ما يتضمنه كتابي "حول الأزمة اللبنانية ونهاية الزعامة العالمية للولايات المتحدة" دراسات معمقة وغير مسبوقة في السياسة والإستراتيجيا والتنمية والسوسيولوجيا؛ من بينها: أربع نظريات جديدة في الأنتروبولوجيا المجتمعية، وخطة لحلّ الأزمة في لبنان، وإستراتيجيا تعتمد وسائل المحاربة الإعلامية والسياسية والاقتصادية لهزيمة الولايات المتحدة وإنهاء زعامتها العالمية، والتي سيكون من نتائجها الاستقرار الأمني والنمو الاقتصادي والتطور في العالم العربي ومعظم دول الجنوب.

الخميس، 31 يناير 2013

قانون الانتخابات في لبنان وإهانة الطائفة الأرثوذكسية




     سنتطرق اليوم على هذه الصفحة إلى موضوع مطروح بكثرة في هذه الفترة في لبنان ويتعلق بأحد القوانين المقترَحة للانتخابات النيابية، وهو قانون اللقاء الأرثوذكسي. إذ قد قامت إحدى الجمعيات في لبنان المسماة باللقاء الأرثوذكسي باقتراح قانون للانتخابات النيابية يقضي بأن تنتخب كل طائفة نوابَها وفق النظام النسبي حيث يكون كل لبنان دائرة انتخابية واحدة مع مراعاة تمثيل المناطق المعمول به، ومع الإبقاء على المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في عدد النواب. من وجهة نظر المدافعين عن هذا القانون، أنه يشكِّل ضمانة أفضل للمسيحيين عندما ينتخبون وحدهم نوابهم، أي من دون الدور الكبير للناخبين المسلمين في هذا المجال. ومن وجهة نظر المعارضين له أنه بمثابة البداية للفرز الطائفي والتقسيم ويتناقض مع ميثاق العيش المشترك.      
     سنبحث في هذا القانون من زاويتين: الأولى، هي التعاطي الإعلامي معه في الأسابيع الماضية، وسنوضِّح كيف أن هذا التعاطي الإعلامي قد شكَّل تمييزاً فئوياً بحق الطائفة الأرثوذكسية في لبنان وإهانة لها؛ الثانية، هي مدى موافقة أو معارضة هذا القانون مع الوضع في لبنان.

أولاً، لجهة التعاطي الإعلامي مع قانون اللقاء الأرثوذكسي.

١ - المشكلة الأساسية في هذا التعاطي الإعلامي التي ظهرت في الأسابيع الماضية هي أن قسماً كبيراً من الإعلاميين والسياسيين في لبنان، ومن مختلف الانتماءات، كانوا يستخدمون بكثرة عبارة القانون الأرثوذكسي للدلالة على قانون اللقاء الأرثوذكسي. الفرق كبير بين العبارتين. عبارة قانون اللقاء الأرثوذكسي تعني أن الجمعية المسماة باللقاء الأرثوذكسي هي مَن اقترحت هذا القانون وقدَّمته وتتبناه؛ بينما عبارة القانون الأرثوذكسي تعني أن الطائفة الأرثوذكسية هي وحدها، من بين جميع الطوائف في لبنان، التي معظم أبنائها يوافقون على اقتراح هذا القانون المقدَّم من هذه الجمعية وعلى أن يتبنّوه، أي إنه يتوافق مع توجههم وأنهم مستعدون لتقديم كل مساعدة ممكنة في مختلف مجالات العمل الإعلامي والسياسي للوصول إلى إقراره؛ وتعني أيضاً أن أعضاء جمعية اللقاء الأرثوذكسي قد تأثروا وتشجعوا بهذا التوجّه، الموجود فقط عند معظم أبناء الطائفة الأرثوذكسية دون غيرها من الطوائف، ليقوموا باقتراح هذا القانون.
     بالطبع، من حق أية مجموعة أشخاص في لبنان، سواء أكانوا ينتسبون إلى طائفة واحدة أم عدة طوائف، أن يؤلفوا الجمعية التي يريدون وأن يطلقوا عليها التسمية التي يريدون وأن يقترحوا الأفكار والقوانين التي يريدون؛ فهذا كله من ضمن الحريات العامة التي نصّ عليها الدستور والقوانين؛ لكن ليس من حق أحد أن يَنسب اقتراحَ قانون ما مقدَّم من هكذا جمعية إلى الطائفة التي ينتمي إليها أعضاء هذه الجمعية أو إلى أية طائفة أخرى.
     فهل تم القيام بإحصاء تناول جميع الطوائف في لبنان من دون استثناء وأظهرت نتائجُه أن الطائفة الأرثوذكسية هي وحدها، من بين جميع الطوائف، التي معظم أبنائها يوافقون على هذا القانون وعلى أن يتبنوه ؟ لتتم تسميته بعد ذلك بالقانون الأرثوذكسي.
     حتى إذا افترضنا أنه تم القيام بهكذا إحصاء وأظهرت نتائجه أن الطائفة الأرثوذكسية، أو أية طائفة أخرى، هي وحدها التي معظم أبنائها (٨٠ أو ٩٠ بالمائة منهم ) يوافقون على هذا القانون وعلى أن يتبنّوه؛ حتى في هذه الحال من الخطأ الكبير أن يُنسَب هذا القانون إلى هذه الطائفة، لأن هذا يُعتبَر تمييزاً فئوياً، أي تنميطاً، لها؛ أي جعل جميع أبنائها في قالب واحد، أي نمط واحد، وإظهار أن جميعهم، من دون استثناء، ضمن هذا النمط؛ فهذا من شأنه أن يلحق الظلم بأل ١٠ أو ٢٠ بالمائة الباقين والرافضين له.
٢ - أية فئة ثقافية ( دينية أو مناطقية أو عرقية أو لغوية أو غيره ) لا يصح أن يُنسَب إليها فكرٌ ما أو سلوك ما أو صفة ما، حتى مع توفر الدليل القاطع على أن معظم أبنائها لديهم هذا الفكر أو السلوك أو الصفة؛ وذلك لسببين: الأول، لأن هذا من شأنه جعل جميع أبنائها ضمن هذا النمط وإلحاق الظلم بالأقلية الباقية؛ الثاني، لأنه إذا افترضنا أن أبناء هذه الفئة، الذين لديهم ذلك الفكر أو السلوك أو الصفة، قد قُيّض لمعظمهم مستقبلاً أن يتغيَّروا ويتخلوا عنه، فيبقى من الصعب على أبناء باقي الفئات تغيير موقفهم منهم بفعل ما يكونون قد تعودوا عليه ماضياً في جعل جميع أبناء فئتهم في نمط واحد.    
     بينما إذا تم التعامل مع أبناء هكذا فئة أن قسماً منهم وليس جميعهم عندهم ذلك الفكر أو السلوك أو الصفة، أي عندما يقال: "إن قسماً من أبناء هذه الفئة عندهم هذا الفكر أو السلوك أو الصفة" وليس أن يقال: "إن هذه الفئة عندها هذا الفكر أو السلوك أو الصفة"، فهذا من شأنه أن ينصف الأقلية الباقية من أبنائها؛ ثم إذا قُيّض للأكثرية أن يتغيّر قسمٌ منها مستقبلاً فيكون من الأسهل على أبناء باقي الفئات أن يتعاملوا معهم من هذا المنطلق.
     مثلاً، إذا افترضنا أن أبناء فئة عرقية ما في بلد ما، يسعى معظمهم للتمرد العسكري للانفصال عن البلد الأم؛ فمن الخطأ القول إن هذه الفئة العرقية تسعى للتمرد والانفصال ( كما يتم في الكثير من الأحيان التداول في هكذا حالات عبر وسائل الإعلام )، بل الصحيح أن يقال إن قسماً من أبناء هذه الفئة يسعى للتمرد؛ أولاً، لأن هذا القول من شأنه أن لا يلحق الظلم بالبقية من أبناء هذه الفئة الذين يرفضون التمرد ويفضلون البقاء ضمن البلد الأم، وثانياً، لأنه إذا غيَّر قسمٌ من المتمردين موقفَهم مستقبلاً وقرروا البقاء ضمن البلد الأم فسيكون من الأسهل على أبناء باقي الفئات التعامل معهم من هذا المنطلق الجديد.        
٣ - بالعودة إلى عبارة القانون الأرثوذكسي، حتى مع توفر الدليل القاطع أن الطائفة الأرثوذكسية هي وحدها من بين جميع الطوائف التي معظم أبنائها يوافقون على قانون اللقاء الأرثوذكسي وعلى أن يتبنّوه، يبقى من الخطأ الكبير أن تقال هذه العبارة. فكيف إذاً هو الحال حتى مع عدم توفر أدنى دليل على هذا الأمر ؟
     في هذه الحال أقل ما يمكن أن يقال عن هذه العبارة إنها تمييز فئوي بحق الطائفة الأرثوذكسية وإهانة لها.  
     أما عن السبب في كونها إهانة، فهو يعود إلى أن الذين يعتبرون هذا القانون أمراً سيئاً وفي نفس الوقت ينسبونه إلى هذه الطائفة فهذا، بالطبع، إهانة لها؛ أما الذين يعتبرونه أمراً جيداً وفي نفس الوقت ينسبونه إليها فهذا يعني أنهم يستخدمون هذه الطائفة كمطية لتمرير هذا القانون، ويعني أيضاً تحميل هذه الطائفة تبعات أية نتائج سيئة قد تترتب على تطبيق هذا القانون، في حال إقراره، مستقبلاً، وهذا بدوره إهانة لها.   
٤ - بالطبع، ليس جميع الإعلاميين والسياسيين الذين استخدموا عبارة القانون الأرثوذكسي قد تقصدوا أن ينسِبوا قانونَ اللقاء الأرثوذكسي إلى الطائفة الأرثوذكسية، وإنما أكثرهم قام بذلك بفعل الانقياد وراء خطأ شائع أو ربما اختصاراً للوقت؛ لكن هذا لا يمنع أن يكون قسم منهم قد تقصَّد بالفعل هذا الأمر إما لإعطاء مصداقية أكبر لهذا القانون وتمريره وإما لتشويه صورة الطائفة الأرثوذكسية لسبب أو لآخر.
     ثم إن وجود خطأ شائع لا يُبرِّر أن ينقاد الإعلاميون والسياسيون وراءه، الذين يُفترَض بهم أن تكون عندهم آراء نقدية وتحليلات وأدوار قيادية.
     فالإعلامي عندما يساهم في إعداد نشرات الأخبار أو يكتب المقالات أو يجري المقابلات أو يدير الحوارات، يعني أنه محلل وقارئ للأحداث، ويُفترَض به أن يتنبَّه للأخطاء الشائعة وليس أن ينجَّر وراءها، خاصة عندما تكون من النوع الذي يلحق الأذى بأبناء فئة برمتهم. والسياسي يُسمى قيادياً ليس لأنه ينقاد وراء الأخطاء الشائعة بل لأنه يُفترَض به أن يتنبه إليها وأن يعرف كيف يقود مؤيديه إلى ما هو صحيح.
     أي إنه حتى ولو كانت النِيَّة سليمة تماماً من استخدام عبارة القانون الأرثوذكسي، فهذا لا يعفي الإعلاميَ أو السياسيَ من مسؤوليته. لأن الإعلامي عندما يتحدث أو يكتب من على منبره، والسياسي عندما يُدلي بمواقفه أمام المواطنين، يُحاسبان على ما يتلفظان به على لسانيهما وليس على ما يضمرانه في داخلهما. فالرجل عندما يتسلى ويمزح مع رفقائه، بإمكانه أن يقول لهم لا تحاسبوني على ما يَظهر على لساني بل على ما هو في قلبي؛ والرجل الذي يلعب ويتسلى مع امرأته أو عشيقته بإمكانه أن يقول لها لا تحاسبيني على ما يَظهر على لساني بل على ما هو في قلبي. أما الإعلامي بتوجّهه إلى قرائه أو مشاهديه أو مستمعيه، والسياسي بتوجّهه إلى المواطنين، لا يستطيعان أن يقولا لا تحاسبونا على ما يَظهر على لسانينا بل على ما هو في قلبينا...
٥ - كنتُ قد تنبهتُ منذ أيام إلى أحدهم يقول عبر شاشة التلفزيون إنه يتم استخدام عبارة القانون الأرثوذكسي لأن إيلي الفرزلي قد استخدمها؛ إشارة إلى نائب رئيس مجلس النواب السابق إيلي الفرزلي، أحد أعضاء جمعية اللقاء الأرثوذكسي ومن أبرز المدافعين عن القانون.
     الرد هو أن استخدام بعض أعضاء هذه الجمعية لعبارة القانون الأرثوذكسي، وحتى لو وصل  الأمر إلى أن تطلق هذه الجمعيةُ هذه التسميةَ على هذا القانون؛ فهذا لا يبرِّر قيام الإعلاميين والسياسيين باستخدامها. لأنه من البديهيات في العمل الإعلامي أنه إذا استخدمت جهةٌ ما أو شخص ما عبارةً مسيئة بحق جهة أخرى أو شخص آخر، ثم قام الإعلامي بذِكر هذه العبارة عبر وسيلته الإعلامية، أو قام أي شخص آخر بذِكرها عبر إحدى وسائل الإعلام، فإن الموضوعية تقضي بأن تُقرَن هذه العبارة بعبارة "على حد تعبير أو على حد قول أو بحسب تعبير فلان..." للدلالة على أنه يقوم بنقل العبارة بحرفيتها ومن دون اتخاذ أي موقف، سواء بالموافقة أم الرفض، لما تتضمنه من إساءة لتلك الجهة أو الشخص.     
٦ - لكن ما هو مقدار الضرر الذي من الممكن أن يكون استخدام عبارة القانون الأرثوذكسي، من قبل قسم كبير من الإعلاميين والسياسيين وبهذه الكثرة في الأسابيع الماضية، قد ألحقه بالطائفة الأرثوذكسية في لبنان ؟  
     الجواب هو أننا نعيش اليوم في عصر الإعلام الكوني حيث هناك كمية ضخمة من الأخبار تأتي من مختلف مناطق العالم، وحيث ليس من الصعب على أي شخص في أي بلد في العالم أن يحصل عليها من خلال الفضائيات وغيرها من وسائل الإعلام والاتصال. هذا الشخص، وسواء أكان محلِّلاً سياسياً أم لا أو كثير التعلم أم قليل التعلم وبغض النظر عن اختصاصه أو عمله، فليس بإمكانه أن يتابع بتوسّع جميع الأخبار السياسية التي تصله من خارج بلده عبر وسائل الإعلام، لأنه ببساطة ليس عنده الوقت الكافي لذلك. بالتالي، هو مضطر لأن يكتفي بالموجز عنها أو بعناوين نشرات الأخبار أو عناوين الصحف والمواقع الإلكترونية؛ إلا إذا استوقفه موضوعٌ ما لسبب ما فيقوم بالتوسع فيه. مثلاً، مما نجده في هذا الإطار أن الكثير من محطات التلفزة وغيرها من وسائل الإعلام أصبح عندها فقرة ثابتة يتم فيها فقط، اختصاراً للوقت، قراءة عناوين الصحف المحلية والخارجية أو عناوين نشرات الأخبار أو المواقع الإلكترونية.
     واعتماداً، فإن أي شخص في العالم العربي، أو خارجه في أي مكان في العالم، عندما يشاهد أو يستمع إلى أخبار لبنان عبر ما هو متوفر لديه من وسائل إعلام، ويستمع إلى عبارة القانون الأرثوذكسي وإلى مختلف المواقف بالقبول أو الرفض له وحتى لو كان مدرِكاً تماماً أن جمعية اللقاء الأرثوذكسي هي التي اقترحته، وفي حال لم يكن لدى هذا الشخص معرفة واسعة بطبيعة المجتمع اللبناني وبتاريخ لبنان فسيذهب به التفكير إلى أن الطائفة الأرثوذكسية هي وحدها من بين باقي الطوائف التي معظم أبنائها يوافقون على هذا القانون وعلى أن يتبنوه، أي إن هذا القانون يتوافق مع توجههم ومواقفهم وأفكارهم ومشاعرهم ويتوافق أيضاً مع تاريخ الطائفة الأرثوذكسية ودورها في لبنان؛ إضافة، وفي حال لم يعجبه هذا القانون فسيذهب به التفكير إلى أن الطائفة الأرثوذكسية في لبنان هي الطائفة الأكثر انعزالية والأكثر عنصرية والأكثر عصبية طائفية، أي الأكثر سوءًا من بين جميع الطوائف في لبنان...
٧ - بالنظر إلى كل ما تقدَّم، لما كان استخدام عبارة القانون الأرثوذكسي تمييزاً فئوياً بحق الطائفة الأرثوذكسية وإهانة لها، فالإعلاميون والسياسيون الذين قد استخدموا هذه العبارة، وحتى ولو كانوا قد استخدموها بكل نيَّة حسنة ومن دون أي قصد لنَسب هذا القانون إلى هذه الطائفة، المفترَض بهم أن يكفّوا عن هذا الاستخدام وأن يعتذروا، من على المنابر الإعلامية، من هذه الطائفة عن هذا الخطأ وعما قد ألحقه بها من تمييز فئوي وإهانة وتشويه لصورتها وجرح لمشاعر أبنائها وغيره...
     وعن الإعلاميين والسياسيين اللبنانيين الذين لم يستخدموا هذه العبارة، وحرصاً منهم على العيش المشترك وعلى عدم إلحاق هكذا ضرر أو ظلم بأية طائفة، المفترَض بهم بدورهم أن يطالبوا أو ينبِّهوا الذين قد استخدموها على ضرورة القيام بهذا الاعتذار...
                          
ثانياً، لجهة موافقة أو معارضة قانون اللقاء الأرثوذكسي مع الوضع في لبنان.
    
١ - كما هو معروف، الديمقراطية لا تعني فقط حكم الأكثرية، بل تعني أيضاً مفاهيم الحرية والأخوة والمساواة. أي إنه عندما سيؤدي حكم الأكثرية إلى إلحاق التهميش أو الغبن أو الظلم بأقلية ثقافية ما ( دينية أو مناطقية أو عرقية أو لغوية أو غيره ) أو بفئة ضعيفة ما في المجتمع ( كمثل النساء )، وعندما لا يتوفر الأمل أن تؤدي برامج التوعية لدى الأكثرية، في المستقبل المنظور، إلى تغيير معاملتها تجاه هكذا أقليات أو فئات ضعيفة، فإن مفاهيم الحرية والأخوة والمساواة تقضي بأن يكون لهكذا أقليات أو فئات الضمانات الكافية لحمايتها من أي تهميش أو غبن أو ظلم. من ضمن هذه الضمانات، هناك إعطاء الإدارة الذاتية، أي الاتحاد الفيدرالي، للأقليات، أو إعطاؤها الامتيازات في البرلمان ومجلس الوزراء والإدارة العامة؛ كما هناك الكوتا النسائية التي تأتي في هذا الإطار.
     الإدارة الذاتية أو الاتحاد الفيدرالي للأقليات لا ينفع للتطبيق في جميع البلدان. مثلاً، إذا كانت الأكثرية تسيطر على القطاعات المهمة في البلاد من اقتصاد وتعليم وصحة وإعلام وغيره فإن الإدارة الذاتية لأية أقلية قد تزيد من أوضاعها سوءًا وتجعلها أكثر تحت رحمة الأكثرية. مثلاً آخر، إذا كانت الإدارة الذاتية للأقلية ستزيد من مواقفها العنصرية تجاه الأكثرية وستفتح البابَ أمامها لكي تتحول إلى جسر أو موطئ قدم لسياسات خارجية تطمع ببلدها وبالمنطقة، الأمر الذي سيؤدي إلى نتائج سلبية على الأمن القومي في البلاد، ( كما هو الحال في الواقع اللبناني )، هنا يجب البحث في خيارات أخرى لهذه الأقلية.       
٢ – بالعودة إلى اقتراح قانون اللقاء الأرثوذكسي، لا يحتاج الأمر إلى الكثير من التفكير للقول إنه عندما تنتخب كل طائفة نوابَها فهذا بمثابة الخطوة المهمة نحو الإدارة الذاتية للطوائف أو أي شكل آخر من أشكال التقسيم.
     ففي بلد متعدد الطوائف مثل لبنان، ويوجد فيه تاريخ طويل من الصراعات الطائفية، ولا يزال يوجد فيه قلة ثقة متبادلة وضعف في الوحدة الوطنية بين الطوائف، فإن العمل بهكذا قانون للانتخابات من شأنه أن يَفتح المجال أمام كل طائفة لأن تحاسب وحدها نوابَها، من خلال إعادة انتخابهم أم لا، على ما قاموا به من أجل مصلحتها أكثر من أن تحاسبهم على ما قاموا به من أجل مصلحة الأمة جمعاء؛ وحتى لو لم يحدث هذا الأمر فسيكون هناك تخوف من حدوثه؛ الوضع الذي سيزيد من قلة الثقة المتبادلة ومن ضعف الوحدة الوطنية بين الطوائف؛ وكل هذا من شأنه أن يشجِّع العاملين على زيادة التباعد بينها، وصولاً إلى الفيدرالية أو غيرها من أشكال التقسيم، على اتخاذ خطوات أكثر في هذا الصدد؛ كمثل اقتراح قانون منع بيع الأراضي إلى مَن ينتمون إلى دين آخر الذي تم طرحه في العام ٢٠١٠. وحتى لو لم يتم القيام بأية خطوة في هذا الصدد فسيكون هناك تخوف من اتخاذها، الأمر الذي سيؤدي إلى مخاوف من توترات أمنية في البلاد أو إلى زيادتها في حال كانت موجودة.    
     باختصار، في حال كانت القناعة في لبنان أن تتم حماية الأقليات الدينية فيه من خلال الفيدرالية أو أي شكل آخر من أشكال التقسيم فإن قانون اللقاء الأرثوذكسي وذلك القانون حول منع بيع الأراضي إلى مَن ينتمون إلى دين آخر يشكلان بداية جيدة في هذا الطريق. أما مع القناعة باستحالة السَير في لبنان في هذا الطريق وبأنه من الضروري أن تتم حماية الأقليات دينية فيه من خلال طرق أخرى تساهم في زيادة الثقة المتبادلة والوحدة الوطنية بين الطوائف، فيجب الابتعاد عن هكذا قوانين في الانتخابات وبيع الأراضي...
     أما عن السبب في كون فيدرالية الطوائف في لبنان أو غيرها من أشكال التقسيم سيزيد مما يوجد من عنصرية عند بعض هذه الطوائف وسيفتح البابَ أمامها لكي تتحول إلى جسر أو موطئ قدم للسياسات الغربية التي تطمع بهذا البلد وبالمنطقة، فسنتطرق إلى هذا الموضوع مستقبلاً.


عامر سمعان ، باحث وكاتب
31/ 1/ 2013، تم آخر تنقيح لهذه المقالة في 5/ 1/ 2014.    

الخميس، 24 يناير 2013

الإستراتيجيا المقترَحة لإنهاء الزعامة العالمية للولايات المتحدة


    سنقدم هنا عرضاً موجزاً عن الإستراتيجيا، أي الخطة، المقترَحة لإنهاء الزعامة العالمية للولايات المتحدة وإلحاق هزيمة كبرى بها، من حيث مضمونها والأسباب الموجبة لها وطريقة تنفيذها والنتائج المتوقعة عليها؛ والتي مما تتضمنه هو تقديم المساعدة للنظام السوري في مواجهة المعارَضة المسلحة وبسط سيادة الدولة على الأراضي السورية. مع العلم بأن كل ذلك قد تم عرضه بشكل أكثر شرحاً وتفصيلاً في مواضع عدة من كتابي: "حول الأزمة اللبنانية ونهاية الزعامة العالمية للولايات المتحدة".
     وعند التحدث عن هزيمة الولايات المتحدة فهذا يعني، بالطبع، هزيمة باقي الدول الحليفة الأساسية لها كإسرائيل والدول الأوروبية الاستعمارية وغيرها من الدول الغربية الصناعية.
     كما سنوضِّح أدناه كيف أن تحقيق هذا الهدف هو الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى التسريع في النمو الاقتصادي والتطور وتحسين الممارسة الديمقراطية في الدول العربية وفي باقي دول الجنوب.
     الملخَّص لهذه الإستراتيجيا هو أنها تقوم على مطالبة القواعد الشعبية في مختلف أنحاء العالم لأنظمة الحكم لكي تتخذ مواقف مناهضة للولايات المتحدة، من خلال عدة مراحل، المرحلة الأولى تتعلق بالأوضاع في لبنان وسوريا وليبيا، من حيث رفض التعاون مع المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ودعم نظام الرئيس الأسد في مواجهة المعارَضة المسلحة واعتبار التدخل العسكري الذي تم في ليبيا اعتداءً عليها، كذلك تتعلق بالموقف من الولايات المتحدة من حيث تخفيض التمثيل الدبلوماسي فيها ووقف أي تعاون عسكري معها، وبالموقف من المحكمة الجنائية الدولية من حيث الانسحاب منها ورفض أي تعاون معها. في المراحل الأخرى من هذه الإستراتيجيا سيكون هناك أشكال أخرى من المحاربة السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة وصولاً إلى إنهاء زعامتها العالمية وإلحاق هزيمة كبرى بها. من بين هذه المراحل سيكون هناك ضرورة للانسحاب من الأمم المتحدة وتأسيس منظمة عالمية أخرى تُعنى بالسلام العالمي والتعاون بين الشعوب، وحل القضية الفلسطينية على أساس أن إسرائيل كيان مغتصَب وغير شرعي وأنه من الناحية الإستراتيجية بمثابة الجزء من الولايات المتحدة...
     كما قلنا، ما نحن بصدده هو وضع الإستراتيجيا التي لا تؤدي فقط إلى استعادة الحقوق في العالم العربي وغيره من باقي دول الجنوب، بل أيضاً فتح المجال أمام النمو الاقتصادي والتطور والديمقراطية في هذه البلدان.  
    هذه الإستراتيجيا، لكي تكون فاعلة، لا بد أن تقوم على الأسس الخمسة التالية:                 
- أولاً، أن تعتمد ليس الأساليب العسكرية بل الأساليب السلمية، أي تحرك القواعد الشعبية، داخل العالم العربي وخارجه، لمطالبة أنظمة الحكم، بالوسائل الديمقراطية، لتتخذ مواقف مناهضة للولايات المتحدة من خلال عدة مراحل.
- ثانياً، أن يتم التعامل مع إسرائيل على أنها بمثابة الجزء من الولايات المتحدة من الناحية الإستراتيجية؛ وأن يتم إشراك كل من هذه الدولة وبريطانيا بالمسؤولية المعنوية والمادية للوجود غير الشرعي لإسرائيل وللجرائم التي ارتكبتها بحق شعوب المنطقة.
- ثالثاً، أن تتضمن الانسحاب من الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية وعدم التعاون معهما، وكذلك عدم التعاون مع المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وغير ذلك من منظمات الشرعية والعدالة الدوليتين الموضوعة في خدمة السياسة الأمريكية.
- رابعاً، أن تركِّز هذه الإستراتيجيا في المرحلة الأولى منها على الأوضاع في لبنان وسوريا وليبيا وبالشكل الذي ينهي النفوذ الأمريكي فيها، بالنظر إلى أهمية هذه البلدان حالياً في السياسة الخارجية الأمريكية.    
- خامساً، أن تكون هذه الإستراتيجيا من ضمن عدة مراحل تتضمن كل منها أشكالاً مختلفة من المحاربة السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة وبالشكل الذي يوصل إلى إنهاء زعامتها العالمية وإلحاق هزيمة كبرى بها.
     لتوضيح تفاصيل هذه الإستراتيجيا سنتطرق إلى ما يلي:

أ - حول الصراع العربي الإسرائيلي، قلنا إن إسرائيل هي من الناحية الإستراتيجية بمثابة الجزء من الولايات المتحدة، أي إن دفاع الأمريكيين عنها هو تماماً كمثل دفاعهم عن أية ولاية أمريكية، إن لم يكن أكثر، ويمكن تشبيه هذه العلاقة كالعلاقة بين ذنب الأفعى ورأسها، فالذنب بإمكانه أن يؤذي لكن ليس له أية قوة أو حياة من دون الرأس. لذلك، فإن تعامل العرب مع إسرائيل على أنها العدو الأساسي ومع الولايات المتحدة على أنها دولة محايدة، كان إستراتيجيا خاطئة جداً، لأنه من الخطأ الكبير توجيه الضربات إلى ذنب الأفعى وترك رأسها طليقاً. لذلك، فإنه على العرب إما التصالح مع إسرائيل والتضحية بالحقوق الفلسطينية وإما التعامل مع الولايات المتحدة على أنها العدو الأساسي وأن إسرائيل هي جزء منها، وذلك وفق إستراتيجيا واضحة ومقنِعة.  
     وفي حال اعتماد هذا الخيار الأخير، فمن المنطقي الابتعاد عن العمل العسكري كخيار لتحرير فلسطين كون هذه المعركة لن تكون فقط مع إسرائيل بل أيضاً مع الولايات المتحدة؛ ولا يبقى من حل إلا إلزام هاتين الدولتين، إضافة إلى بريطانيا، بتقديم تنازلات مُرضِية للتسوية في المنطقة من ضمن إستراتيجيا تكون موضوعة لهزيمة الولايات المتحدة وإنهاء زعامتها العالمية. 
     فتكون هذه التنازلات كما يلي:
- أن لا تكون مساحة الدولة الفلسطينية مقتصرَة على الضفة والقطاع بل أن تكون أكبر من مساحة الدولة الإسرائيلية؛ من منطلق أن الفلسطينيين هم أصحاب الأرض الأصليين؛ وبالشكل الذي يمكِّن من استيعاب المهجرين الفلسطينيين فيها.
- أن تتمتع الدولة الفلسطينية بكامل السيادة.
- أن يتم تجريد إسرائيل من أسلحة الدمار الشامل.
- أن تقدِّم كل من إسرائيل وبريطانيا اعتذاراً رسمياً إلى الفلسطينيين وكل العرب عن وجود الدولة الإسرائيلية بوصفها كياناً مغتصَباً.
- أن يتم دفع تعويضات للفلسطينيين وغيرهم من العرب عن وجود الدولة الإسرائيلية والجرائم التي ارتكبتها بحقهم. وأن تُشرَك كل من بريطانيا بهذه التعويضات بصفتها الدولة التي أنشأت الكيان الصهيوني، والولايات المتحدة بصفتها الدولة التي أمَّنت لهذا الكيان الدعم الكافي لاستمراره وللقيام بالاعتداءات على غيره.
- أن تتم محاسبة المسؤولين الإسرائيليين الذين ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
- أن تقوم الدولة الإسرائيلية بوضع تشريع يَعتبر الصهيونية اليهودية كأحد أشكال الإرهاب إلى جانب الصهيونية المسيحية والأصولية الإسلامية المتطرفة (حول هذه النقطة انظر الراوبط في آخر هذه المقالة).     
     كذلك سيكون هناك ضرورة لرعاية ودعم قيام اتحاد بين الدول العربية يقوم أساساً على البرلمان العربي المشترَك، بالنظر إلى أهمية هذه الخطوة في إنهاء حقبة المشروع الصهيوني في المنطقة، وفي العملية التنموية في العالم العربي. فكما ينتخب المواطن العربي، بشكل مباشر، رئيس البلدية والمختار ونائبه في البرلمان وصولاً إلى رئيس الجمهورية، كذلك ينتخب بشكل مباشر ممثله في البرلمان العربي. فيكون هذا البرلمان هو المؤسسة الأساسية التي تفعِّل وتراقب العمل العربي المشترَك في جميع المجالات، وخاصة المسائل المتعلقة بالأمن القومي العربي، مع الإبقاء على دور أساسي لمؤتمر القمة العربية، وكذلك مع الإبقاء على استقلالية كل دولة. أي إنه من الضرورة السَير في الطريق المؤدي إلى الاتحاد العربي بالتزامن مع حل القضية الفلسطينية.

ب - حول الأمم المتحدة، بالرغم من الإنجازات المهمة التي قامَت بها الأمم المتحدة منذ تأسيسها، وبالرغم من أصحاب الكفاءات العالية الذين يعملون فيها، إلا أن مجلس الأمن يبقى المؤسسة الأهم فيها؛ فهو الجهاز القضائي التنفيذي العالمي الوحيد المكلَّف بالمحافظة على الأمن والسلام الدوليين. فهو الذي يقرر إن كان أيٌّ من الخلافات أو النزاعات تهدد الأمن والسلام الدوليين أم لا، وأيَّ طرف هو المحق فيها ومقدار ما هو حق له وأيَّ طرف هو غير المحق ومقدار ما يتوجب عليه من عقوبات، واستخدام القوة العسكرية في هذه العقوبات أو عدم استخدامها، وغيرها من الأمور في هذه الخلافات والنزاعات التي تتعلق بمصائر الشعوب... وبالنظر إلى العضوية الدائمة وحق النقض فيه المعطى للدول الخمس، يصبح هذا المجلس أداةً ليس للمحافظة على الأمن والسلام الدوليين، بل للمحافظة على مصالح هذه الدول الخمس، وخاصة منها الولايات المتحدة، على حساب أمن وباقي حقوق أكثرية دول العالم. أي يصبح مجلس الأمن أداةً لخرق الأمن والسلام الدوليين وإحدى المهازل الكبرى في التاريخ. لذلك، يصبح من الضرورة الانسحاب من الأمم المتحدة، في المراحل المتقدمة من هذه الخطة، كخطوة أساسية وضرورية لإنجاح هذه الخطة في إنهاء الزعامة العالمية للولايات المتحدة.

ج - حول المحكمة الجنائية الدولية، اختصاص هذه المحكمة هو محاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان، والحاصلة بعد تموز 2002. 
     تُحال القضايا إلى المدَّعي العام فيها من قِبَل إحدى الدول المنضمَّة إليها، أو من قِبَل مجلس الأمن متصرفاً بموجب الفصل السابع؛ كما بإمكان المدَّعي العام أن يباشر من تلقاء ذاته في قضية ما.
     عندما تنظر هذه المحكمة في قضية ما، وإذا ما كانت الدولة المعنية رافضةً للتعاون معها، والمقصود بالدولة المعنية هي الدولة التي وقعت في إقليمها الجريمةُ موضوع النظر أو يكون المتهَمون فيها من رعاياها، فليس بإمكان هذه المحكمة أن تلزمها بالتعاون.
     الجهة الوحيدة التي بإمكانها أن تلزِم هكذا دولة بالتعاون هي مجلس الأمن. وهذا الأخير سيصبح عاجزاً عن هذا الأمر في حال كانت هذه الدولة من ضمن الدول الدائمة العضوية فيه، أو حتى في حال كان المتهَمون حلفاء لإحدى هذه الدول وكانت هذه الأخيرة غير راغبة في محاكمتهم.
     أي إن مجلس الأمن، الخاضع للدول الخمس الدائمة العضوية فيه وخاصة منهم الولايات المتحدة، عندما يُعطى صلاحية إحالة القضايا إلى هذه المحكمة وعندما يكون الجهة الوحيدة التي بإمكانها أن تُلزم أية دولة رافضة للتعاون معها بهذا التعاون، فهذا يعني أن هذه المحكمة قد أصبحت أداةً ليس لتطبيق العدالة بل أداةً تستطيع من خلالها هذه الخمس الدول، وخاصة منها الولايات المتحدة، أن تحمي كبار المجرمين الذين هم حلفاء لها، سواء أكانوا من ضمن مواطنيها أم من دول أخرى، وفي نفس الوقت تستطيع من خلالها أن تبتزَّ المجرمين المعادِين لها.
     إضافة، من المستبعَد أن تَحكُمَ المحكمةُ الجنائية الدولية بالعدل في القضايا التي تنظر فيها، بل المرجَّح أن تَحكُم فيها بما يتوافق مع مصلحة الولايات المتحدة؛ أي أن تُدين المتهَمين أو تبرئهم أو تزيد العقوبات عليهم أو تقللها بما يتوافق مع هذه المصلحة. والدليل على ذلك، أن ما ارتكبه المسؤولون الأمريكيون في أفغانستان والعراق من ضمن ما يُعرَف بجرائم الحرب أو جرائم ضد الإنسانية بعد أول تموز 2002 معروف للجميع، وكذلك ما ارتكبه المسؤولون البريطانيون من هذه الجرائم في العراق بعد هذا التاريخ هو بدوره معروف للجميع (بريطانيا هي من ضمن الدول المنضمَّة إلى هذه المحكمة)، وكذلك ما ارتكبه المسؤولون الإسرائيليون من هذه الجرائم بحق الفلسطينيين واللبنانيين بعد هذا التاريخ هو أيضاً معروف للجميع؛ وبرغم ذلك لم يتجرأ مدَّعي عام هذه المحكمة أو أي من الدول أل 122 الأطراف فيها من رفع أية دعوى ضد أيٍّ من هؤلاء المسؤولين. صحيح أن المرجَّح أن هكذا دعاوى كانت ستصل إلى طريق مسدود بالنظر إلى رفض هذه الدول التعاون فيها مع المحكمة وبالنظر إلى رفض مجلس الأمن إلزام إسرائيل بهذا التعاون، لكن مجرد إثارتها داخل غرف المحكمة وعبر وسائل الإعلام العالمية كانت ستشكِّل هزيمة سياسية معتبَرة لأي من هذه الدول قد تقلل من قدرتها مستقبلاً على ارتكاب جرائم مماثلة. مع التنبه إلى أننا نتحدث هنا عن جرائم الإسرائيليين قبل الاعتراف بالدولة الفلسطينية كعضو مراقب في الأمم المتحدة في 29/ 11/ 2012.
     باختصار، كما قلنا عن مجلس الأمن إنه أداة للخمس الدول الدائمة العضوية فيه، وخاصة منها الولايات المتحدة، وإحدى المهازل الكبرى في التاريخ، كذلك يصح القول عن المحكمة الجنائية الدولية إنها بدورها أداة للخمس الدول الدائمة العضوية في هذا المجلس، وخاصة منها الولايات المتحدة، وإحدى المهازل الكبرى في التاريخ. ويصبح لا بد من الانسحاب منها وعدم التعاون معها في أية قضية كخطوة ضرورية لإنهاء الزعامة العالمية للولايات المتحدة.

د - حول الوضع في لبنان، سنتطرق أولاً إلى مسألة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ثم إلى مسألة عدم مصداقية المحكمة الدولية الخاصة بهذه الجريمة لتوضيح أهمية عدم التعاون مع هذه المحكمة كخطوة مهمة في الإستراتيجيا المقترَحة لهزيمة الولايات المتحدة.
     إن توجيه الاتهام في الجريمة السياسية يُفترَض أن يتم وفق قاعدة أن مَن كان مستفيداً أكثر من غيره من الجريمة يكون المتهَم الأول، شرط إن كان عنده إمكانات التنفيذ. وهذا بغض النظر إن كان عدواً أم حليفاً للقتيل أو حتى صديقاً له أو حتى من أكثر المقربين منه.
     هذه القاعدة هي من المسلمات فيما يتعلق بتوجيه الاتهامات وإجراء التحقيقات والمحاكمات، ولا يحتاج المرء لأن يكون خبيراً أو اختصاصياً في القانون ليدرِك هذه الحقيقة، بل ما يحتاج إليه في الواقع هو القليل من المنطق.
     لكن ما جرى في لبنان منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005 هو انحراف كبير عن هذا المنطق وعن هذه الأمور البديهية، ليتم توجيه الاتهام إلى المتضررين الأساسيين من هذه الجريمة، والذين هم الأعداء السياسيين لرفيق الحريري، أي نظام الرئيس إميل لحود ونظام الرئيس بشار الأسد وحلفائهما في الداخل اللبناني، خاصة منهم حزب الله. بينما الطرف الأكثر استفادة من هذه الجريمة، والذي هو الولايات المتحدة، والتي هي في موقع الحليف لرفيق الحريري، فقد كانت ولا تزال بعيدة عن توجيه أي اتهام إليها.
     لتوضيح كيف أن الولايات المتحدة هي المستفيد الأول من هذه الجريمة والمتهَم الأول، سنعود إلى السياسة الأمريكية في هذه المنطقة قبل اغتيال الحريري. المبدأ الذي كانت ولا تزال هذه الدولة تتبعه للهيمنة على العالمين العربي والإسلامي هو الادعاء بوجود أنظمة قمعية فيهما وتقديم نفسها على أنها هي المنقِذ الذي سيجلب الحرية والديمقراطية والسلام. 
     وقد اتَّبعت الإدارة الأمريكية هذا المبدأ في احتلال العراق في العام 2003. فادَّعَت في إعلامها وسياستها أن نظام الرئيس صدام حسين يقمع شعبَه بشكل دموي وأنه استعمل ضده السلاح الكيميائي وورَّطه في حروب عبثية مع جيرانه، وأنه يشكل خطراً على الشعوب في هذه المنطقة وفي العالم بأسره من خلال سَعيه لامتلاك أسلحة الدمار الشامل وتحالفه ودعمه لتنظيم القاعدة، وأنها ستكون هي المنقِذ من خلال جلبها للحرية والديمقراطية والسلام إلى هذا البلد.
     وكما هو معروف، فبعد سقوط هذا النظام لم يكن هناك أدلَّة على وجود هذه الأسلحة أو على وجود هذا التحالف والدعم لتنظيم القاعدة؛ كما تزايد عدد القتلى من الجنود الأمريكيين في العراق، وأصبحت أوضاع الشعب العراقي أسوأ من ذي قبل من حيث غياب الأمن وتردِّي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية؛ وأصبحت أرضُ العراق مرتعاً لمنظمات إرهابية كثيرة من الممكن أن تشكِّل خطراً جدِّياً ليس فقط على الشعب العراقي وغيره من شعوب الجوار بل أيضاً على الشعب الأمريكي وغيره من الشعوب الغربية التي ساندت الغزو.
     وكانت النتيجة الواضحة والمفترَضة لهذا الفشل هي انسحاب سريع للولايات المتحدة من العراق مع ما يعنيه هذا من فقدانها دورها كقطب وحيد في العالم وانهيار اقتصادي وغيره. لكن ما جنَّبَها كل ذلك هو أنها عملت، ومباشرة بعد سقوط بغداد، على المحافظة على ذلك المبدأ، أي الادعاء بوجود نظام قمعي آخر في العالم العربي عنده مساوئ شبيهة بالنوع والحجم بالتي كانت عند النظام العراقي وتقديم نفسها كمنقِذ وجالب للحرية والديمقراطية والسلام. فكان في هذه المرة دورُ النظامين اللبناني والسوري.
     فكان هناك منذ 2003 حملات إعلامية وسياسية أمريكية على هذين النظامين، تصوِّر النظام السوري على أن لديه برنامج لأسلحة الدمار الشامل، وأن قواته تتواجد في لبنان رغماً عن اللبنانيين، وأن النظام الأمني اللبناني - السوري يشكِّل خطراً على الشعب اللبناني بسبب قمعه الوحشي للمعارَضة، ويشكِّل خطراً على الشعوب المجاورة والسلام العالمي بسبب دعمه لحزب الله وغيره من التنظيمات الإرهابية.
     لكن أي مراقِب للأوضاع في لبنان كان بإمكانه أن يدرك بسهولة أكاذيب الإدارة الأمريكية. فالاتهامات بوجود برنامج لأسلحة الدمار الشامل في سوريا كانت تلقائياً موضع شك كبير بالنظر لأكاذيب الأمريكيين والبريطانيين حول هكذا برنامج في العراق؛ ووجود الجيش السوري في لبنان لم يكن وجود احتلال بدليل عدم وجود عمليات مقاومة شعبية مسلحة ضده كما كان الوضع مع الجيش الإسرائيلي؛ والمعارَضة في لبنان، التي كانت تدَّعي وجود نظام قمعي وبالرغم مما قد حصل لها من تقييد محدود في عملها الإعلامي والسياسي، فقد كانت تنمو باستمرار وتحظى منذ التسعينات بحرية من العمل الإعلامي والسياسي غير متوفرة في أي بلد عربي آخر؛ وحزب الله لم يكن منظمة إرهابية تهدد السلام العالمي بل حركة مقاومة شعبية يعود الفضل إليها في تحقيق أهم انتصار في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.
     لذلك كان لا بد من عمل دموي مروِّع يثبِّت ادعاءات الإدارة الأمريكية حول ما هو وارد أعلاه ( باستثناء مسألة أسلحة الدمار الشامل )؛ فكان اغتيال الحريري بمثابة الدليل على هذا، لأنه يتم توجيه الاتهام المبدئي إلى النظام الحاكم في أي بلد عند اغتيال أية شخصية في المعارَضة. فقامت المعارَضةُ مع حلفائها الخارجيين، ومنذ الساعات الأولى بعد الاغتيال، بتوجيه الاتهام (إعلامياً وسياسياً ) بالقيام بهذا الاغتيال إلى النظامين اللبناني والسوري وحلفائهما في الداخل.
     وكان قد سبق هذا الاغتيال بعدة أشهر محاولة فاشلة لاغتيال القيادي في المعارَضة مروان حمادة، والذي كانت نتيجته توجيه الاتهام بالقيام به إلى النظامين اللبناني والسوري وتقوية كبيرة للمعارَضة. أي كان هذا الاغتيال بمثابة تجربة مخبرية لمعرفة نتائج اغتيال القيادي الأهم في المعارَضة، أي رفيق الحريري.
      الذي حصل بعد اغتيال الحريري مع النظامين اللبناني والسوري وحلفائهما في الداخل اللبناني أنهم ضَعفوا في مواجهة الحملات الأمريكية، لأن مجلس الأمن وأنظمة الحكم والقواعد الشعبية في مختلف أنحاء العالم الذين ساندوا احتلال الولايات المتحدة للعراق أو عجزوا عن منعها كانوا سيساندونها في ضغوطاتها على هذين النظامين وحلفائهما أو سيعجزون عن منعها. هذه الضغوطات التي لن تبقى إعلامية وسياسية بل قد تزداد لتصبح اقتصادية أو حتى عسكرية كمثل القيام بعمليات في الداخل اللبناني والسوري تحت حجة حماية المعارَضة أو اعتقال المسؤولين عن الاغتيال أو قصف مواقع للإرهابيين أو غيرها.
     فلم يبقَ أمام النظامين اللبناني والسوري وحلفائهما إلا تقديم التنازلات لتجنّب هذه الضغوطات، والتي كان أهمها:
1 - استقالة حكومة الرئيس عمر كرامي الحليفة لسوريا.
2 - إسقاط التُهم القضائية عن القيادي في المعارَضة العماد ميشال عون وعودته إلى لبنان.
3 - انسحاب الجيش السوري من لبنان.
4 - العفو عن قائد حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، أحد أهم رموز المعارَضة، ثم خروجه من السجن.
5 - القبول بالتحقيق الدولي في اغتيال الحريري وفقاً لقرارات مجلس الأمن، بدءًا من لجنة تقصِّي الحقائق الدولية ثم بلجنة التحقيق الدولية ثم بالمحكمة الدولية الخاصة بلبنان.
     فتكون الولايات المتحدة قد استفادت من اغتيال الحريري في إنقاذ نفسها من هزيمة تاريخية في العراق وفي التمهيد لاستمرار سياستها المهيمنة في العالمين العربي والإسلامي. أي إنه لو لم يكن هذا الاغتيال لكانت هذه الدولة قد انسحبت في ذلك الوقت من العراق وتقلص نفوذُها وزعامتها في العالم، أي لكانت قد مُنيَت بهزيمة تاريخية غير معروفة النتائج.
     إضافة قد استفادت الولايات المتحدة من هذه الجريمة من خلال تشويه صورة حزب الله وإظهاره كحزب إرهابي؛ لأنه عندما يُتهَم النظامان اللبناني والسوري بهذه الجريمة فمن الطبيعي أن أهم حلفائهما في الداخل الذي لديه ترسانة ضخمة من الأسلحة ويشكِّل دولةً داخل دولة، هو متهَم بدوره بالموافقة أو بالمشاركة أو بالتنفيذ. كما قد استفادت من هذه الجريمة من خلال إثارة العداء بين السنة والشيعة وبين إيران والعالم العربي، فالعمليات العسكرية والانتحارية بين السنة والشيعة في العراق لم تنشط شكل ملحوظ إلا بعد أسابيع من اغتيال الحريري.
     ما قد أوردناه هنا عن اغتيال الرئيس الحريري هو موجز للغاية؛ فمن يودّ التوسع في هذا الموضوع، أو التطرق إلى موضوع باقي الاغتيالات التي حصلت؛ فبإمكانه العودة إلى كتابي المشار إليه أعلاه.
ــــــ نأتي الآن إلى المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، أي الخاصة باغتيال الحريري.
     أية محكمة في أي مكان أو زمان، ولكي تستطيع أن تقوم بعملها، هي بحاجة إلى القوة العسكرية أو السياسية التي تؤمِّن حمايتها من ضغوطات المتقاضِين، أو أية أطراف لها مصالح في القضايا التي تنظر فيها.
     حول المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، فليس هناك من طرف محايد في العالم ليؤمِّن القوة العسكرية أو السياسية التي تستطيع حمايتها من ضغوطات المتقاضِين أو أية أطراف أخرى عندها استفادة من اغتيال الحريري؛ وبما أن الولايات المتحدة عندها استفادة قصوى وضرورية في أن تُدِين هذه المحكمة نظام إميل لحود أو نظام بشار الأسد أو حزب الله أو ثلاثتهم معاً في اغتيال الحريري، تصبح هذه المحكمة تحت تأثير ضغوطات المسؤولين الأمريكيين لتزوِّر النتائج بما يؤدي إلى إدانة هذه الأطراف، أي تصبح من دون أية مصداقية.       
     لنوضِّح الأمور أكثر، إذا افترضنا أن مسؤولين كبار عند حزب الله أو سوريا أو إيران حاولوا ممارسة ضغوطات على أحد القضاة أو المحققين في المحكمة الخاصة بلبنان والذي ينتمي إلى الجنسية الفرنسية أو الألمانية أو الكندية أو غيرها من الدول الغربية الحليفة للولايات المتحدة، فبإمكان أية دولة من هذه الدول، وبكل سهولة، أن تحمي هذا القاضي أو المحقِّق من هذه الضغوطات، لأنه، على سبيل المثال، بمجرد أن تُشيعَ عبر وسائل الإعلام العالمية أنه قد تعرَّض لها من قِبَل هؤلاء المسؤولين حتى يُعتبَر هذا بمثابة الدليل على تورط هذه الجهات بالاغتيال.
     لكن لنتصور أن مسؤولين أمريكيين قد حاولوا ممارسة ضغوطات على هذا القاضي أو المحقِّق؛ فهل الدولة الغربية التي ينتمي إليها ستحميه من هذه الضغوطات، أم على العكس ستشارك بها ؟ وهل الأمم المتحدة أو غيرها من المنظمات الدولية التي يعمل فيها ستحميه من هذه الضغوطات، أم على العكس ستشارك بها ؟ تاريخ هذه الدول وهذه المنظمات يدلُّ على أنها ستشارك بها. 
     أي إن المجتمع الدولي، على صعيد أنظمة الحكم والمنظمات الدولية، الذي، بمعظمه، لا يكتفي فقط بالصمت عن جرائم الولايات المتحدة في العالم بل يحاول أيضاً التغطية عليها أو المشاركة فيها إعلامياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو عسكرياً، فالمرجَّح أنه لن يكتفي فقط بالصمت عن تدخلها في عمل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بل سيحاول أيضاً التغطية عليه أو تسهيله أو المشاركة فيه. 
     أما عن القول بأن القضاة في المحكمة الدولية هم على درجة كبيرة من النزاهة وأنهم سيكونون استشهاديين في حرصهم على العدالة في مواجهة الضغوطات الأمريكية، فهذا القول هو على درجة كبيرة من السذاجة... فأية محكمة في العالم، ليست نزاهة القضاة فيها هي التي تؤمِّن مصداقيتها بل توفر القوة السياسية أو العسكرية التي تستطيع حمايتها من ضغوطات المتقاضين أو أية أطراف أخرى عندها مصلحة في التدخل في القضايا التي تنظر فيها.
  
ه - حول الوضع في ليبيا.
     مع بدء الاشتباكات بين الثوار وقوات القذافي، قامت جامعة الدول العربية (باستثناء سوريا والجزائر) بالطلب من مجلس الأمن بفرض حظر جوي لحماية المدنيين، فكان التدخل العسكري الغربي، تحت المظلة الأمريكية، الذي مكَّن من إسقاط نظام القذافي.
     لو كانت هذه الدول العربية تريد بالفعل حماية المدنيين في ليبيا، لكان بإمكانها وبسهولة تمرير السلاح والخبراء العسكريين إلى الثوار، لأن هؤلاء كانوا يسيطرون على حوالي 1000 كلم من الشاطئ. لكن أتى الطلب للتدخل العسكري الغربي لإهداء نصر سريع وسهل وكبير إلى الولايات المتحدة، بل أكثر من ذلك لإنقاذها من هزيمة كانت ستمنى بها بفعل ثورتي تونس ومصر.
     لتوضيح هذا الأمر، نذكِّر بالمبدأ الذي كانت ولا تزال هذه الدولة تتبعه للهيمنة على العالمين العربي والإسلامي، وهو الادعاء بوجود أنظمة قمعية فيهما وتقديم نفسها على أنها هي المنقِذ الذي سيجلب الحرية والديمقراطية والسلام. ما قد جرى في ثورتي تونس ومصر هو انتكاسة بالغة الأهمية لهذا المبدأ، إذ قد أثبت الثوارُ في هذين البلدين أنهم ليسوا بحاجة لتلقي دروس الديمقراطية من أحد، بل هم مَن يصلحون لإعطاء الدروس في الديمقراطية والحرية والأساليب السلمية في العمل السياسي. ما كان سيترتب على هذه الانتكاسة المهمة لهذا المبدأ المتَّبع للهيمنة في العالم العربي، هو أن القواعد الشعبية فيه كانت ستتحرك ليس فقط للمطالبة بتحسين الأوضاع الاقتصادية والديمقراطية، بل أيضاً لاتخاذ مواقف مناهضة للولايات المتحدة وإسرائيل. أي الأمر الذي كان سيشكِّل بداية هزيمة تاريخية للولايات المتحدة في العالم العربي.
     لكن هذه الدولة تداركت بسرعة هذه الهزيمة المنتظَرة من خلال التدخل العسكري الغربي في ليبيا، الذي تم تحت مظلتها، لتقدِّم نفسَها كجالبة للحرية والديمقراطية إلى العالم العربي، بدليل الحماية التي تقدِّمها للمدنيين في ليبيا من قمع قوات القذافي.
     فكان هذا التدخل نصراً سهلاً وكبيراً لها، ليس فقط نصراً عسكرياً بل أيضاً نصراً إعلامياً وسياسياً استعاد لها صورتها كجالبة للحرية والديمقراطية والسلام إلى العالم العربي؛ هذا النصر الذي أنقذها من هزيمة كانت ستمنى بها بسبب ثورتي تونس ومصر، تماماً كما أن اغتيال الحريري قد أنقذها من هزيمة كانت ستمنى بها في العراق.
     لذلك يصبح لا بد من التعامل مع التدخل العسكري الغربي في ليبيا على أنه اعتداء عليها، كخطوة مهمة في هذه الإستراتيجيا المقترَحة لإنهاء الزعامة العالمية للولايات المتحدة.
     أخيراً، نشير إلى أن بعض الأطراف في لبنان كانت قد وافقت على هذا التدخل العسكري في ليبيا تحت حجة أن نظام القذافي هو المسؤول عن إخفاء المرجع الشيعي الإمام موسى الصدر ورفيقيه أثناء زيارتهم لهذا البلد في العام 1978؛ لكن هذه المسألة لا تبرِّر الموافقة على هذا الأمر؛ فالإمام موسى الصدر كان من أكثر الذين عُرفوا في لبنان بمحاربة المشروع الصهيوني، والدفاع عن حقوق المحرومين والمظلومين، والدعوة للتلاقي والحوار بين المذاهب والأديان؛ أما السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط فهي النقيض لذلك، أي إنها أكثر طرف يدعم المشروع الصهيوني ويدوس على حقوق المحرومين والمظلومين ويفرِّق بين المذاهب والأديان. لذلك، كان قراراً خاطئاً أن يتم الانتقام لمقتل الإمام الصدر من خلال المظلة الأمريكية وأن يكون هذا الانتقام باباً لتحقيق أحد أهم الانتصارات الأمريكية في المنطقة بعد الحقبة السوفياتية؛ في حين كان بالإمكان، وبسهولة، تمرير المساعدات والسلاح إلى الثوار في ليبيا.

