ما يتضمنه كتابي "حول الأزمة اللبنانية ونهاية الزعامة العالمية للولايات المتحدة" دراسات معمقة وغير مسبوقة في السياسة والإستراتيجيا والتنمية والسوسيولوجيا؛ من بينها: أربع نظريات جديدة في الأنتروبولوجيا المجتمعية، وخطة لحلّ الأزمة في لبنان، وإستراتيجيا تعتمد وسائل المحاربة الإعلامية والسياسية والاقتصادية لهزيمة الولايات المتحدة وإنهاء زعامتها العالمية، والتي سيكون من نتائجها الاستقرار الأمني والنمو الاقتصادي والتطور في العالم العربي ومعظم دول الجنوب.

الثلاثاء، 31 يناير 2017

ملاحظة عن خطاب نصر الله

     في خطاب السيد حسن نصر الله أمام الطلاب الجامعيين في التعبئة التربوية في حزب الله في 23/ 12/ 2016 تطرق إلى مسألة التعاطي الإعلامي مع الإرهاب، وشدد على أهمية عدم استعمال عبارات كمثل: "الإرهاب الإسلامي" أو "الإسلام المتطرف" أو "الجماعات الإسلامية الإرهابية أو المتطرفة"، كونها تلصقُ الإرهابَ بدِين الإسلام وتشوهه. ودعا إلى استبدالها بعبارات كمثل: "الجماعات الإرهابية" أو "الجماعات التكفيرية المتطرفة"، أي العبارات التي تنزِّه الإسلام عن الإرهاب الذي يصدر عن بعض المسلمين. كما دعا إلى عدم استخدام العبارات التي تلصق الإرهاب بالديانتين المسيحية واليهودية حين التطرق إلى الأعمال الإرهابية التي تصدر عن بعض اتباعهما.
     ملاحظتنا حول هذا الأمر هي مختلفة.
     الصحيح هو الاستمرار في استخدام عبارات كمثل: "الإرهاب الإسلامي" أو "الإسلام المتطرف" أو "الجماعات الإسلامية الإرهابية أو المتطرفة"، لكن في نفس الوقت أن يتم وضع هذا الإرهاب الدِيني في نطاقه الواقعي والحقيقي أي أن يوضع في نفس الخانة مع الإرهاب الدِيني المسيحي والإرهاب الدِيني اليهودي.
- عن الإرهاب الدِيني المسيحي:
     المقصود بهذا الإرهاب هو المذاهب والحركات في المسيحية الصهيونية، التي تعتبر أن قيام دولة إسرائيل وتقديم مختلف أشكال الدعم لها هو تمهيد للمجيء الثاني للمسيح حيث سيحكم العالمَ كملك أرضي من أورشليم لمدة ألف عام قبل القيامة العامة.
     الخطوط العامة في هذا المعتقَد هي أنه بعد إقامة الدولة الإسرائيلية وعودة اليهود إليها من الشتات، ستتم إعادة بناء هيكل سليمان على الأغلب على أنقاض المسجد الأقصى، ثم ستتعرض إسرائيل لهجوم من قِبَل جيوش ضخمة معادية لها من مسلمين وغيرهم بقيادة ديكتاتور هو من أسوأ الذين عرفهم التاريخ، وستكون ضيقة كبيرة على اليهود. ثم سيتحول 144 ألف يهودي إلى المسيحية. وتكون قمةُ تلك الحروب في معركة نووية كبرى (هَرمَجَدُّون) يُقتَل فيها عشرات الملايين من اليهود وغيرهم، لكن المسيحيين القديسين المخلَّصين سيحميهم المسيح ويرفعهم إلى السماء ليشاهدوا هذه المذبحة النووية بأعينهم. ثم يعودون معه إلى الأرض ليحكمها كمَلك أرضي من أورشليم لمدة ألف عام من السلام والعدل والمحبة. ثم بعد ذلك ستجتمع الجيوش المعادية للمسيح مرة ثانية لمحاصرة أورشليم، وهذه المرة أيضاً سيُهزَمون. ولتكون بعد ذلك القيامة.
     ومن ضمن الصهاينة المسيحيين هناك فئة (أقل في العدد) تذهب إلى أنه بعد قيام إسرائيل سيكون هناك ألف عام من السلام والعدل والمحبة بين البشر بفعل تغيير كبير في الأخلاق. ثم يكون هناك فترة من الشرور الكبيرة في العالم، ثم يأتي المسيح بمجد، أي تكون القيامة. هذه الفئة تُعرَف "بتيار ما بعد الألفية"؛ أما الذين يعتقدون بمجيء المسيح في بداية الألف العام السعيدة، كما هو وارد أعلاه، فيُعرَفون "بتيار ما قبل الألفية".
     وبناءً على هذا المعتقَد بشِقَّيه، ما قبل وما بعد الألفية، يصبح الالتزام بقيام إسرائيل، أي الالتزام بالمساهمة في نشوء هذه الدولة وتأمين الدعم المادي والعسكري والسياسي والإعلامي لاستمرارها، التزاماً دينياً وأخلاقياً... ومن ضمن ما يؤمِن به هؤلاء هو أن الله قد بارك الولايات المتحدة وجعلها أغنى دولة في العالم لأنها تساعد إسرائيل !
     هؤلاء الصهاينة المسيحيون هم فريق من البروتستانت ومن مذاهب أخرى انشقَّت عن البروتستانتية خلال القرن العشرين والقرون الماضية، ويوجدون في الولايات المتحدة وبريطانيا وفي معظم مناطق الانتشار للبروتستانت ولهذه المذاهب في العالم. وهم في الداخل الأمريكي على درجة كبيرة من القوة الإعلامية والسياسية، وأعدادهم بعشرات الملايين. الأمر الذي يوضِّح سبب هيمنتهم على السياسة الأمريكية الخارجية. أي الأمر الذي يوضَّح السببَ الأساسي للدعم الأمريكي الكبير لإسرائيل، وأحد الأسباب الأساسية لبقاء التوترات الأمنية والحروب مشتعلة في الشرق الأوسط.
     معتقَدُ الصهاينة المسيحيين، أي الصهيونية المسيحية، مبنيٌّ أساساً على ما جاء في التوراة وسفر الرؤيا في الإنجيل. أما الفريق الآخر من البروتستانت، كما الكاثوليك والأرثوذكس، أي معظم المسيحيين في العالم، فليس عندهم إطلاقاً هذا المعتقَد؛ ويقدِّمون تفسيرات للنصوص الواردة في هذين الكتابين (والمتعلقة خاصة بالوعد الإلهي لليهود بفلسطين وعودتهم إليها وإعادة بناء الهيكل وأل 144 ألف يهودي ووجودهم على جبل صهيون والحروب في هذه المنطقة وهَرمَجَدُّون ومحاصرة الجيوش لأورشليم والألف عام...) مختلفة عن تلك التي يقدِّمها هؤلاء الصهاينة المسيحيون.
- عن الإرهاب الدِيني اليهودي:   
     المقصود بهذا هم الصهاينة اليهود الأصوليون، الذين يدعمون قيام دولة إسرائيل وفق معتقداتهم الدينية؛ والتي تذهب إلى أن قيام هذه الدولة هو تحقيق لإرادة الله وللوعد الإلهي لهم بها وفق ما جاء في التوراة، وأنها تمهيد لإعادة بناء هيكل سليمان، ولمجيء المسيح الخاص بهم (كونهم لا يؤمنون بالمسيح الذي هو عند المسيحيين ولا بالإنجيل).
     مع التنبه إلى أنه ضمن الشعب اليهودي يوجد الفئات التالية:
أ - الصهاينة اليهود الأصوليون.
ب - الصهاينة اليهود العلمانيون أو القوميون، الذين يدعمون قيام هذه الدولة لاعتبارات غير دينية، كمثل القول بوجود حق تاريخي لهم بأرض فلسطين.ج
ج - اليهود غير الصهاينة، أي المعارضون للصهيونية، وهم الذين يعارضون وجود هذه الدولة ويعتبرونها كياناً مغتصباً.
     وكخلاصة:
     الديمقراطية في المجال الدِيني، تعني حق الإنسان في أن يعبد ما يشاء، وفي نفس الوقت، أن يحترم حريات غيره في أن يعبدوا ما يشاؤون، وأن لا يستخدم دينَه في الاعتداء على حياة الآخرين أو غيرها من حقوقهم، ثم يبرره بالقول: إن الإله الذي يعبده طلب منه أو سمح له بذلك.
     أما الإرهاب في المجال الدِيني، فهو عندما يعتدي الإنسانُ على حياة غيره أو حرياتهم الدينية أو غيرها من حقوقهم، ثم يبرره بالقول: إن الإله الذي يعبده طلب منه أو سمح له بذلك.
    ما يعني أنه عندما يحاول قسمٌ من المسلمين فرضَ الدِين بالقوة أو إقامة الحكم الإسلامي بالقوة أو الاعتداء على المدنيين وما شابه، بحجة أن الله طلب منهم ذلك أو سمح لهم به؛ كل هذا يُسمى إرهاباً دينياً. وعندما يعمل الصهاينة المسيحيون على قيام الكيان الصهيوني المغتصب في أرض فلسطين (التي هي حق لأبنائها من الفلسطينيين)، ويغطون على جرائمه ويقدمون له كل أشكال الدعم، بحجة أن الله طلب منهم ذلك؛ فهذا يُسمى أيضاً إرهاباً دينياً. وعندما يعمل قسم من اليهود على إقامة هذا الكيان المغتصب والتغطية على جرائمه وتقديم كل أشكال الدعم له، بحجة أن الله طلب منهم ذلك؛ فهذا يُسمى أيضاً إرهاباً دينياً... وعندما يحاول قسم من الهندوس أو البوذيين أو الشينتويين أو اتباع أيِّ دِين آخر الاعتداءَ على حياة الآخرين أو غيره من حقوقهم، بحجة أن الإله الذي يعبدونه طلب منهم ذلك أو سمح لهم به؛ فهذا يُسمى أيضاً إرهاباً دينياً...
- عن أهمية هذا الموضوع في الأحداث السورية وأزمة الشرق الأوسط:
     إن سوريا وحلفاءها، وبالرغم من أنهم يربحون عسكرياً في الأحداث السورية، لكنهم كانوا ولا يزالون في موقع الخاسر إعلامياً، وغير قادرين على التأثير على الرأي العام العالمي في تغيير موقفه من هذه الأحداث. ولو عرفوا كيف يربحون هذه الحرب إعلامياً لما كانت قد وصلت الآن إلى ما هي عليه. 
     فيكون المطلوب من سوريا وحلفائها هو إستراتيجيا إعلامية جديدة كلياً على المستويين المحلي والعالمي. الخطوة الأولى في هذه الإستراتيجيا هي في وضع الإرهاب الدِيني في نطاقه الحقيقي، أي وضع الإرهاب الدِيني الإسلامي في نفس الخانة مع الإرهاب الدِيني المسيحي والإرهاب الدِيني اليهودي، كما أوضحنا أعلاه. بهذا، يتم نقل الحرب السورية إلى داخل الولايات المتحدة وإسرائيل نفسيها، أي نقلها إعلامياً، ما سيؤدي إلى تغيير في الرأي العام العالمي في نظرته إلى الولايات المتحدة وإسرائيل لتصبحان دولتين حاضنتين وراعيتين للإرهاب الدِيني المتطرف "الداعشي"، في وجهيه المسيحي واليهودي. الأمر الذي سيكون له تداعياته الملحوظة والمهمة ليس فقط على الأحداث السورية بل أيضاً على أزمة الشرق الأوسط وحتى على مستقبل الزعامة العالمية لأمريكا.



عامر سمعان، باحث وكاتب
31/ 1/ 2017



الأربعاء، 25 يناير 2017

أضواء على رئاسة ترامب

     يسود الرأي في مناطق مختلفة من العالم أن وصول دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة سيشكِّل نقطة تحول في السياسة الخارجية الأمريكية، بالنظر إلى طروحاته المثيرة للجدل التي كانت في فترة السباق لانتخابات الرئاسة. كمثل: إعطاء الأولوية لمحاربة داعش في الشرق الأوسط، منع المسلمين من دخول أمريكا ومراقبة مَن يوجدون منهم في الداخل، طرد الملايين من المهاجرين غير الشرعيين، التشدد في منع دخول المهاجرين غير الشرعيين من أمريكا اللاتينية حتى من خلال بناء جدار على الحدود، التقارب مع الرئيس بوتين، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وغيره...
     سنحاول هنا أن نلقي الضوء على أهم العوامل التي ساهمت في وصل ترامب للرئاسة، وفق مقاربة أنتروبولوجية مجتمعية، وسنظهر كيف أنها مختلفة عن الطروحات الواردة أعلاه وأن وصوله للرئاسة لا يعني أن الطريق أصبحت معبَّدة أمامه لتطبيق هذه الطروحات.
     يوجد عاملان أساسيان قد لعبا الدور الأهم في وصول ترامب للرئاسة.
- العامل الأول، هو أن ترامب رجل أعمال ناجح، وقد استثمر هذه الأمر كصفة أساسية له في انتخابات الرئاسة.
     في جميع المجتمعات، الصغيرة والكبيرة، وفي أيِّ مكان في العالم، يوجد ثقة كبيرة برجل الأعمال الناجح في أن يتولى الشأن السياسي، أي القيادة. حتى ولو كان هكذا شخص قليل التعلّم، أو صاحب فضائح أخلاقية، يبقى له حظ كبير للنجاح في الانتخابات أكانت بلدية أم نيابية أم رئاسية.
     السبب في هذا أن أيَّ مجتمع، أكان صغيراً كالقرية والبلدة أم كبيراً كالدولة، يسعى بشكل بديهي نحو القوة والتفوق على غيره من المجتمعات. فيحتل العاملُ الاقتصادي مكانةً أساسية في هذا السَّعي. فالاقتصاد القوي يمكن استثماره في النهوض في جميع النواحي التنموية والمعيشية والثقافية والتعليمية والبحثية والعسكرية والسياسية وغيرها... وإحدى أفضل الطرق لتحقيق هذا الأمر هي أن يتولى رجل الأعمال الناجح الشأن السياسي، من منطلق أنه كما قد نجح في إدارة أعماله الخاصة وزيادة أمواله يصبح الاحتمالُ كبيراً أن ينجح في إدارة أعمال مجتمعه وزيادة أمواله. وبالطبع، ليس المقصود هنا أن رجال الأعمال الناجح يمكنه التفوق دوماً على جميع المرشحين في أية انتخابات، بل المقصود أن صفة رجل الأعمال الناجح هي أحد العوامل الأساسية التي توصل إلى النجاح في أية انتخابات.
- العامل الثاني، هو أن ترامب كان في منافسة هيلاري كلينتون، أي في منافسة امرأة. 
     أيضاً في جميع المجتمعات، القديمة والحالية والصغيرة والكبيرة، وفي أيِّ مكان في العالم، يوجد ثقة في أن يتولى رجلٌ الشأنَ السياسي أكثر من أن تتولاه امرأة.
     العقلية الذكورية لا تزال هي المهيمنة في جميع المجتمعات في العالم، حتى في أكثر المجتمعات التي تدَّعي أنها متطورة، كالمجتمع الأمريكي، وأنها تعطي النساء كل حقوقهن. والدليل هو واضح، إذا نرى أنه في كل المجتمعات لا يزال مَن يتولون القيادة أو الريادة في المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية والفنية والرياضية والدينية وغيرها، هم بأغلبهم من الرجال... حتى في المجالات النسائية البحتة كالطبخ وتصميم الأزياء النسائية وتصفيف الشعر النسائي، فالمتفوقون فيها هم بأغلبهم من الرجال.
     مع التنبه إلى أنه ليس المقصود هنا أن الرجال هم أكثر قدرة أو كفاءة من النساء، بل المقصود هو وجود عقلية ذكورية (في التحتوعي الجماعي) في جميع المجتمعات تثق بقدرات وكفاءات الرجل وبقيادته، في المجال السياسي وغيره، أكثر من المرأة. وأيضاً ليس المقصود أن المرأة تخسر دوماً في منافسة الرجل في العمل السياسي في أيِّ مجتمع، بل المقصود أن حظوظ الرجل في تولي الشأن السياسي من خلال الانتخابات في أيِّ مجتمع هي بشكل عام أكثر من حظوظ المرأة.
     واعتماداً على ما تقدَّم، لا يمكن تجاهل أن هذين العاملين قد لعبا الدور الأساسي في وصل ترامب للرئاسة، وليس طروحاته المثيرة للجدل في فترة الانتخابات.
    بالطبع يوجد في المجتمع الأمريكي، كما في غيره من المجتمعات الغربية، تخوفٌ من الإرهاب الداعشي، وحتى تخوف من الإسلام بشكل عام، كما يوجد في المجتمع الأمريكي تذمر كبير من المهاجرين غير الشرعيين. لكن مع توفر عاملي صفة رجل الأعمال الناجح وصفة المرشح الرجل في مقابل المرأة عند ترامب، يصبح لهذين العاملين الدور الأساسي في نجاحه.
     يعني لو افترضنا أن منافس ترامب في الانتخابات كان رجلاً ولديه بدوره صفة رجل الأعمال الناجح، عندئذ يصح الجزم أن نجاح ترامب في الرئاسة يعود أساساً إلى طروحاته المثيرة للجدل في فترة الانتخابات؛ وبأنه يوجد تحوّل كبير وجذري في المجتمع الأمريكي فيما يتعلق بالعلاقة مع جميع المسلمين (المعتدلين والمتطرفين) ومع المهاجرين غير الشرعيين.
     وكخلاصة، يصح القول إنه لا يمكن لترامب أن يشطح في اتخاذ قرارات مناهضة لجميع المسلمين وللمهاجرين غير الشرعيين من دون الاصطدام بمعارضة قوية من الداخل الأمريكي، على الأقل على الصعيد الشعبي. 
     أما فيما يتعلق بداعش وبالحرب العالمية التي تجري في سوريا، فأيُّ رئيس للولايات المتحدة، أكان رجلاً أم امرأة، جمهورياً أم ديمقراطياً، أبيض أم أسمر، ومهما كان شكله وفصله، فهو لن يستطيع الخروج من عباءة الصهيونية. ومصلحة الصهيونية، كما مصلحة أمريكا وكل الدول الغربية والعربية والشرق أوسطية التي هي تحت مظلتها، هي في عدم انتهاء الحرب في سوريا وبسط سلطة الدولة على كافة أراضيها؛ لأن هذا الوضع سيؤدي إلى تحول سوريا وحزب الله وإيران إلى قوة عظمى على الساحة الدولية. فتكون المصلحة الصهيونية والأمريكية هي إما في استمرار الحرب السورية إلى ما لا نهاية، وإما في تقسيم سوريا على أساس طائفي وإقامة دولة سنيّة فيها.
     فمهما تحدث ترامب وهوَّل عن أخطار داعش وصوَّره كأنه الشيطان الأكبر، ومهما قال إنه يتفق ومعجب بالرئيس بوتين وبالرئيس الأسد، فلا يمكنه الذهاب في سوريا إلا إلى أحد هذين الخيارين. ما يعني أن الحرب السورية لا تزال طويلة، والاحتمال كبير هو وصولها إلى لبنان.
     وما يعني أنه على محور المقاومة وحليفته الأساسية روسيا اتِّباع إستراتيجيا مختلفة تماماً، على الصعيدين المحلي والعالمي، عن تلك التي كانت متَّبعة منذ بداية الأحداث السورية، في حال أرادوا الوصول إلى السلام والنصر في سوريا.



عامر سمعان، باحث وكاتب
25/ 1/ 2017
   
     
        

الخميس، 19 يناير 2017

المفتي حسون في القداس الإلهي

     أثناء القداس الإلهي في عيد ختانة الرب والقديس باسيليوس في 1/ 1/ 2017، المعروف شعبياً وإعلامياً بعيد رأس السنة الميلادية، في الكاتدرائية المريمية في دمشق، برئاسة البطريرك الأرثوذكسي يوحنا العاشر يازجي؛ كان من بين الحضور مفتي الجمهورية العربية السورية أحمد بدر الدين حسون إضافة إلى بضعة رجال دِين مسلمين آخرين.
     فألقى، المفتي حسون في هذه المناسبة كلمة مما جاء فيها: "في يوم الميلاد سطعت البشارةُ وجعلت الناس يعيشون في سلام"، و"مساجدنا وكنائسنا كانت بيت الرب لكل البشر"، و"سوريا التي شيطنوها في إعلامهم وأرادها اللهُ نوراً في عطائه ومجده"؛ كما قد أشاد بالرئيس الأسد وتحدث عن "نبي السلام يسوع"... يعني تحدث عن السيد المسيح بما يتوافق مع التعاليم الإسلامية عنه على أنه أحد الأنبياء وليس بما يتوافق مع التعاليم المسيحية الأرثوذكسية عنه على أنه الإله المتجسد.
   وبالرغم من أن المفتي حسون معروف عنه حرصه على الوحدة الوطنية ومحبته واحترامه للمسيحيين ولكل مكونات الشعب السوري، إلا أنه من المنطقي أن لا يصدر عنه رأيٌ دِيني عن السيد المسيح يتعارض مع معتقده الإسلامي... أي من الطبيعي أن ما حصل في تلك المناسبة قد شكَّل تعارضاً فادحاً مع التعاليم المسيحية الأرثوذكسية، لا سيما أنه قد تم أثناء مناسبة دينية بحتة وداخل الكنيسة.      
     نأتي الآن إلى جوهر المشكلة:
     المفترَض أن يقتصر حضور الخِدَم الكنسية الأرثوذكسية وخاصة القداس الإلهي على المؤمنين الأرثوذكسيين، وأن لا يحضرها أبناءُ الديانات الأخرى، كالمسلمين واليهود والهندوس والبوذيين وغيرهم، وكذلك الذين ينتمون إلى الهرطقات المسيحية والملحدين.
     والمفترَض، بشكل عام، أن لا يحضر الصلوات الجماعية التي تقام في المعابد، عند أيِّ مذهب دِيني، إلا أبناء هذا المذهب أنفسهم؛ لأن حضورها يَفترِض على الأقل الإيمان والاقتناع بالتعاليم الدينية الخاصة بهذا المذهب. فعندما يسمح أبناءُ أيِّ مذهب دِيني للآخرين أن يحضروا الصلوات في معابدهم، ومن دون أن يكون لديهم الإيمان والاقتناع بتعاليم دِينهم، فهم بذلك يعطون رسالة خاطئة عن هذه التعاليم ويظهرونها أنها مجرد فلكلور أو فن أو شكليات أو مناسبات اجتماعية لا تقدِّم أو تؤخِّر بخصوص علاقة الإنسان بإلهه. 
     بالتالي، يتضح لنا أن أكبر تشويه وإساءة للمسيحية يحصل من قبل المسيحيين أنفسهم، الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت، في مناطق عديدة من العالم عندما يسمحون لأبناء باقي الديانات بحضور الخِدَم الكنسية من دون أي رقيب أو حسيب؛ وكأن هذه الخدم ليست سوى فلكلور أو حفلات أو استعراضات فنية أو مناسبات اجتماعية.
     وفيما يتعلق خاصةً بالمسيحية الأرثوذكسية، تكتسب الخِدَمُ الكنسية فيها أهميةً استثنائية كونها تتضمن نَيل المؤمنين النعمة الإلهية غير المخلوقة من خلال المشاركة بالأسرار الكنسية. يعني المفترَض أن يكون المذهب الأرثوذكسي هو الأكثر تشدداً في العالم على حصر حضور الخِدَم الكنسية بأبناء هذا المذهب أنفسهم.
     فإذا أردنا السَير في النهضة الدينية الصحيحة، لا بد من صدور قرار صريح عن المجمع المقدس الأرثوذكسي يحصر حضور الخِدَم الكنسية (خاصة القداس الإلهي) بالمؤمنين الأرثوذكسيين.
     إلى أن يأتي يومٌ ما في المستقبل يصدر فيه هكذا قرار، وأن يصار إلى تطبيقه من خلال حملة إعلامية فاعلة لتوعية القواعد الشعبية الأرثوذكسية بأهميته؛ التمنّي على الأساقفة والكهنة الأرثوذكسيين الأجلاء الالتزام بما يلي:
1 - عدم تقصُّد الزيادة في ذلك الخطأ المتوارث منذ أمد بعيد والذي يسمح لأبناء باقي الديانات، والهرطقات المسيحية، بحضور الخِدَم الكنسية الأرثوذكسية؛ وذلك من خلال الامتناع عن توجيه دعوات رسمية إلى شخصيات سياسية أو دينية منهم، أو إلى قواعدهم الشعبية، لحضور هذه الخِدَم في الأعياد الرئيسية أو غيرها من المناسبات الدينية.
2 - في حال حصل وحضر شخصياتٌ سياسية أو دينية من مسلمين، أو غيرهم من أبناء باقي الديانات أو من الهرطقات المسيحية، الخِدَمَ الكنسية الأرثوذكسية، وسواء بدعوة أم من دون دعوة؛ فالمفترَض عدم دعوة أيٍّ منهم، مهما علا شأنه سواء أكان رئيس جمهورية أم أميراً أم ملكاً أم سلطاناً أم مفتي الجمهورية أو غيره، لإلقاء كلمة خلال الخدمة الكنسية. لأن هذه الشخصية، ومهما كانت مُحبِّة أو مُقدِّرة للمسيحيين الأرثوذكسيين، فمن الطبيعي أن لا يصدر عنها كلامٌ يتعارض مع تعاليم دِينها حين تطرقها إلى المسيحية الأرثوذكسية.  
3 - في حال حصل هذا الأمر لأيِّ سبب من الأسباب، أي قيام شخصية سياسية أو دينية أو اجتماعية، من غير المسيحيين أو من المذاهب التي تُعتبَر هرطقات مسيحية، بإلقاء كلمة خلال إحدى الخِدَم الكنسية الأرثوذكسية وتم تطرق فيها إلى موضوع دِيني ما بشكل يتعارض مع التعليم الأرثوذكسي عنه (كمثل التحدث عن "النبي يسوع")؛ عندها المفترَض بمن يترأس هذه الخدمة، البطريرك أو الأسقف أو المتقدم في الكهنة، أن يلقي كلمة مباشرة بعد الانتهاء من كلمة تلك الشخصية يوضح فيها التعليم الأرثوذكسي حول هذا الموضوع؛ وأن يكون كلامه كردّ صريح وواضح حرصاً على عدم حصول أي التباس. يعني كمثل أن يقول: "قد تطرق صاحب السيادة (أو الفخامة أو الجلالة أو السماحة أو الفضيلة أو غيره) إلى الموضوع الدِيني الفلاني، ويهمنا هنا، بكل محبة واحترام، أن نوضح التعليم الأرثوذكسي حول هذا الموضوع والذي هو كذا وكذا...".
حول كلمة المفتي حسون في قداس رأس السنة تجدها على:




عامر سمعان، باحث وكاتب
19/ 1/ 2017

السبت، 14 يناير 2017

تقديس المياه في الأرثوذكسية

   سنقوم فيما يلي بالردّ على الانتقادات التي توجَّه إلى مسألة تقديس المياه في الكنيسة المسيحية الأرثوذكسية، ثم سنوضح الأبعادَ الروحية والأخلاقية غير المحدودة لهذه المسألة وفق الرؤية الأرثوذكسية لها، والتي تختلف جذرياً عن كيفية تعاطي باقي المذاهب الدينية مع مقدساتهم.      
     تقام خِدَم تقديس المياه، بشكل أساسي، أثناء عيد الظهور الإلهي في السادس من كانون الثاني داخل الكنائس من قبل الكهنة؛ ويشرب المؤمنون من المياه المقدسة وقد يأخذون منها إلى منازلهم. ويتم رشّها على البيوت والسيارات والأبنية والمعامل والحقول وغيرها لمباركتها. كما يمكن للمؤمنين أنفسهم القيام بهذا الرش، والاحتفاظ بها طيلة السنة في بيوتهم وزيادتها من المياه العادية عند نقصانها... ولا شيء يمنع أن تقام خدمة تقديس الماء (من قبل الكاهن أو من لديه سر الكهنوت) في أي وقت آخر من السنة، أو حتى أن تقام في مكان ما خارج الكنيسة في حال دَعَت الحاجة.
     هناك انتقادان أساسيان كانا ولا يزالان يوجَّهان إلى هذه المسألة:
- الانتقاد الأول، أنه إذا أخضعنا هذه الماء المقدسة للفحص المخبري، فلن يكون هناك أي فرق بينها وبين المياه العادية، وبالتالي تكون مسألة تقديس المياه مجرد خرافة.
الردّ:
     تقديس الماء، هذا الأمر لا يتحقق من خلال حلول طاقة فيزيائية أو عناصر بيولوجية أو كيميائية ما، أو أي شيء آخر من العالم المخلوق، في الماء لكي يكون بالإمكان إخضاعها للفحص المخبري... والصحيح هو أن هذا التقديس، ووفق التعاليم الأرثوذكسية، يتم من خلال حلول الطبيعة الإلهية بذاتها، أي القوى، أي النعمة الإلهية غير المخلوقة، في الماء... ومن المنطقي أن هذه القوى الإلهية لا يمكن أن تُخضَع لأي فحص مخبري أو تكون قابلة للقياس أو المراقبة أو غيره من خلال آلات أو معدات ما مهما بلغت درجة تطورها.   
- الانتقاد الثاني، أن رشّ المياه المقدسة، على البيوت وغيرها، هو عبارة عن عادة وثنية نجد مثيلاتها أو ما يشبهها في البعض الديانات الوثنية أو المعتقدات الشعبية الخرافية، وحيث يَهدفُ مَن يمارسونها إلى نَيل البركة مما يعتبرونه مقدساً ولكي تتحسن أحوالهم في الصحة أو العائلة أو المال أو المهنة أو علو الشأن أو ردّ المصائب وما شابه.
الردّ:
     ليس الهدف من الحياة الدينية في المسيحية الأرثوذكسية هو التحسن في الأحوال الدنيوية في الصحة والعائلة والمال والمركز وغيره، بل هو التقدم أو السَير في القداسة التي هي التنقية اللانهائية للسلوك والتفكير والشعور.
     الشرط الأساسي للسَير في القداسة هو النجاح في تقزيم محبة الذات، أي الأنانية، المتأصلة في النفس البشرية لصالح نمو المحبة لله وللآخرين. "تحبُّ الربَّ إلهكَ من كل قلبكَ ومن كل نفسكَ ومن كل فكركَ، هذه هي الوصيةُ الأولى والعظمى، والثانيةُ مثلها، تحبُّ قريبَكَ كنفسكَ"، متى 22: 37 - 39؛ والقريب هنا هو أي شخص في العالم مهما كانت فئته أو دِينه أو انتماؤه بناءً على ما ورد في لوقا 10: 29 - 37.
     فيتم هذا الأمر من خلال التآزر بين النعمة الإلهية غير المخلوقة، التي يحصل عليها المؤمنُ من خلال الاشتراك في الأسرار الكنسية، أي المعمودية والميرون والمناولة والزيت المقدس والماء المقدسة وغيرها، وبين إرادة الإنسان. فالقداسة هي الاتحاد بالله، أي المشاركة في المجد الإلهي الحقيقي، أي "تأله الإنسان بالنعمة الإلهية غير المخلوقة".
     وبالرغم من أن النجاح في السَير في القداسة هو الهدف من الحياة الدينية، لكن، وبالطبع، لا شيء يمنع من أن يطلب المؤمنُ في صلاته ردّ المصائب وغيرها من تحسين الأحوال الدنيوية، لكن شرط أن تكون مكمِّلةً ومساعدةً لهذا الهدف الأساسي ("اطلبوا أولاً ملكوتَ الله وبرَّه وهذه كلها تزادُ لكم"، متى 6: 33). أي أن تتلى بذهنية أن الأمر متروك لإرادة الله الذي سيحسِّن من الأحوال الدنيوية للإنسان، فقط، في حال كان هذا الأمر مساعداً له في خلاص نفسه، أي في قداسته... فإرادة الله هي أساساً أن يكون الإنسان مخلَّصاً، لذلك، هو قد يُبقِي على بعض مصائبه أو خسائره الدنيوية في حال رأى أن هذا الأمر سيساعده في خلاص نفسه ("الذي يحبُّه الربُّ يؤدِّبُه، ويجلدُ كلَّ ابن يقبَله"، عبرانيين 12: 6).
     بالتالي، وفيما يتعلق بالماء المقدسة، عندما يتناول منها المؤمنُ فهذا ليس لكي تبتعد عنه الأمراض وتتحسن صحته، بل لكي تكون مساعدة له في السَير في القداسة. وعندما يرشها في منزله فهذا ليس لكي يصبح المنزلُ محصناً ضد الكوارث والمصائب، بل لكي يصبح من خلالها السكنُ في المنزل مساعداً له في السَير في القداسة. وكذلك الأمر عندما يرشها في مكان العمل أو الحقل أو على أية آلة يستعملها فهذا ليس لكي تزداد أرباحه وأمواله، بل لكي يصبح من خلالها عملُه في هذه الأماكن أو استخدامُه لهذه الآلة مساعداً له في السَير في القداسة...
     وكما تبيَّن مما تقدَّم، أنه عندما يتعامل المؤمنُ مع المقدسات، كالماء المقدسة والزيت المقدس ومع الماء والخمر في المناولة في القداس الإلهي ومع المعمودية والميرون وغيره، فليس الهدف هو التحسن في الأحوال الدنيوية، بل لكي تكون هذه المقدسات مآزرةً له في السَير في القداسة. والتي هي طريق التواضع والنقاء الداخلي والمحبة لله وللآخرين.
     بينما في المقابل، في الديانات الوثنية أو المعتقدات الشعبية الخرافية، يكون التعامل الإنسان مع ما يُعتبَر مقدسات هو بهدف التحسن في الأحوال الدنيوية والذي يعني تفوقه في هذا المجال، أي العظمة الذاتية والانتفاخ والتكبّر...
     بالتالي، من الخطأ الكبير وضع التعامل مع المياه المقدسة، وغيره من المقدسات، في الأرثوذكسية، في نفس الخانة مع التعامل مع المقدسات في الديانات الوثنية والمعتقدات الشعبية الخرافية.
     حول الأبعاد الروحية والأخلاقية في التعامل مع المياه المقدسة وغيرها من المقدسات في الأرثوذكسية:
     المقدسات هي موجودة في جميع الديانات عبر التاريخ، فليس هناك من ديانة إلا ونجد فيها وسائط مادية تُعتبَر مقدسة، أي إنها تنقل القداسة أو البركة أو النعمة إلى المؤمنين عندما يقتربون منها أو يلامسونها أو يقبلونها أو يعلقونها على أعناقهم أو يأكلونها أو يتلونها أو يؤدونها. هذه المقدسات قد تكون عبارة عن أماكن أو مزارات أو أطعمة أو كتب أو رموز أو آيات أو تمارين أو غيرها...
     من جهة ثانية، في جميع الديانات عبر التاريخ، ربما باستثناء المسيحية الأرثوذكسية، نجد فيها تركيزاً أو تعظيماً لأمجاد دنيوية يحصل عليها المؤمنون، على أحد الصعيدين الفردي أو الجماعي، كبركة أو ثواب أو رضا من الإله.
     هذا الأمر على الصعيد الجماعي نجده مثلاً: في اليهودية في قوة وعظمة المجتمع اليهودي عبر إقامة الدولة اليهودية في فلسطين وتطبيق الشريعة، وفي الإسلام في قوة وعظمة المجتمع المسلم عبر إقامة الدولة الدينية أو الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة، وفي المسيحية الكاثوليكية في القوة والعظمة الدنيوية للبابوية وخاصة في استنادها على "عصمة البابا"، وفي بعض مذاهب المسيحية البروتستانتية (عقيدة الكالفينية) في غنى ونمو المجتمع المسيحي، وفي بعض آخر من هذه المذاهب البروتستانتية، والمنشقة عنها، (عقيدة الصهيونية المسيحية) في غنى وتوفيق مجتمعاتهم التي تدعم قيام الدولة الإسرائيلية على أنها تحقيق لإرادة الله، وغيره...
     ونجد هذا الأمر على الصعيد الفردي كمثل: في اليهودية في صحة الفرد وغناه وتوفيقه في عائلته، وفي الإسلام الصوفي في طموح المؤمن لرؤية الله وتلقي العلم منه ويصبح من "أنبياء الباطن"، وفي بعض مذاهب المسيحية البروتستانتية (العقيدة الكالفينية) في غنى الفرد وتوفيقه في أعماله، وفي الديانات الشرقية في ممارسات اليوغا وما شابهها في طموح المؤمن بالسيطرة على الجسد والحصول على قدرات خارقة أخرى، وغيره...
     لكن في المقابل، في المسيحية الأرثوذكسية، وكما ذكرنا لا يوجد فيها أي مجد دنيوي، سواء على الصعيدين الفردي أم الجماعي، كبركة أو ثواب أو رضا من الله. وعلى المؤمن أن لا يطمح بالحصول على شيء سوى التواضع والنقاء الداخلي الذين يتحققان عبر محبته اللامتناهية لله وللآخرين... كما عليه أن لا يطمح بالحصول على رؤية النور الإلهي أو أي شكل آخر من القدرات الخارقة أو المقدرة على صنع العجائب ("لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا بالحري أن أسماءكم قد كُتبت في السموات"؛ لوقا 10: 20).
     وكخلاصة لما تقدَّم، نجد أنه عندما يتعامل أبناء أيِّ مذهب دِيني مع ما يعتبرونه من مقدساتهم، ومهما كان شكلها، فهم يكونون طامحين إلى تحقيق أحد أشكال الأمجاد الدنيوية، على أحد الصعيدين الفردي أم الجماعي؛ ما يعني السَير في طريق العظمة الذاتية والانتفاخ والتكبّر... بينما في المسيحية الأرثوذكسية، عندما يتعامل المؤمنون مع المياه المقدسة، أو غيرها من المقدسات، فهم لن يكونوا طامحين سوى السَير في طريق التواضع والنقاء الداخلي والمحبة...
     وهكذا يتبيَّن لنا الأبعاد الروحية والأخلاقية غير المحدودة والاستثنائية الموجودة في الأرثوذكسية في تعامل المؤمنين مع المقدسات...
     يقول أحد آباء الكنيسة الأرثوذكسية بما معناه: الأرثوذكسية هي المذهب الدِيني الوحيد في التاريخ الذي تتجه فيه العبادة بشكل حقيقي نحو الله؛ بينما في أيِّ مذهب دِيني آخر، قد تتجه العبادة فيه ظاهرياً نحو الله أو الإلهة، في حين أنها فعلياً هي عبادة الذات أو الأنا.      
  


عامر سمعان، باحث وكاتب
14/ 1/ 2017



الجمعة، 13 يناير 2017

المفهوم المسيحي للموت


في المسيحية الأرثوذكسية، الموت هو انتقال من حياة وقتية قصيرة إلى الحياة الأبدية، هو انتقال من حياة يتم فيها الجهاد في الجسد بهدف التقدم في القداسة إلى حياة الظفر في الحضرة الإلهية والتمتع بالمجد الإلهي، والتي يكون كمالها في اليوم الأخير حين قيامة الأموات بالجسد وعيش المخلصين في الفردوس ("حينئذ يضيء الأبرارُ كالشمس في ملكوت أبيهم" متى 13: 43).
     فيكون أهم تكريم للميت هو الصلاة لأجله، لكي يرحمه الله ويغفر خطاياه ويشمله في تلك الحياة الظافرة والبهِجَة والمشاركة في المجد الإلهي.
     من هنا يمكن تلمس الكثير من العادات والتصرفات الخاطئة التي تحصل في الجنازات أو المتعلقة بالموت:
- أولاً، العادات والتصرفات التي تستجلب الحزن، كمثل لباس الحداد الأسود والتفجّع والنَدب وتعليق رايات الحداد في الأماكن العامة والامتناع عن المشاوير والموسيقى وحتى الامتناع عن حضور الخدم الكنسية وما شابه... فالشعور بالحزن بسبب الوفاة هو أمر طبيعي، لكن أن يتم استجلاب الحزن فهو متعارض مع الرؤية المسيحية التي تعتبر الوفاة فرصةً بهجةً للأبرار للتحرر من عبء هذه الحياة والانتقال إلى غبطة المجد الإلهي.      
- ثانياً، العادات والتصرفات التي تهدف إلى تعظيم الميت، كمثل تعليق الصور الضخمة له وإطلاق المفرقعات والرصاص أثناء الجنازة، وإلقاء الخُطَب والكلمات التي تعظّمه... كل هذا هو خطأ لأن أية عظمة دنيوية في الحياة الأرضية ليس لها أية علاقة بالعظمة في الحياة الأخرى. وإذا كان لا بد من هكذا تعظيم للميت لأسباب اجتماعية أو سياسية أو غيرها، فالصحيح أن يتم العمل به في غير وقت الجنازة وخارج حَرَم الكنيسة.
- ثالثاً، التصرفات التي تهدف إلى تصوير الميت على أنه كان صالحاً أو تقياً... هذا خطأ بدوره لأن الله وحده يعرف ما إذا كان أيُ شخص قد توفي في حالة التوبة والقداسة أم في حالة الخطيئة... ويكون المطلوب هو دائماً الصلاة من أجل الميت، حتى ولو تم التأكد من قداسته في هذه الحياة... إلا في حال تم مستقبلاً إعلان قداسته، من قبل الكنيسة، عندها يصار إلى طلب صلاته وشفاعته.
- رابعاً، التصرفات التي تعبِّر عن القرف من الجثة أو المقابر أو الموت... هذا خطأ لأنه يتعارض مع التعليم المسيحي عن تقديس الجسد من خلال الأسرار الكنسية واستمرار هذه القداسة في الرفات بعد الموت.
- خامساً، العادات والتصرفات التي تهدف إلى إبعاد الموت، كمثل من خلال تمزيق قسم من ورقة النعوة لكي لا تحدث وفيات أخرى في المنطقة، وعدم ذكر الموت أو أحد المتوفين إلا مع عبارات "بعيد الشر" أو "من غير شر" أو "بسلامة قلبك"، وما شابه... كل هذا هو خطأ كليّ لأنه يدخل في خانة الخرافات الشعبية والممارسات السحرية الماورائية المتعارضة مع الدِين. 
- سادساً، عبارات التعزية كمثل "عوَّض اللهُ بسلامتكم" و"لكم من بعده طول البقاء" و"تعيش وتاخد عمره" و"لا أراكم اللهُ مكروهاً" وما شابه... هي خطأ، كونها تصوّر الموتَ على أنه الخسارة الكبرى، وليس على أنه البداية للحياة الخالدة والبهجة مع الله... عبارة التعزية الأصح هي "الله يرحمه"، والتي هي في نفس الوقت بمثابة الصلاة للميت.
     هذه العادات والتصرفات الخاطئة، والتي نجدها في مجتمعات المسيحيين كما في مجتمعات غيرهم، معظم الناس يجدون صعوبة في التحرر منها بسبب الطبيعة البشرية الساقطة. لكن يكون المطلوب هو التنبه إلى عدم المبالغة بها أو الانجرار بلاوعي فيها، وفي نفس الوقت أن يصار إلى التقليل منها إلى أقصى حدّ... وحتى للوصول إلى التغلب على مشاعر الحزن، ولو كان المتوفى هو من أقرب المقربين، وهذا ليس بالأمر المستحيل، وقد وصل إليه الكثير ممن جاهدوا وساروا على درب الإيمان الصحيح  ("لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم" 1 تسالونيكي 4: 13).
     أما من حيث ما يحصل للإنسان فور الوفاة، وبحسب ما هو وارد في نصوص الصلوات (قانون الملاك الحارس) وفي سِيَر القديسين، فإنه من لحظة الوفاة تستطيع روحُ المتوفى أن تبصر الملاكَ الحارس الذي سيحميها ويؤمِّن انتقالها، وقد يأتي مع هذا الملاك ملائكةٌ آخرون وقديسون ليستقبلوا المتوفى ويؤمِّنوا الانتقال السلس والمريح لروحه، وهذا على حسب مدى تقدِّمه في القداسة في حياته الأرضية، وحتى قد يأتي الربُ يسوع المسيح ووالدةُ الإله لاستقباله. وفي أحيان أخرى قد تبتدئ هذه المشاهدات العلوية قبيل الوفاة، فتنفتح الأعين الأرضية للمحتضر ليشاهد كلَّ هذه الإشراقات العلوية.
     ما يعني، أنه بقدر ما يكون المتوفى متقدماً في القداسة، تكون لحظة وفاته جميلة وفرحة. بل إن أجمل لحظة في حياة القديسين هي لحظة الوفاة، حين يتحررون من عبء الجسد وينطلقون إلى ذلك المجد السماوي ("لي اشتهاءٌ أن أنطلق وأكون مع المسيح"، كما يقول بولس الرسول، فيليبي 1: 23).
     واعتماداً، تكون أفضل خدمة تؤدى للمتوفى، هي الصلاة لنفسه، والتي يمكن أن تكون صلاة فردية، كمثل "يا رب ارحم عبدك فلان"، والتي تقال للأحياء وللأموات، ولأبناء جميع الديانات، ويمكن تردادها في أي وقت. لكن الأهم هو أن يتم ذِكر المتوفى في الذبيحة أثناء القداس الإلهي (وهذا يكون خاصاً للمتوفين الأرثوذكسيين)... وبقدر ما تكون هذه الصلوات كثيرة، بقدر ما يكون المتوفى أكثر قرباً من الله، أي أكثر راحة وسعادة وغبطة وقرباً من ذلك المجد الإلهي.





عامر سمعان، باحث وكاتب
13/ 1/ 2017

تقاسيم ناي : لِين (جمال الليونة والانسياب) - عامر سمعان


خطأ تربوي كبير


من أهم الأخطاء التربوية الدارجة في مجتمعنا، أن التلميذ يهدي أستاذه هدايا متنوعة خلال العام الدراسي، سواء أكان هذا في المرحلة الابتدائية أم المتوسطة أم الثانوية أم الجامعية.
     الخطأ في هذه العادة أنه سيتم تقييم موقف التلميذ من أستاذه بناءً على قيامه بإرسال الهدايا أم لا، وعلى قيمة هذه الهدايا... الأمر الذي سيترتب عليه ما يلي:
1 - انجرار التلاميذ في منافسة مع بعضهم لتكون هدايا أيٍّ منهم هي الأفضل.
2 - دخول التلاميذ ذوي الوضع المادي الصعب في دوامة من الإحباط والإحراج لكونهم غير قادرين على إرسال الهدايا القيِّمة.
3 - دخول الأستاذ في دوامة من الحيرة والإرباك من حيث تقييم مواقف التلاميذ نحوه بناء على إرسالهم أو عدم إرسالهم الهدايا، ومن حيث قيمة كل هدية... أي يصبح هذا التقييم بناء على هذا الموضوع وليس على مدى تقدم واجتهاد كل تلميذ في الدراسة ...
     بالتالي، المفترض بإدارة أية مدرسة أو جامعة أن تضع قانوناً صارماً يمنع أيَّ أستاذ من تلقي أية هدية من أيِّ تلميذ عنده خلال السنة الدراسية.


عامر سمعان، باحث وكاتب
13/ 1/ 2017

شعر غزل ( 33 )


قالت، اتصل بي

خذ المبادرة

أنت تعرف أني متعلقة بكَ ، أعشقُكَ

لكن أريدكَ أن تتصل

أن تشعرني بأهميتي

كأني سلطانة بين النساء

متحكمة برقاب الرجال...

اتصالُكَ يجعلُني أسطورة

يَخلُقُني زهرة

تقطُفُها ، تشمُّها ، تعصُرُها

تطوفُ بها على مفاتنِ شفتيكَ وصدركَ

 ...فتُزهِرُ ، متألقةً ، راقصةً ، بين ثنايا قلبكَ


.....................................

بَيتُها قُربَ البَحرِ

قالت لاقِيني بَينَ الصُخور

عِندَ مَضرَبِ المَوجِ وجَمالِ الزَبد

سَأُريكَ مَلِكَةً عَلى الحورِياتِ

تَخطَفُكِ مِن حُصُونِ رُجولِيَتِكَ

وتُريكَ مَملَكَةً مِن بَياضٍ، ورُخامٍ، ولَهوٍ...

.....................................

معركةُ ما بين النهدين

عنيفةٌ ... جميلةٌ ... لذيذة

فيها جنونٌ وحَنان

رقصٌ وعِناق

هجومٌ ودفاع

فيها سحرٌ من آلهتي

يضيِّعُني بين هِضابٍ ووديان...

.....................................

عامر سمعان

شعر غزل ( 32 )


تَجلِسُ في المساء

تُراقِبُ الفراشات

تُراجِعُ الذكريات

أين مَن كان يتغزَّلُ بي

أين مَن كان يُشعِرُني بسحري

يَقتحِمُ حصوني

يُفجِّرُ مشاعري ؟

سيعودُ إليَّ كطفلٍ تائهٍ

يَلعَبُ في عالمي

عنيداً

مشاغباً

كَهِرٍ ، جميلٍ ، لذيذٍ...

.....................................

قلتُ ، ما هي فلسفتُكِ في الحياة ؟

قالت ، لِمَ هذا السؤال ؟

قلتُ ، لأنكِ ملهمتي ومثالي

قالت ، هذا نفاق ، تريدُ جَرِّي إلى أحاديثِ الغرام

قلتُ ، كيفَ عرفتي ؟

قالت ، خَبِرتُكَ من زمان

قلتُ ، إذاً أجيبي

قالت ، أحبُّ فلسفةً تنطِقُها شفتاكَ ، لا أسمَعُها بأذنيَّ ، ولا أفَكِّرُ فيها

بعقلي ، بل أتذوقُها بشفتيَّ ...

.....................................

حاكيتُها

قالت ، ضُيوفٌ أتوني 

قلتُ ، انتظريني

قالت ، سيعاتبونني

ذهبَتْ مسرِعةً...

تَطايرَ شعرُها ...

فاحَ عطرُها ...

عَزَفَ حذاؤها أجملَ مقطوعة ...

لحِقَ بها قلبي ...

تَعلَّقَتَ بها روحي...

طُرتُ معها إلى زُهورٌ وعِناق ...

تذوقنا جمالَ لَمسٍ وقُبلات ...

.....................................

عامر سمعان