتأله بقواه الذاتية" بحسب التعابير المستخدَمة في اللاهوت الأرثوذكسي.
     بالتالي، تكون قيمة الإنسان في المسيحية هي في انتمائه إلى الجنس البشري كما أصبح في شخص يسوع المسيح الإله - الإنسان.
     فيكون المطلوب من المسيحي في سياق سَعيه للقداسة، أي "التأله بالنعمة غير المخلوقة"، هو أن يتحرر إلى أقصى حدّ من الإنسان العتيق أي من طبيعته البشرية (أي أن يتحرر إلى أقصى حدّ من الوحش الموجود في داخله كما أشرنا أعلاه، أو من الأنانية أو محبة الذات المتأصلة فيه) والتي تجعله يُقيِّم باقي الناس بحسب مكاسبهم الدنيوية وبهدف تعظيم نفسه ورفع مرتبته... وليتّجه عوض ذلك نحو التعامل معهم بمحبة غير أنانية وعلى أنهم جميعاً منتمِين إلى الجنس البشري الذي قد رفَّعه السيدُ المسيح وكرَّمه إلى أقصى الحدود من خلال: التجسد والصلب والقيامة وضمّ الطبيعة البشرية إلى الإلهية في إقنوم الابن ومنح الإنسان النعمة المؤلِّهة؛ ("تحبُّ الربَّ إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك، هذه هي الوصية الأولى والعظمى، والثانية مثلها، تحبُّ قريبَك كنفسك"؛ متى 22: 37 - 39).
     هذه المحبة غير الأنانية، تفترِض، بطبيعة الوضع، تغييراً ليس فقط في السلوك نحو الآخرين ليكون إيجابياً وخيِّراً، بل أيضاً في المشاعر؛ فيكون المطلوب من المؤمِن أن يبقى بحالة يقظة دائمة ومراقبة للأفكار أو المشاعر السيئة لكي يقوم بتقزيمها وإبعادها والتوبة عنها ما أن تخطر بباله، في مسيرة تستمر حتى لآخر لحظات حياته ("من القلب تخرج أفكار شريرة... هذه هي التي تنجّس الإنسان" متى 15: 19 - 20)؛ وبالطبع فإن مشاعر الاستعلاء والهيمنة والاعتداء على مَن هم أضعف ومشاعر الخوف والخنوع والتذلل نحو مَن هم أقوى منه، هي من ضمن هذه المشاعر السيئة.       
     هذا التحوّل، أي خلع الإنسان العتيق، هو ليس بالأمر اليسير، بل هو من المستحيل مبدئياً بحسب علم النفس؛ كون الإنسان لا يستطيع أن يسيطر على مشاعره بما فيها من ضعفات وأهواء ومساوئ وأمراض نفسية. لكن ما يجعل هذا المستحيل من الناحية العلمية أمراً محَققاً ويعطي الإنسانَ قوة غير محدودة للسير في هذا الطريق، طريق القداسة، هو التالي:
1 - حصول الإنسان على النعمة الإلهية والمؤلِّهة وغير المخلوقة، أي حصوله على الطبيعة الإلهية بذاتها ("أنتم شركاء الطبيعة الإلهية"، 2 بطرس 1: 4)، من خلال المعمودية والميرون والمناولة؛ والتي تؤازره في هذه المسيرة. وكذلك، إيمانه بوجود هذه المؤازرة من قبل هذه النعمة.
     أضف إلى ذلك، أن حصول الإنسان على هذه النعمة الإلهية يتطلب منه التواضع في أن لا يَعتبر نفسه مستحقاً لها، أي في أن لا يَعتبر نفسه صالحاً، أو قديساً، أكثر من الآخرين وبغض النظر عن مكاسبهم الدنيوية؛ أي أن لا يستعلي عليهم في مجال الصلاح أو القداسة، بل أن يسير فيه في طريق من التواضع طيلة حياته ("كل مَن يرفع نفسه يتضع ومَن يضع نفسه يرتفع"؛ لوقا 18: 10 - 14).
2 - حياة السيد المسيح على الأرض، التجسد والصلب والقيامة وكل ما حصل معه. فهذه الأحداث هي الدليل على أن البشر أصبحوا مستحقين لنيل النعمة الإلهية غير المخلوقة، بدليل كون المسيح هو إله تام وإنسان تام في نفس الوقت؛ وأيضاً هي بمثابة القدوة الأهم للإنسان في مسيرة القداسة، من حيث الاقتداء بالمحبة غير الأنانية والتواضع والخدمة تجاه الضعفاء ومواجهة الشر وعظماء هذا العالم ونكران الذات وإطاعة الله حتى إلى موت الصليب والتيقّن أن المكسَب الأساسي في القداسة هو في الحياة الأخرى (القيامة) وليس في هذه الحياة وغيره...
3 - وجود أعداد كبيرة من القديسين، الأحياء والأموات، وكذلك من الملائكة؛ الذين يصلون ويتشفعون له عند الله لكي يرحمه ويساعده في مسيرته في القداسة؛ وإيمانه بهذا الأمر.
4 - سِيَر حياة هؤلاء القديسين وكتاباتهم وأقوالهم التي تكون بمثابة القدوة في هذه المسيرة.
5 - الجهاد النسكي، أي كثرة الصلوات والأصوام، التي تساعد كثيراً في تنقية الفكر واليقظة الدائمة وضبط الأهواء.
6 - الاستعداد الدائم للشهادة، أي للاعتراف العلني بالإيمان والتدين المسيحيين، حتى وإن كان المؤمِن سيخسر صداقاته أو شهادته الجامعية أو مصدر رزقه أو منصبه أو صحته أو حريته أو حياته؛ والذي يعطي بدوره قوة كبيرة في هذه المسيرة.
7 - الاشتراك في الخدم الكنسية والليتورجيا في الكنيسة والوعظ والإرشاد والأبوة الروحية وغيره...
     بفعل كل هذه الأمور، يصبح المستحيلُ علمياً أمراً محَققاً ويتم تقزيم الوحش الداخلي. أي السيطرة إلى حدود بعيدة على مشاعر الاستعلاء والهيمنة والاعتداء على مَن هم أضعف وعلى مشاعر الخوف والخنوع والتذلل نحو مَن هم أقوى، ويكون هذا من ضمن محبة غير أنانية ممتدة إلى الجميع ومتلازمة مع ابتعاد عن فكرة أن يَعتبر الإنسان نفسه قديساً أو صالحاً أكثر من غيره. أي يتم تحويل الإنسان المتحَيوِن إلى إنسان متأنسِن يستحق أن يقال عنه "إنساناً متألهاً"، بالنظر إلى هذه التغييرات العظيمة والإيجابية وغير المحدودة في حياته.
     أخيراً، وبالطبع، الكثير من المذاهب الدينية والفلسفية عبر التاريخ دَعَت الإنسانَ إلى أن لا يقيِّم الآخرين بحسب مكاسبهم الدنيوية؛ لكن ما هو المهم ليس الدعوة إلى هذا الأمر بذاتها بل المنظومة الفكرية والروحية والأخلاقية المقدَّمة للإنسان والتي يستطيع الانطلاق منها لتحقيق هذا الأمر... والمنظومة المقدَّمة في هذا الإطار من قبل المذهب المسيحي الأرثوذكسي، أي مجمل البناء الفكري والروحي والأخلاقي له، على ما يبدو أنها الأفضل والأكمل.  
 
 عامر سمعان ، باحث وكاتب
12/ 6/ 2014
 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق