ما يتضمنه كتابي "حول الأزمة اللبنانية ونهاية الزعامة العالمية للولايات المتحدة" دراسات معمقة وغير مسبوقة في السياسة والإستراتيجيا والتنمية والسوسيولوجيا؛ من بينها: أربع نظريات جديدة في الأنتروبولوجيا المجتمعية، وخطة لحلّ الأزمة في لبنان، وإستراتيجيا تعتمد وسائل المحاربة الإعلامية والسياسية والاقتصادية لهزيمة الولايات المتحدة وإنهاء زعامتها العالمية، والتي سيكون من نتائجها الاستقرار الأمني والنمو الاقتصادي والتطور في العالم العربي ومعظم دول الجنوب.
السبت، 28 يونيو 2014
من زمن الحكواتي... إلى المونديال
قبل مجيء التلفزيون إلى المجتمع
اللبناني كان هناك مهنة الحكواتي. هذا كان رجلاً يمتهن سرد قصص خيالية أو تاريخية
مصبوبة في قالب خيالي، وموضوعة بشكل يجذب انتباه الناس ويثير حماستهم استناداً
على ما يوجد من قيم البطولة والفروسية والكرم وغيرها المعروفة عند العرب. هذه
القصص هي كمثل "تغريبة بني هلال" و"الزير سالم" و"عنتر
بن شداد" و"علي الزيبق المصري" وغيرها... وكانت "تغريبة بني
هلال" هي الأكثر شهرة وجاذبية وطلباً بينها.
كان الحكواتي يجلس في مكان عام، عادة مقهى، ويسرد كل يوم فصلاً من الرواية؛
ليس بقراءة عادية، بل بتشويق وبنبرة عالية أو منخفضة أو فرحة أو حزينة، بما يتطلبه
المشهد في الراوية وبما يزيد من انجذاب الجمهور وحماسته.
ولما كان أشهر شخصيتين في رواية
تغريبة بني هلال، هما دياب الهلالي المشهور بفروسيته وقوته الجسدية وأبو زيد
الهلالي المشهور بدهائه وحنكته؛ فقد كان الذين يستمعون للحكواتي، ينقسمون بين حزب
مؤيد لدياب وآخر لأبي زيد. وكان يحصل أنه إذا أتى الحكواتي إلى فصل يكون فيه دياب
منتصراً، أو يكون فيه أبو زيد منكسراً أو سجيناً... فإن الحزب المؤيد لدياب يتهلل
فرحاً بالتصفيق والنط والرقص و"التزريك" والتعليم على الحزب الآخر
المؤيد لأبي زيد... والعكس صحيح، بالنسبة إلى هذا الحزب الأخير عندما يكون أبو زيد
منتصراً أو يكون دياب مهزوماً أو سجيناً. وأحياناً كانت تتطور هذه المظاهر إلى
التعارك والتضارب بالأيدي والعصي والكراسي وقد تصل الأمور إلى تحطم بعض محتويات
المقهى أو أن ينال الحكواتي حصة من الضرب. هذا مع العلم أن هذا الجمهور من
المستمعين كان يدرك تماماً أن أحداث الرواية هي إما خيالية وإما مبالغ بها جداً.
وبعد دخول التلفزيون إلى المجتمع
اللبناني كان من الطبيعي أن تندثر مهنة الحكواتي شيئاً فشيئاً، لتحل محلها القصص
والأفلام التلفزيونية. ثم جاءت العولمةُ، وتحوَّلَ العالمُ إلى قرية كبيرة تصل
فيها الأخبارُ إلى كل مكان فيه بفعل وسائل الاتصال المتطورة. ثم أصبحت رياضة كرة
القدم هي الأكثر شعبية على المستوى العالمي، خاصة منها مباراة بطولة العالم، ويساهم
التلفزيون وباقي وسائل الاتصال المتطور في إيصالها إلى كل مكان في العالم.
ولما كان أشهر فريقين في هذه الرياضة هما المنتخَب البرازيل والمنتخَب
الألماني، فقد انقسم قسم كبير من اللبنانيين المتابعين لهذه الرياضة بين حزب مؤيد
للبرازيل وآخر لألمانيا، وبشكل أقل لغيرهما من الفرق.
أي أنه كما كان يتم الانقسام بين مؤيدين لدياب ولأبي زيد، ومن دون وجود أي
رابط بين هؤلاء المؤيدين وهذين الشخصيتين، ومع مظاهر الاحتفال والتشجيع
و"التزريك"... كذلك هو الأمر حالياً، حيث يوجد انقسام بين مؤيدين للفريق
البرازيلي والفريق الألماني، ومن دون وجود أي رابط ثقافي أو قومي أو سياسي أو غيره
بين هؤلاء المؤيدين وهذين الفريقين، ومع كل مظاهر الاحتفال والتشجيع
و"التزريك"... والتي منها رفع الأعلام على البيوت وفي السيارات، وقرع
الطبول والنفخ في المزامير، والمظاهرات في السيارات، وإطلاق المفرقعات والألعاب
النارية...
وبالطبع، يبقى هناك أقلية قليلة من الذين يشجعون أحد الفرق لدواعٍ قومية أو
سياسية أو غيرها، كمثل تشجيع الفريق العربي المشارك لدواعٍ قومية أو الإيراني لدواعٍ
سياسية أو غيره.
أخيراً، وبالطبع، فإن ظاهرة انقسام المستمعين بين مؤيدين لدياب ولأبي زيد،
أو لغيرهما من شخصيات خيالية، في روايات الحكواتي؛لم تكن مقتصرة على المجتمع
اللبناني بل موجودة أيضاً في الكثير من المجتمعات العربية. وكذلك، فإن ظاهرة تشجيع
الفرق المشاركة في المونديال من دون وجود أي رابط ثقافي أو قومي أو سياسي أو غيره
بين المشجعِين وهذه الفرق، هي بدورها ليست مقتصرة على المجتمع اللبناني بل موجودة
أيضاً في الكثير من المجتمعات في العالم.
السبب في عالمية هذه الظاهرة،
ماضياً أم حاضراً، وفي التحليل السوسيولوجي - الأنتروبولوجي، هو إيجاد نماذج،
خيالية أو حقيقية، للبطولة أو النجاح تتيح للفرد من خلال اختيار أحدها من أن يثبت
صحة تفكيره أو علمه، وبما يساهم في تفوقه في مجتمعه؛ وفي نفس الوقت تكون هذه
العملية مساهِمةً في تنشيط وسائل للتسلية في المجتمع مرتبطة بالدورة الاقتصادية
فيه...
الخميس، 19 يونيو 2014
النصر الداعشي - الأمريكي
ما جرى في العراق في 10/ 6، من تقدم مفاجئ وسريع لداعش نحو بغداد واحتلال
الموصل وتكريت، وربط غربي العراق بشرقي سوريا من بغداد إلى حلب، وانهيار مفاجئ
لعشرات الآلاف من القوات العراقية، المجهزين بأفضل الأسلحة، أمام بضعة آلاف من مقاتلي
داعش ومَن معها؛ كل هذا لا يمكن القول عنه إنه مجرد تقدم لقوات أصولية وبالتحالف
مع ثورة شعبية سنية وما تبقى من نظام البعث. المسألة هي أكبر من ذلك بكثير. من
الواضح أن دولاً كبرى داخلة في اللعبة، عبر تقديم كافة التسهيلات لداعش ومَن معها
وعقد صفقات مع مسؤولين كبار عراقيين لتسهيل هذا الاجتياح وإعطاء الأوامر لفرق الجيش
في الموصل بالاستسلام أم التراجع.
لمعرفة من هي هذه الدول الكبرى، القاعدة هي
بسيطة: المستفيد الأول من النتائج يكون المتهَم الأول. ولا يحتاج الأمر إلى كثير
من التفكير لنرى أن النتائج التي ترتبت، أو قد تترتب، على ما قد حصل هي التالية:
1 - تقطيع ما يُعرَف "بالهلال الشيعي" الممتد من إيران إلى
العراق إلى سوريا ولبنان، والحاضن لمحور المقاومة.
2 - التغذية القصوى للخلافات والتوترات الأمنية بين السنة والشيعة في كل
المنطقة.
3 - توريط إيران بتدخل عسكري داخل العراق دفاعاً عن المقدسات الشيعية، ما
سيزيد من العداء والعزلة لها في العالم السني وسيفتح المجال لممارسة ضغوطات عالمية
عليها.
4 - إمداد قوات داعش داخل سوريا بدعم مادي وعسكري كبير من العراق.
5 - إعطاء المعارضة السورية الأصولية، بكافة أطيافها، دعماً معنوياً كبيراً
يعوِّض كل انتكاستها بدءًا من القُصَير ووصولاً إلى حمص والانتخابات السورية؛ أي
ما سيشكل تحفيزاً كبيراً لها في عملياتها العسكرية وجرائمها.
6 - إعطاء هكذا دعم معنوي كبير إلى الرؤوس الحامية والخلايا الأصولية النائمة في لبنان للقيام بتوترات أمنية واعتداءات تستهدف حزب الله والجيش
والتجمعات السكانية للشيعة.
7 - إعطاء هكذا دعم معنوي كبير إلى الإخوان المسلمين في مصر للقيام بتوترات
أمنية واعتداءات تستهدف النظام والمسيحيين.
وبناء عليه، يكون: العراق
وسوريا ذاهبين إلى توترات أمنية كبيرة وطويلة ولا نهائية واحتمال تقسيمهما قد أصبح
وارداً أكثر من أي وقت مضى، والنظام السوري قد خسر ما ربحه سياسياً في الانتخابات
وغيرها وانسداد الأفق أمام أي حلّ في سوريا سواء أكان عسكرياً أم غيره، واحتمال
عودة التوترات الأمنية إلى لبنان واستنزاف حزب الله في الداخل، وأن محور المقاومة
قد أصبح ذاهباً في طريق لا نهائية من التورط في نزاعات مذهبية داخلية أي عدم تمكنه
من التحول إلى قوة كبيرة كما كان متوقعاً له بعد انتهاء الأحداث السورية، وغيره...
وبالنظر إلى كل هذا تكون
الولايات المتحدة هي المستفيد الأول والمتهَم الأول. وبالطبع ليس بالضرورة أن يكون
مسؤولون فيها قد تدخلوا مباشرة في تنفيذ هذه اللعبة، بل يكفي أن يتولى هذا الموضوع
مسؤولون في دول حليفة لها في المنطقة سواء أكانت عربية أم غيرها.
بالتالي، سيكون هناك خياران
أمام الولايات المتحدة، الأول هو عدم التدخل العسكري، الثاني هو التدخل العسكري ضد
داعش في العراق كمثل من خلال القصف الجوي.
في حال عدم تدخلها ستبقى هي
المستفيد الأول بالنظر إلى ما هو وارد أعلاه.
أما في حال تدخلها فستزداد هذه
الاستفادة، كون هذا الأمر سيشكل هزيمةً سياسية كبيرة لمحور المقاومة، بدءًا من إيران
إلى النظام السوري إلى حزب الله وكل حلفائهم، لأن هذا التدخل سيقلل كثيراً مما عندهم
من صفة المقاومة والممانعة وسيظهرهم كحلفاء لها، أي للولايات المتحدة، ومَن معها. ما
سيؤدي إلى: انخفاض في أعداد السوريين الموالين للنظام وكذلك في أعداد الموالين
لحزب الله، في هذه المنطقة وخارجها؛ وإلى ازدياد الانقسام داخل إيران بين
المعارضين والموالين للسياسات الغربية؛ وإلى انخفاض في أعداد الموالين لمحور
المقاومة في كل أنحاء العالم. وكل هذا سيشكل انحداراً ملحوظاً في قوة النظام
السوري التي ترتكز أساساً على الالتفاف الشعبي حوله بصفته النظام العربي المقاوم
والممانع الأول.
في المقابل،
ستتغير صورة داعش لتصبح على أنها هي المقاوم والممانع الأول بوجه إسرائيل وأمريكا
وستقوى شوكتها وسيزداد مؤيدوها من قبل كل الفئات والأطياف الأصولية السنية على
امتداد العالم الإسلامي. بل أن هذه الفئات والأطياف نفسها سوف تكون في ازدياد. أي إن الإسلام الأصولي السني الذي أصبح يطمح بعد التدخل
العسكري الغربي في ليبيا، إلى إقامة أنظمة حكم إسلامية أو برداء إسلامي تكون تحت
مظلة الولايات المتحدة، سوف ينقلب على هذه الدولة بعد تدخلها العسكري ضد داعش
مستفيداً من تقلص صفة المقاومة والممانعة عن سوريا وحلفائها، وليحاول أن يأخذ هذه
الصفة لنفسه وليجذب إليه الكثير من المعارضين للسياسة الأمريكية...
ويمكن القول إنه كلما كان التدخل العسكري الأمريكي كبيراً كانت هذه التغييرات بدورها كبيرة.
ويمكن القول إنه كلما كان التدخل العسكري الأمريكي كبيراً كانت هذه التغييرات بدورها كبيرة.
بكلام أكثر دقة. في حال حصول تدخل
عسكري أمريكي ضد داعش في العراق، فلا يمكن لأحد الجزم كيف سيكون شكل وجه المنطقة
الجديد. لكن استناداً على الظروف السوسيولوجية لنشأة الإسلام السياسي الأصولي المتأمرك،
فالمرجح أن هذا التدخل سيجعل من داعش ومَن معها ينقلبون على الولايات المتحدة
وليحصلوا على صفة المقاوم والممانع الأول، وسيبقون متواجدين بقوة في العراق وسوريا
وغيرهما، وستبقى التوترات الأمنية قائمة في هذين البلدين، وقد تمتد ليس فقط إلى
لبنان بل حتى إلى الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة... وسيكون النظام السوري
وحزب الله وحلفائهما من أكثر المتضررين في هذه الأجواء.
في النهاية، ما قد تحقق من نصر
داعشي - أمريكي في العراق هو أحد الأدلة على ما كنت قد ذكرته في مقالات كثيرة، حول
أن المعارضة السورية المسلحة ما هي إلى بمثابة الذَنَب للولايات المتحدة، وأنه
طالما يتم تحييد هذه الدولة، من قبل محور المقاومة، عن الأحداث السورية؛ فالأمور
ستبقى ذاهبة في سوريا إما إلى مسلسل طويل من التوترات الأمنية وإما إلى سقوط
النظام. فما جرى في العراق هو، باختصار، ليس سوى مناورة جديدة من قبل الولايات
المتحدة لاستعادة زمام المبادرة في سوريا بعد الهزيمة المدوية التي قد مُنيَت
بها في الانتخابات الرئاسية السورية.
أيضاً ما كنت قد ذكرته في هذه المقالات
الكثيرة هو أن الحل الوحيد العملي والمنطقي للأحداث السورية هو الحل العسكري، لكن
بشرط أن يترافق مع توجيه الضربات إلى رأس الأفعى، أي مع العمل بخطة عامة،
إستراتيجيا، تعتمد وسائل المحاربة الإعلامية والسياسية والاقتصادية للولايات
المتحدة. الأمر الذي سيؤدي ليس فقط إلى إنهاء الأحداث السورية وبسط سيادة الدولة
في وقت قصير، بل أيضاً إلى إلحاق هزيمة كبرى بالولايات المتحدة وإنهاء زعامتها
العالمية في المستقبل المنظور.
عامر سمعان ، باحث وكاتب
19/ 6/ 2014
الجمعة، 13 يونيو 2014
الخطأ عند العرب في التعامل مع اليهود
1 - اليهود في جميع أنحاء العالم هم
من ضمن فئتين أساسيتين.
الأولى، هم اليهود الصهاينة
الذين يؤيدون المشروع الصهيوني في هذه المنطقة، الذي يتضمن إقامة الدولة
الإسرائيلية وتوسعها، ويقدمون له مختلف أشكال الدعم. وهم يتوزعون بين اليهود
الصهاينة العلمانيين، أو القوميين، الذين يعتقدون بوجود حق تاريخي لهم بأرض
فلسطين، والأصوليين الذي يعتقدون بوجود حق إلهي لهم بهذه الأرض.
الفئة
الثانية، هم اليهود غير الصهاينة، أي المعارضين للصهيونية، الذين يعارضون المشروع
الصهيوني في هذه المنطقة ويحاربونه بالوسائل المتوفرة لديهم، ويعتبرون الدولة
الإسرائيلية كياناً مغتصباً. وهم يتوزعون بين العلمانيين الذين يعارضون الصهيونية
لدواعٍ إنسانية أو سياسية أو غيرها؛ والأصوليين الذين يعتقدون بأن الله منع على
اليهود إقامة دولة خاصة بهم بسبب خطاياهم (أو غير ذلك من المعتقدات الدينية)، أي
يفسرون النصوص الموجودة في كتبهم الدينية، كالتوراة وغيره، في هذا الاتجاه.
من بين الشخصيات اليهودية المعارضة
للصهيونية والذين كان عندهم نشاط إعلامي أو سياسي مهم وبارز عالمياً في هذا المجال
نذكر: أبراهام السرفاتي (مغربي، مهندس وسياسي)، يول تيتيلبوم (مجري، حاخام)، أرنست ماندل (بلجيكي، سياسي وكاتب ماركسي)، ألمر برغر (أمريكي، حاخام
وكاتب)، إيلان هاليفي (فلسطيني، صحفي وكاتب وسياسي)، جاكوب كوهن (مغربي، كاتب)،
دانيال بن سعيد (فرنسي، فيلسوف)، شحاتة هارون (مصري، يساري)، شيري ولف (أمريكية،
اشتراكية وصحفية ومؤلفة)، كريستوفر هيتشنز (إنجليزي وأمريكي، كاتب وصحفي)، نعيم
جلعادي (أمريكي، كاتب)، نورمان فينكلشتاين (أمريكي، أكاديمي)، نعوم تشومسكي (أمريكي، فيلسوف ولساني ومؤرخ وناقد وناشط سياسي)... واللائحة
تطول (عن ويكيبيديا).
وعلى صعيد
المنظمات، فالمنظمة اليهودية المعارضة للصهيونية الأكثر شهرة وتنظيماً هي
"ناطوري كارتا"، وهي من ضمن التوجه الأصولي.
أما على
صعيد القواعد الشعبية فليس هناك من إحصاءات دقيقة لأعداد اليهود غير الصهاينة لكن
التقديرات تشير إلى أنه من ضمن مجمل عدد اليهود في العالم، والذي هو 13,000,000
موجودون في إسرائيل والولايات المتحدة وغيرهما من الدول، يوجد حوالي 30% منهم أي
4,000,000 معارضين للصهيونية بين علمانيين وأصوليين.
أي إنه في
هذا الزمن الذي يتسابق فيه الملايين من العرب والمسلمين للسلام مع إسرائيل
والتطبيع معها وإقامة أفضل العلاقات معها، بل ولكي يكونوا عملاء وأدوات لها، لا
يزال هناك قسم مهم من اليهود (على صعيد الشخصيات البارزة والمنظمات والقواعد
الشعبية) يرفض الاعتراف بشرعية هذه الدولة ويحاربها بالوسائل المتوفرة لديه؛ بل حتى
أن هناك فئة من هؤلاء يرفض أبناؤها حتى مجرد لمس العملة الإسرائيلية ويعتبرون أن هذا
خطيئة.
2 - الخطأ في تعامل، قسم كبير من، العرب مع اليهود هو في
عدم التمييز بين اليهود الصهاينة واليهود المعادين للصهيونية، فيضعون الجميعَ في
سلة واحدة؛ ويُمارَس هذا الخطأ على المستويات التالية:
أ ) القواعد الشعبية، حيث نجد غالباً في الأحاديث
الشعبية إطلاق تسمية "اليهود" على الصهاينة والإسرائيليين، فيقال:
"احتل اليهود أرض فلسطين، ونريد تحرير فلسطين من اليهود، واليهود أعداؤنا،
واللعنة على اليهود، والموت لليهود، وهؤلاء عملاء اليهود، وهؤلاء يهود الداخل،
إلخ..."؛ في حين أن الصحيح هو أن يقال: "احتل الصهاينة أرض فلسطين، ونريد
تحرير فلسطين من الصهاينة، والصهاينة أعداؤنا، وإسرائيل عدوتنا، والموت لإسرائيل، وما
إلى ذلك...". وأصبحت إحدى أقسى الشتائم أو الإهانات الدارجة في العالم العربي
هي "أنت يهودي".
ب ) كتابات وتصريحات إعلاميين وسياسيين ومثقفين التي
تستخدم بدورها أغلب الأحيان كلمة يهود للدلالة على الصهاينة أو الإسرائيليين... ومما
يأتي في هذا الإطار هو كتابات تحاول إظهار الدين اليهودي على أنه عبارة عن خرافات،
وذلك في محاولة لإلغاء فكرة الحق الإلهي لليهود في أرض فلسطين استناداً على ما جاء
في بعض نصوص الديني اليهودي.
ج ) مواقف بعض الأنظمة العربية التي تغض النظر عن تجاوزات
واعتداءات طالت مواطنيها من اليهود وأملاكهم ودور العبادة لهم، بغض النظر إن كانوا
صهاينة أم لا.
هذا الموقف الذي يصدر من قبل معظم العرب تجاه
اليهود والذي يضع الفئتين الصهاينة وغير الصهاينة في سلة واحدة، هو:
- أولاً، خطأ إنساني كونه يلحق الظلم بقسم ملحوظ من
اليهود الذين هم غير صهاينة.
- ثانياً، خطأ إستراتيجي فاضح لكونه:
أ ) يُظهِر العربَ كناكري المعروف وقصيري النظر لا
يقدرون مَن يتعاطفون مع قضاياهم (بالنظر إلى الخدمات الكبيرة التي قدَّمها أعلامٌ
من اليهود غير الصهاينة للقضايا العربية)، ما يجعل الكثيرَ من الشخصيات أو الفئات
حول العالم تحجِم عن التضامن مع قضاياهم.
ب ) يُظهِر
معاداةً عمياء وغير مبرَّرة من قبل العرب نحو جميع اليهود أي بمن فيهم القسم
الحليف له، ما يخدمُ ويعززُ أحدَ أهم التبريرات لوجود الدولة الإسرائيلية المقدَّم
من قبل الصهاينة، والقائل بوجود ظلم فاضح وغير مبرَّر لحق بالشعب اليهودي عبر
تاريخه من قبل الكثير من الشعوب والحق له بوطن قومي لحمايته.
ج ) لو اتَّبع العربُ نهجَ التمييز بين اليهود الصهاينة
وغير الصهاينة وعرِفوا كيف يوصلون هذا الأمر إعلامياً إلى جميع أنحاء العالم، أي
لو عرفوا كيف يقولون للعالَم: "نحن لا نعادي الإسرائيليين انطلاقاً من معاداة
السامية أي الكره لليهود عامة بل نعادي فقط قسم من اليهود الذين هم صهاينة الذين
اغتصبوا هذه الأرض وارتكبوا الجرائم بحقنا"؛ لكان هذا قد شكَّل انتكاسة بالغة
الأهمية للتبرير الوارد أعلاه عن وجود الدولة الإسرائيلية، أي لكان قد شكَّل هزيمة
معتبَرة للإعلام والسياسة الصهيونية.
3 - إن تصحيح الخطأ الوارد أعلاه يكون من خلال ما يلي:
أ ) أن لا يستخدم الإعلاميون والسياسيون والمثقفون العرب
والمسؤولون في الأحزاب والجمعيات في العالم العربي كلمة اليهود للدلالة على الصهاينة
أو الإسرائيليين؛ ومَن كان منهم قد ارتكب هكذا خطأ سابقاً، في تصريحاته أو
كتاباته، عليه أن يعترف بخطئه ويعلن عن التزامه بعدم العودة إليه. كذلك، أن يقوم
هؤلاء بتنبيه عامة الناس، خاصة عبر التلفزيونات، بضرورة الالتزام بهذا الأمر، أي عدم
استخدام كلمة اليهود للدلالة إلى الصهاينة أو الإسرائيليين، خاصة عندما يتحدثون
أمام الوسائل الإعلامية أو يكتبون عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
من المهم في
هذا الإطار الخطوة المطلوب من الحزب السوري القومي الاجتماعي القيام بها، هذا
الحزب الذي قام بإنجازات مهمة في مناهضة الصهيونية وحالياً هو أحد أهم الحلفاء لحزب
الله والنظام السوري. فالخطأ الأهم الذي كان قد ارتكبه مؤسس وزعيم هذا الحزب،
أنطون سعادة، هو استخدامه لكلمة اليهود للدلالة على الصهاينة. وحالياً لا يزال
المنتمون إلى هذا الحزب يصرّون بدورهم على هذا الاستخدام سواء في نقل عبارات كان
سعادة قد صرّح بها أو كتبها أم في عباراتهم الخاصة عند تطرقهم إلى هذا المجال. المفترَض
بالمسؤولين في هذا الحزب (ولما فيه مصلحته ونمو قوته وأعداد المنتمين إليه) أن
يصدر عنهم بيانٌ صريح يعترف بالخطأ في استخدام كلمة اليهود للدلالة على الصهاينة
ويعلن عن الالتزام بعدم العودة إليه.
ب - حول الكتب والمقالات التي تحاول إظهار الدين اليهودي
على أنه عبارة عن خرافات، فالأفضل أن تتوقف وأن تُسحَب من الأسواق كونها تشكّل
إساءةً إلى اليهود غير الصهاينة الذين لا يفسرون النصوص الدينية اليهودية بما يبرر
قيام الدولة الإسرائيلية.
هكذا نوع من
الكتابات التي تهاجم الدين اليهودي يصح وجودها في العالم العربي عندما يأتي وقت
يصبح فيه متاح لليهود العرب غير الصهاينة أن يردوا بالمثل، أي أن يؤلفوا الكتبَ
والمقالات التي تحاول إظهار الديانتين الإسلامية والمسيحية على أنهما عبارة عن خرافات؛
وذلك في أجواء من الديمقراطية المتقدمة ومن ضمن حق الرد وحرية الفكر والرأي
والمعتقد؛ وبالطبع هكذا أجواء من المستبعَد أن تتحقق في العالم العربي في المستقبل
المنظور.
ج - في الدول العربية التي لا تقيم علاقاتٍ مع إسرائيل،
المطلوب أن يصار احتضان رسمي وشعبي للمواطنين اليهود غير الصهاينة، أي الذين صدر
عنهم رفضٌ تام وواضح للصهيونية، أي التعاون التام والودي معهم في النواحي
الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وفتح المجال أمامهم في الوظائف والمناصب العامة
وإتاحة كافة الحرية الدينية لهم بما فيها بناء معابدهم وصيانة مقابرهم والتعويض
عليهم عن ممتلكاتهم التي تم التعدي عليها. أما عن المواطنين اليهود الصهاينة فيتم
التعامل معهم كمثل أي مواطن آخر، مسلم أو مسيحي، يَثبُت تعاونه أو تأييده للصهاينة.
في الدول
العربية التي تقيم علاقاتٍ مع إسرائيل، المطلوب من الأفراد والجمعيات المناهضين
للصهيونية أن يتعاملوا مع مواطنيهم اليهود غير الصهاينة في احتضان لهم، أي تعاون تام
وودي معهم، كما هو وارد أعلاه. أما بخصوص مواطنيهم من اليهود الصهاينة فالمطلوب
التعامل معهم كمثل التعامل مع باقي مواطنيهم من المسلمين والمسيحيين المتعاونين أو
المؤيدين للصهاينة.
د - أن يصار إلى وضع تشريع يعاقِب كلَّ مَن يستخدم كلمة اليهود
للدلالة على الصهاينة أو الإسرائيليين أو يصدر عنه ما يُعتبَر مهيناً، أي تمييزاً
عنصرياً، بحق مجمل الشعب اليهودي؛ سواء أكان هذا في كتاباته أو تصريحاته عبر
الوسائل الإعلامية.
هـ - القيام بكل هذه الخطوات يجب أن يترافق معه حملات
إعلامية وسياسية في كل أنحاء العالم توضِّح هذا التعامل الأخوي من قبل العرب نحو
اليهود غير الصهاينة، وأن يكون هذا في سياق إظهار أن العداوة لإسرائيل هي فقط
عداوة نحو قسم من اليهود الذين هم الصهاينة والذي قد اعتدوا على حقوق العرب
والفلسطينيين في هذه الأرض وارتكبوا الجرائم بحقهم... الأمر الذي من شأنه أن يشكّل
هزيمةً معتبَرة للمشروع الصهيوني ولكل داعميه، من يهود وغيرهم.
4 - في النهاية لا بد من التطرق إلى خطأ فادح آخر كان
ولا يزال العرب يرتكبونه فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
إسرائيل في
واقع الأمر هي ليست العدو الأساسي للعالم العربي، كما درج العربُ على التعامل معها
منذ وجودها. فاليهود الصهاينة، القوميون منهم والأصوليون، لم يكن بمقدورهم أصلاً أن
يوجدوا هذه الدولة وأن يؤمِّنوا الدعمَ المناسب لاستمرارها وتوسعها. الولايات
المتحدة هي مَن أوجدت هذه الدولة، بالتعاون مع بريطانيا، وهي مَن أمَّنت الدعم المناسب
لاستمرارها وتوسعها.
أي إن
الولايات المتحدة هي رأس الأفعى، أما إسرائيل فهي ليست سوى ذَنَبها. ومن الناحية
الإستراتيجية تصبح هذه الأخيرة بمثابة الجزء منها. أي إن دفاع الأمريكيين عن
إسرائيل هو تماماً كمثل دفاعهم عن أية ولاية أميركية، إن لم يكن أكثر.
السبب
الأساسي لهذا الموقف الأمريكي نحو إسرائيل يعود أولاً إلى السياسة العدائية لإضعاف
العالم العربي والطمع بخيراته؛ وثانياً، وهو الأهم، إلى موقف إيماني - ديني عند
قسم مهم من الشعب الأمريكي يُعرَف بالمسيحيين الصهاينة الذين تُقدَّر أعداهم
بعشرات الملايين (إن لم يكن أكثر) وعندهم معتقَد أصولي - متخلف يَعتبِر أن قيام
دولة إسرائيل، أي تجميع اليهود في أرض فلسطين، هو تحقيق لإرادة الله وتمهيد للمجيء
الثاني للمسيح قبل أن تتحقق القيامة العامة.
المسيحيون الصهاينة
هم فريق من البروتستانت؛ أما القسم الآخر من البروتستانت،
كما الكاثوليك والأرثوذكس، أي معظم المسيحيين في العالم، فليس عندهم إطلاقاً هذا
المعتقَد.
هؤلاء المسيحيون الصهاينة هم على قوة كبيرة، إعلامية وسياسية واقتصادية،
داخل الولايات المتحدة وهم الذين يسيّرون سياستها في هذه المنطقة.
ولما كانت
إستراتيجية توجيه الضربات إلى ذنَب الأفعى وترك رأسها طليقاً هي خاطئة جداً، فيكون
تحييد الولايات المتحدة عن الصراع العربي الإسرائيلي إستراتيجيا خاطئة لن توصل
مطلقاً في المستقبل إلى تحقيق النصر على إسرائيل وإلى السلام في هذه المنطقة.
الخيار
الوحيد أمام العرب للوصول إلى النصر هو في العمل في خطة عامة، إستراتيجيا، تعتمد الوسائل
الإعلامية والسياسية والاقتصادية في محاربة الولايات المتحدة والتي من شأنها أن توصل
في المستقبل المنظور إلى إلحاق هزيمة كبرى بها (وبإسرائيل وبكل الدول الحليفة لهما)
وإنهاء زعامتها العالمية؛ وهذا الأمر ليس بالمستحيل، كون الأمريكيين ليسوا آلهة
لكيلا يستطيع أحد التغلب عليهم.
حول هذه الإستراتيجيا،
والتي من شأنها أيضاً تحقيق السلام في سوريا وإلحاق هزيمة سريعة بالمعارضة السورية
المسلحة وبحلفائها، كداعش في العراق والأخوان في مصر وغيرهم، انظر المدونة www.amersemaan.com
حول أعداد اليهود غير الصهاينة في العالم انظر:
عامر سمعان ، باحث
وكاتب
13/ 6/ 2014
الخميس، 12 يونيو 2014
الإنسان المتحَيوِن والإنسان المتأنسِن - رؤية أرثوذكسية
الوحوش التي تعيش في الغابات، بالرغم من أنها مخيفة إلا أنها في واقع الأمر
حيوانات ضعيفة وجبانة؛ فهي تتوحشَن في مواجهة المخلوقات الأضعف منها، أما عندما
تتواجه مع تلك التي هي أقوى في البنية الجسدية أو في كثرة العدد، عندئذ تتهرب من
المواجهة وقد تلوذ بالفرار.
على سبيل المثال، الأسد في حال
تواجَه مع أسد أقوى منه فإنه يلوذ بالفرار تاركاً له لبواته وحتى جراءه ليقوم هذا
الأخير بقتلهم وليستولد نسلاً خاصاً به من هذه اللبوات؛ أيضاً في حال تواجه الأسدُ
مع ثلاثة ضباع أو أكثر فإنه يترك لهم الفريسةَ ويلوذ بالفرار مهما كان جائعاً.
كل إنسان عند ولادته، يولد
تلقائياً في داخله وحشٌ، يجعله طيلة حياته يسعى لأن يستكبر أو يهيمن أو يهين أو
يتعدى على باقي الناس الأضعف منه والذين لا تتوفر لهم حماية منه، وفي نفس الوقت
يجعله يخاف وينحني ويتذلل ويستظل بمن هم أقوى منه، كأصحاب السلطة والمناصب العليا
والثروة والشهرة؛ بما يخدم مسعى دائم منه في رفعة نفسه وتعظيمها. وعندما يصدر عنه
محبةٌ لهؤلاء أو أولئك، فتكون محبة أنانية أي نفعية ولمصلحة دنيوية، فهو يحب فقط
الذين يستفيد منهم أو من الممكن أن يستفيد منهم إفادة مادية أو غير مادية.
في حال وصل أي إنسان إلى مرحلة
يكون فيها متعاطفاً وخادماً ومتواضعاً أمام مَن هم أضعف منه، وفي نفس الوقت غيرَ
خائف أو خانع أمام مَن هم أقوى منه بل مواجِهاً لهم متى ظهر الشرُّ أو الخطأ منهم
ومهما بلغوا في رفعة السلطة أو الثروة أو الشهرة؛ عندئذ يكون قد نجح في لجم وتقزيم
ذلك الوحش الذي في داخله، أي في التحوّل من إنسان متحَيوِن إلى إنسان متأنسِن.
يبقى السؤال، هل بإمكان أي إنسان أن يحقق هذا
التحوّلَ ؟ أي هل بإمكانه تحقيق تحوّل جذري في شخصيته ليكون، إلى أقصى الحدود،
وديعاً ورقيقاً وطيباً نحو مَن هم أضعف منه وفي نفس الوقت جريئاً وشجاعاً في
مواجهة عتاة هذا العالم حتى ولو كانوا دولاً عظمى ؟ أي هل بإمكانه أن يسيطر إلى
حدود قصوى على نفسيته في إبعاد مشاعر الاستعلاء والهيمنة والاعتداء على مَن هم
أضعف منه وفي إبعاد مشاعر الخوف والخنوع والتذلل نحو مَن هم أقوى منه ؟
في الرؤية المسيحية الأرثوذكسية حول هذا
الموضوع: "اخلعوا الإنسانَ العتيق مع أعماله والبسوا الإنسانَ الجديد الذي
يتجدد للمعرفة على صورة خالقه حيث ليس يوناني ولا يهودي ولا ختان ولا قَلف ولا بربري ولا إسكيثي، لا
عبد ولا حرّ، بل المسيح هو كل شيء وفي الجميع" (كولوسي 3: 9 - 11).
اليوناني في
هذا النص هو رمز للانتماء إلى مجتمع معروف بامتلاكه الحكمة والعلوم أكثر من غيره،
كون هذا الأمر هو ما كان قد اشتهر به اليونانيون قبل وأثناء مجيء المسيح. اليهودي
هو رمز للانتماء إلى مجتمع معروف بامتلاكه الإيمان أكثر من غيره أو الإيمان
الصحيح، كون اليهود هم الشعب الذي كان قد حافظ على الإيمان بالإله الواحد قبل مجيء
المسيح.
الختان هو
شريعة ختان الذكور المعمول بها في الدين اليهودي. وقد حصل أنه من بعد أن اقتبل
قسمٌ من اليهود المسيحيةَ عند نشأتها أنهم حافظوا في ذلك الوقت على شريعة الختان
وعلى قسم آخر من الشرائع، إلى أن أتى وقت لم تعد هذه الشرائع معمولاً بها في
المسيحية... فيكون الختان في هذا النص رمزاً للانتماء إلى فئة همها المحافظة على
تقاليد تشير إلى ماضٍ مجيد أو أصول رفيعة لكي تفتخر وتنفخ نفسَها من خلالها
("إن أولئك الذين يرغبون في رضا الناس رغبةً بشرية إنما هم أولئك الذين
يلزمونكم الختان... لأن الذين يختتنون لا يحفظون الشريعة، ولكنهم يريدون أن
تختتنوا ليُفاخِروا بجسدكم"؛ غلاطية 6: 12 - 13). القَلف هو حالة عدم ختانة
الذكور. وقد حصل أنه في نشأت المسيحية أن الذين اقتبلوها من غير اليهود لم يلتزموا
بشريعة الختان أو غيرها من الشرائع اليهودية.... فيكون القَلف في هذا النص رمزاً
للانتماء إلى فئة ليس عندها تقاليد تشير إلى ماضٍ مجيد أو أصول رفيعة لكي تفتخر
وتنفخ نفسَها من خلالها.
البربري هو
رمز للانتماء إلى مجتمع معروف بعدم تحضره. الإسكيثي هو رمز للانتماء إلى مجتمع قوي
عسكرياً، كون الإسكيثيين كانوا قوماً عُرِفَ عنهم هذا الأمر وكانوا يعيشون في زمن
نشأت المسيحية في المنطقة الممتدة شمال تركيا نحو البحر الأسود.
بالتالي، يكون المقصود من هذا النص الإنجيلي أن
قيمة الإنسان في المسيحية لا تتأتى من انتمائه إلى فئة عُرِف عنها علو المنزلة أو
انخفاضها في ناحية أو أخرى، ولا أن يكون مثلاً من ضمن الأحرار أو العبيد، أو من
ضمن الأغنياء أو الفقراء، أو من ضمن المثقفين أو الجهال، أو من ضمن الذكور أو
الإناث، أو من ضمن الأصحاء أو المرضى، أو من ضمن جميلي الشكل أو قبيحيه، أو
غيره... بكلمة أخرى، إن قيمة الإنسان لا تتأتى من مكاسبه الدنيوية، سواء أكان قد
حَصَّل هذه المكاسب بفعل انتمائه إلى فئة ما أم بجهده الشخصي أم بالوراثة؛ لأن الفرد
عندما يُقيِّم باقي الأفراد بناء على مكاسبهم الدنيوية فإنه سيَضَع مَن قد حصَّلوا
منها أقلّ منه في مراتب أدنى من مرتبته، ومَن قد حصَّلوا منها أكثر منه في مراتب
أعلى، وليتعامل مع أولئك في تعدي أو هيمنة عليهم ومع هؤلاء في خوف وخنوع وتبعية لهم؛
وما كل هذا إلا بهدف زيادة المكاسب الدنيوية الخاصة به وليتمكَّن من رفع مرتبته
وزيادة أتّباعه وتعظيم نفسه؛ أي لكي "يتأله بقواه الذاتية" بحسب
التعابير المستخدَمة في اللاهوت الأرثوذكسي.
بالتالي، تكون
قيمة الإنسان في المسيحية هي في انتمائه إلى الجنس البشري كما أصبح في شخص يسوع
المسيح الإله - الإنسان.
فيكون المطلوب من المسيحي في
سياق سَعيه للقداسة، أي "التأله بالنعمة غير المخلوقة"، هو أن يتحرر إلى
أقصى حدّ من الإنسان العتيق أي من طبيعته البشرية (أي أن يتحرر إلى أقصى حدّ من
الوحش الموجود في داخله كما أشرنا أعلاه، أو من الأنانية أو محبة الذات المتأصلة
فيه) والتي تجعله يُقيِّم باقي الناس بحسب مكاسبهم الدنيوية وبهدف تعظيم نفسه ورفع
مرتبته... وليتّجه عوض ذلك نحو التعامل معهم بمحبة غير أنانية وعلى أنهم جميعاً
منتمِين إلى الجنس البشري الذي قد رفَّعه السيدُ المسيح وكرَّمه إلى أقصى الحدود
من خلال: التجسد والصلب والقيامة وضمّ الطبيعة البشرية إلى الإلهية في إقنوم الابن
ومنح الإنسان النعمة المؤلِّهة؛ ("تحبُّ الربَّ إلهك من كل قلبك ومن كل
نفسك ومن كل فكرك، هذه هي الوصية الأولى والعظمى، والثانية مثلها، تحبُّ قريبَك
كنفسك"؛ متى 22: 37 - 39).
هذه المحبة غير الأنانية،
تفترِض، بطبيعة الوضع، تغييراً ليس فقط في السلوك نحو الآخرين ليكون إيجابياً
وخيِّراً، بل أيضاً في المشاعر؛ فيكون المطلوب من المؤمِن أن يبقى
بحالة يقظة دائمة ومراقبة للأفكار أو المشاعر السيئة لكي يقوم بتقزيمها وإبعادها
والتوبة عنها ما أن تخطر بباله، في
مسيرة تستمر حتى لآخر لحظات حياته ("من القلب تخرج أفكار شريرة... هذه هي
التي تنجّس الإنسان" متى 15: 19 - 20)؛ وبالطبع فإن مشاعر الاستعلاء والهيمنة والاعتداء على مَن هم أضعف ومشاعر الخوف والخنوع والتذلل
نحو مَن هم أقوى منه، هي من ضمن هذه المشاعر
السيئة.
هذا التحوّل، أي خلع الإنسان
العتيق، هو ليس بالأمر اليسير، بل هو من المستحيل مبدئياً بحسب علم النفس؛ كون
الإنسان لا يستطيع أن يسيطر على مشاعره بما فيها من ضعفات وأهواء ومساوئ وأمراض
نفسية. لكن ما يجعل هذا المستحيل من الناحية العلمية أمراً محَققاً ويعطي الإنسانَ
قوة غير محدودة للسير في هذا الطريق، طريق القداسة، هو التالي:
1 - حصول الإنسان على النعمة الإلهية والمؤلِّهة وغير المخلوقة، أي حصوله
على الطبيعة الإلهية بذاتها ("أنتم شركاء الطبيعة الإلهية"، 2 بطرس 1: 4)، من خلال المعمودية والميرون
والمناولة؛ والتي تؤازره في هذه المسيرة. وكذلك، إيمانه بوجود هذه المؤازرة من قبل
هذه النعمة.
أضف إلى ذلك، أن حصول الإنسان
على هذه النعمة الإلهية يتطلب منه التواضع في أن لا يَعتبر نفسه مستحقاً لها، أي
في أن لا يَعتبر نفسه صالحاً، أو قديساً، أكثر من الآخرين وبغض النظر عن مكاسبهم
الدنيوية؛ أي أن لا يستعلي عليهم في مجال الصلاح أو القداسة، بل أن يسير فيه في
طريق من التواضع طيلة حياته ("كل مَن يرفع
نفسه يتضع ومَن يضع نفسه يرتفع"؛ لوقا 18: 10 - 14).
2 - حياة السيد المسيح على الأرض، التجسد والصلب والقيامة وكل ما حصل معه. فهذه الأحداث هي الدليل
على أن البشر أصبحوا مستحقين لنيل النعمة الإلهية غير المخلوقة، بدليل كون المسيح
هو إله تام وإنسان تام في نفس الوقت؛ وأيضاً هي بمثابة القدوة الأهم للإنسان في مسيرة
القداسة، من حيث الاقتداء بالمحبة غير الأنانية والتواضع والخدمة تجاه الضعفاء
ومواجهة الشر وعظماء هذا العالم ونكران الذات وإطاعة الله حتى إلى موت الصليب والتيقّن
أن المكسَب الأساسي في القداسة هو في الحياة الأخرى (القيامة) وليس في هذه الحياة
وغيره...
3 - وجود أعداد كبيرة من القديسين، الأحياء والأموات، وكذلك من الملائكة؛
الذين يصلون ويتشفعون له عند الله لكي يرحمه ويساعده في مسيرته في القداسة؛
وإيمانه بهذا الأمر.
4 - سِيَر حياة هؤلاء القديسين وكتاباتهم وأقوالهم التي تكون بمثابة القدوة
في هذه المسيرة.
5 - الجهاد النسكي، أي كثرة الصلوات والأصوام، التي تساعد كثيراً في تنقية
الفكر واليقظة الدائمة وضبط الأهواء.
6 - الاستعداد الدائم للشهادة، أي للاعتراف العلني بالإيمان
والتدين المسيحيين، حتى وإن كان المؤمِن سيخسر صداقاته أو شهادته الجامعية أو مصدر
رزقه أو منصبه أو صحته أو حريته أو حياته؛ والذي يعطي بدوره قوة كبيرة في هذه
المسيرة.
7 - الاشتراك في الخدم الكنسية والليتورجيا في الكنيسة والوعظ والإرشاد
والأبوة الروحية وغيره...
بفعل كل هذه الأمور، يصبح
المستحيلُ علمياً أمراً محَققاً ويتم تقزيم الوحش الداخلي. أي السيطرة إلى حدود بعيدة على مشاعر الاستعلاء والهيمنة والاعتداء على مَن
هم أضعف وعلى مشاعر الخوف والخنوع والتذلل نحو مَن هم أقوى، ويكون هذا من ضمن محبة
غير أنانية ممتدة إلى الجميع ومتلازمة مع ابتعاد عن فكرة أن يَعتبر الإنسان نفسه قديساً أو
صالحاً أكثر من غيره. أي يتم تحويل الإنسان المتحَيوِن إلى إنسان متأنسِن يستحق أن
يقال عنه "إنساناً متألهاً"، بالنظر إلى هذه التغييرات العظيمة والإيجابية
وغير المحدودة في حياته.
أخيراً، وبالطبع، الكثير من
المذاهب الدينية والفلسفية عبر التاريخ دَعَت الإنسانَ إلى أن لا يقيِّم الآخرين بحسب
مكاسبهم الدنيوية؛ لكن ما هو المهم ليس الدعوة إلى هذا الأمر بذاتها بل المنظومة
الفكرية والروحية والأخلاقية المقدَّمة للإنسان والتي يستطيع الانطلاق منها لتحقيق
هذا الأمر... والمنظومة المقدَّمة في هذا الإطار من قبل المذهب المسيحي
الأرثوذكسي، أي مجمل البناء الفكري والروحي والأخلاقي له، على ما يبدو أنها الأفضل
والأكمل.
12/ 6/ 2014
السبت، 7 يونيو 2014
الهاتف الذكي كبديل عن حقوق المرأة
أصبح
الهاتفُ الذكي الذي يربط بمواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من الإنترنت من أهم
مظاهر الفتاة العصرية، تحرص دائماً على إظهار نفسها حاملةً له بيدها حتى ولو كان
لديها عدة جيوب في لباسها أو حاملةً حقيبة نسائية. فهو الدليل الظاهر للعيان على
أنها فتاة عصرية ومثقفة تتابع من خلاله ليس فقط أعمالها بل أيضاً آخر المستجدات
على الشبكة العنكبوتية وتتواصل من خلاله مع أصحابها ومعجبيها الذين لا يفتؤون
يبدون إعجابهم وملاحظاتهم على أخبارها وصورها... باختصار أصبح حَملُ الهاتف الذكي،
عند الكثيرات من خفيفات العقل، بديلاً مقنِعاً عن المطالبة بحقوق المرأة.
ملاحظة:
خفة العقل هذه ليست حصراً على النساء إذ لا يزال في ازدياد عدد الرجال
الذين يحرصون بدورهم على إظهار أنفسهم حاملين الهاتف الذكي كدليل ظاهر للعيان على
كثرة أعمالهم ومواكبتهم العصر ومتابعتهم آخر المستجدات على الإنترنت وكثرة معجبيهم
والمتابعِين لأخبارهم.
عامر
سمعان ، باحث وكاتب
7/ 6/
2014
الجمعة، 6 يونيو 2014
الذكاء والإبداع
كثيراً ما يتم الخلط بين الذكاء والإبداع، الفرق
بينهما هو التالي:
الذكاء
هو السرعة في حل المشاكل. بينما الإبداع هو الثقة بالنفس والقدرة على التحرر من
المعرفة أو الحلول المتعارف عليها بهدف إيجاد حلول جديدة مختلفة إلى حد كبير عن
تلك القديمة أو المتعارف عليها.
من
الممكن أن يكون الإنسان على مقدار كبير من الذكاء والمقدرة على الحفظ، فيحصِّل
الكثير من الشهادات ويحفظ الكثير من المعارف ويتقن الكثير من اللغات، لكن ليس
بالضرورة أن يكون مبدعاً.
المبدعون،
في مجالات العلوم والفكر والفنون والآداب وغيرها، عادة ما يواجَهون بالرفض
والمحاربة من قبل أبناء مجتمعهم؛ فيوجَّه إليهم النقد كمثل: "أنتم تعارضون ما
قد اتفق عليه كبارنا من العلماء والمفكرين والقادة وغيرهم، أو أنتم تتمردون على ما
درج عليه آباؤنا وأجدادنا".
لذلك،
ميزات الشخصية الإبداعية هي الجرأة والشجاعة وحب المغامرة والقدرة على تحمل الألم
والرفض والسخرية...
المبدعون
هم الأساس في تطور المجتمعات. على المناهج التربوية أن تعرف كيف تكتشف المبدعين
بين التلاميذ وتنمي وتطور إبداعاتهم. وعلى السياسيين ورجال الأعمال والأكاديميين
أن يعرفوا كيف يكتشفون المبدعين بين المواطنين ويستفيدوا من إبداعاتهم.
عامر سمعان، باحث وكاتب
6/ 6/ 2014
الثلاثاء، 3 يونيو 2014
منع الصليب والسماح بالحجاب في إحدى مدارس لبنان
من القرارات التي كانت قد صدرت عن إحدى
المدارس العريقة في لبنان، "مدرسة الشويفات الدولية (SABIS)"،
قرارٌ يتضمن منع الشعارات الدينية في حرمها، كالصليب، ولكن في نفس الوقت يَسمح
بالفروض الدينية، كالحجاب.
في التقييم لهذا القرار؛ صحيح
أن الحجاب هو إحدى الفروض في الإسلام؛ لكن أية فريضة في أي دين عندما تكون جزءًا
من اللباس وظاهراً للعيان تصبح، إضافة إلى كونها فريضةً، شعاراً دينياً، أي رمزاً
دينياً يدلّ على الانتماء الديني عند مَن يرتديه وعلى التزامه الديني، بكل ما
للكلمة من معنى. القول إن الحجاب في الإسلام هو فقط فريضة وليس فريضةً وشعاراً
دينياً في نفس الوقت، هذا، أقل ما يوصف به أنه، استغباء للعقول وضحك على الذقون.
في المنطق التربوي العام، يحق
لأية مدرسة تهدف إلى التربية العلمانية أن تتبِع نهج منع الشعارات الدينية في
حرمها. لكن عندما يشملُ هذا المنعُ شعاراتٍ عند دين معيّن وفي نفس الوقت يتجنبُ
شعاراتٍ أخرى عند دين آخر ظاهرة للعيان تحت حجة أنها فروض دينية، فهذا منطق خاطئ
كلياً. وفي مقاييس الدستور والقوانين اللبنانية فإن هكذا إجراء هو تمييز طائفي
وإثارة للنعرات الطائفية وتعرّض للعيش المشترك، ويحق للدولة اللبنانية إلزام أية
مدرسة تتبِعه بالتوقف عنه.
من المؤسف أن يصدر ذلك القرار (حول منع
الشعارات الدينية والتي من ضمنها الصليب، والسماح بالفروض الدينية والتي من ضمنها
الحجاب) عن "مدرسة الشويفات الدولية" هذا الصرح التربوي العريق في لبنان؛
والتي تأسست في العام 1886 وحالياً عندها فروع في 15 دولة عربية وغير عربية. بالطبع،
من المستبعَد جداً أن يكون الدافع من صدوره هو التمييز الطائفي بين التلاميذ
المسيحيين والمسلمين، بل المرجَّح أنه مراعاة للأذواق الموجودة في الخليج العربي وغيره
من الدول العربية حيث يوجد لهذه المدرسة فروع.
ما كان قد أثار الضجة
الإعلامية حول هذا القرار، هو أن إدارة هذه المدرسة كانت قد مَنعَت التلاميذَ
الموارنة الذين يضعون إشارة الصليب في يوم "إثنين الرماد" في بداية
الصوم من دخول المدرسة في فرعها في فيع - الكورة قبل إزالته. ثم قامت لاحقاً
بالتعميم على أولياء التلاميذ مذكِرةً إياهم بمضمون هذا القرار.
يوم أمس بتاريخ 2/ 6 أثار الإعلامي
طوني خليفة هذا الموضوعَ في برنامجه "للنشر" عبر "تلفزيون الجديد".
المفاجأة كانت أن الإعلامية مريم البسّام، مديرة الأخبار والبرامج السياسية، في
هذا التلفزيون قامت بمداخلة دافعت فيها بشدة عن النهج العلماني عند "مدرسة
الشويفات الدولية" وانتقدت إثارة هذا الموضوع عبر الوسائل الإعلامية، من دون
أن يصدر عنها تنديدٌ واضح لذلك القرار ومطالبةٌ لهذه المدرسة بالتراجع عنه أو
بتعديله. فهذا الموقف، أقل ما يقال عنه، إنه معيب بحق هذه الإعلامية وبحق هذا
التلفزيون الذي كان دائماً يتحفنا بنهجه العلماني وبدفاعه عن العلمانية.
في السياق نفسه، أي إعلامي أو سياسي
أو مثقف أو رجل دين في لبنان كان قد تحدث أو كتب عبر الوسائل الإعلامية مدافِعاً أو مطالباً بالعيش
المشترك أو العلمانية أو الدولة المدنية أو إلغاء الطائفية السياسية أو الزواج
المدني، ثم صدر عنه موافقةٌ، صريحة أم ضمنية، حول هذا القرار؛ فيكون هذا الموقف بدوره
معيباً بحقه.
عامر سمعان ، باحث وكاتب
3/ 6/ 2014
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)