و - حول الوضع في سوريا، ما يهمُّنا فيه هو تحديد الطرف المسؤول أساساً عن الأحداث الأمنية فيها والمتهَم الأول بما يجري فيها من جرائم بحق المدنيين. 
     للوصول إلى هذا الأمر لا بد من الاعتماد على القاعدة التي تقول إن المستفيد الأول يكون المتهَم الأول. 
     فنظام الأسد، ومنذ بداية التحركات الشعبية، لم يكن مستفيداً من قمع المتظاهرين والمعارضين له بالقوة العسكرية، لأنه كان بإمكانه أن يحافظ على وجوده من خلال التظاهرات الشعبية الضخمة المؤيدة له والتي كانت أكبر في الحجم من تلك المعارِضة. فالتظاهرات الشعبية المعارِضة والضخمة، في أي بلد في العالم، عندما تطالب بتغيير النظام، فبإمكانها أن تحقق ذلك في حال لم يكن هناك من تظاهرات مؤيدة له تماثلها في الحجم؛ لأنه في هكذا وضع، يكون هناك تخوّف من أن يتبع التظاهراتِ المعارِضة الإضراباتُ الكبيرة ثم العصيان المدني، فينهار اقتصاد البلاد وتنهار معه القوات المسلحة. فهذه القوات، في هكذا وضع، حتى وإن كانت قياداتها موالية للنظام ومن أزلامه، فلكي تحافظ على اقتصاد البلاد وعلى وجودها فإنها تقوم بتنحية النظام الحاكم. وهذا ما قد حصل في تونس في تنحية نظام بن علي، وفي مصر في تنحية نظام مبارك.
     أما عندما توجد تظاهرات ضخمة مؤيدة للنظام، تماثل في الحجم تلك المعارِضة أو تكون أكبر منها، كمثل ما كان الوضع في سوريا، فما قد تقوم به المعارَضةُ من إضرابات وعصيان مدني سيبقى محصوراً في قواعدها الشعبية، بينما ستبقى أكثرية القواعد الشعبية موالية للنظام ومتعاونة معه ومحافظة على اقتصاد البلاد. أي ستكون القواعد الشعبية للمعارَضة من أكثر المتضررين من الإضرابات والعصيان المدني. في هكذا وضع ستبقى القوات المسلحة موالية للنظام ومحافِظة عليه.
     أما من جهة النظام في هكذا وضع، فمن الممكن أن يقوم بقمع المعارَضة بالقوة العسكرية، هذا في حال كانت البلاد جزيرة منعزلة أو كانت القوى العظمى في العالم راضية عن هكذا قمع. أما عندما تكون هذه القوى العظمى، بمعظمها، متربصةً بهذا النظام وتدَّعي أنها تحب شعبَه وتعطف عليه وتريد جلب الحرية والديمقراطية له، هنا يكون من مصلحة النظام أن لا يقمع المعارَضة بالقوة العسكرية بل أن يتركها تتظاهر، وفي نفس الوقت، يكون هناك في الجهة الأخرى تظاهرات موالية وداعمة له.
     أي إن نظام الأسد، وبعد النصر الكبير والسهل الذي حققته الولايات المتحدة في ليبيا، لم يكن من مصلحته قمع المعارَضة بالقوة العسكرية وتعريض البلاد لضغوطات خارجية لا حصر لها؛ في حين كان بإمكانه أن يحافظ على وجوده من خلال التظاهرات الضخمة المؤيدة له.
     مع التنبيه إلى أنه عند وجود الانقسام في القواعد الشعبية، في أي بلد في العالم، بين تظاهرات موالية للنظام وأخرى معارضة، فليس بالضرورة أن تبقى القوات المسلحة موالية للنظام. لأنه في حال كانت قياداتها ضده وراغبة في تغييره، فالمرجَّح أنها ستستغل الانقسام في القواعد الشعبية لتنقلب عليه؛ أي كمثل ما جرى في مصر في انقلاب القوات المسلحة على حكم الأخوان.
     بالعودة إلى الوضع السوري، وفيما يتعلق بالمعارَضة السورية فهي كانت مستفيدة من الأحداث الأمنية لأنها، أولاً، بعد أن فشلت في أن تربح الشارع السوري، أي لأنه كان هناك تظاهرات مؤيدة للنظام أكبر في الحجم من التي لها، كانت ذاهبة إلى هزيمة سياسية معتبَرة؛ وثانياً، لأن الولايات المتحدة مع أطراف عدة في الشرق الأوسط كانت قد ابتدأت بحملة سياسية وإعلامية كبيرة ضد النظام السوري متهمَةً إياه بالقمع والديكتاتورية؛ وثالثاً، لأن هذه الأطراف، أي الأمريكيين ومَن معهم، هم ليسوا جمعيات خيرية تريد جلب الحرية والديمقراطية إلى الشعب السوري بل يريدون بكل الوسائل جعل سوريا تحت المظلة الأمريكية، وليس من الصعب عليهم تمرير السلاح والمساعدات إلى المعارَضة.
     وبالتالي، كان لدى المعارَضة كل الاستفادة والإمكانية للقيام بالأحداث الأمنية؛ فقد كانوا يقومون بالتظاهرات السلمية وفي نفس الوقت بالعمليات العسكرية بأسلوب حرب العصابات للإيهام بأنهم معارَضة سلمية وبأن النظام هو مَن يقمعهم بالقوة العسكرية.
     بالنظر إلى هذا الأسلوب في العمل العسكري، ولأن الولايات المتحدة كانت قد حققت نصراً كبيراً وسهلاً في ليبيا أعاد لها صورتها كجالبة للحرية والديمقراطية إلى هذه المنطقة، ولأن هذه الدولة قد اصطفت إلى جانب المعارَضة السورية؛ فقد أصبحت هذه المعارَضة، مع حلفائها الخارجيين، في موقع القوي إعلامياً فيما يتعلق بالداخل السوري. أي إنه عند تضارب الأخبار بين المعارَضة والنظام حول أي حدث في الداخل السوري تكون حجة المعارَضة وحلفائها هي الأقوى إعلامياً على الصعيد العالمي.
     وبالنظر إلى هذه القوة الإعلامية، ما قد أصبح بإمكان المعارَضة القيام به هو تصعيد عملياتها العسكرية تدريجياً ضد النظام وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق المدنيين، ثم اتهام النظام بهذا التصعيد وبهذه الجرائم.
     واعتماداً على ما تقدّم، في الأحداث الأمنية التي تشهدها سوريا كما فيما يرتكب فيها من جرائم بحق المدنيين وصولاً إلى استخدام السلاح الكيميائي، فالمعارَضة المسلحة وحلفاؤها الخارجيون هم المستفيدون منها أكثر من غيرهم والمتهَمون بها قبل غيرهم. أي إن المئة ألف قتيل أو أكثر الذين سقطوا لغاية الآن في سوريا، فهم إما قد قُتِلوا من قبل المعارَضة أو أن هذه المعارَضة هي المسؤولة عن مقتلهم من خلال افتعالها التوترات الأمنية المستمرة.
     لكن كل هذا لا ينفي وجود عناصر تابعة للنظام ارتكبت التجاوزات، كمثل إطلاق النار على متظاهرين وما شابه، فأي جيش في العالم عندما يوجد في موقع حرج لا بد أن يَظهَر بين عناصره مَن يرتكبون التجاوزات. ومن الأمثلة على هذا ما ارتكبه الأمريكيون من تجاوزات في أبو غريب وغوانتنامو التي ضجَّ العالم بها.
     أما حول مسألة الوزير السابق في لبنان ميشال سماحة الذي اُتّهِم بنقل متفجرات من سوريا إلى لبنان بهدف اغتيال سياسيين ورجال دين لبنانيين من السنّة معارِضين للنظام السوري وتفجير بعض إفطارات رمضان في منطقة عكار الشمالية واغتيال قيادات وتفجير تجمعات للمعارَضة السورية في هذه المنطقة وأيضاً تفجير ممرات لتهريب الأسلحة فيها إلى المعارَضة في داخل سوريا... فالنظام السوري لا يستفيد من هذا الأمر بل على العكس يكون من أكثر المتضررين منه؛ لأنه سيفتح الباب بشكل كبير لفلتان أمني في هذه المنطقة وخروجها من سلطة الدولة (بدليل ما حدث قبل أشهر من ذلك إثر مقتل الشيخ عبد الواحد ومرافقه على أحد حواجز الجيش في هذه المنطقة وإثر اعتقال شادي المولوي)؛ الوضع الذي كان سيؤدي إلى القيام بالعمليات العسكرية ضده، أي النظام السوري، وبشكل كبير ومنفلت، انطلاقاً من هذه المنطقة اللبنانية كما لتمرير المساعدات منها إلى المعارَضة في الداخل السوري. وفي حال أراد هذا النظام الرد على هذه الاعتداءات بشكل واسع داخل الأراضي اللبنانية، فهذا سيكون بمثابة الحجة القوية لدى الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية للتدخل عسكرياً في لبنان لإقامة ما يُعرَف بمنطقة الحظر الجوي أو الممر الآمن للمساعدات الإنسانية.
     بالتالي، يكون الرأي الصائب حول ميشال سماحة، هو أنه إما أن تكون جهة ما قد لفَّقت له هذه التهمة وزوَّرت تلك الأشرطة والتسجيلات التي تُظهِره مسلِّماً المتفجرات لإشعال هذه الفتنة، أو أن يكون سماحة متعاوناً مع جهة ما لإسقاط نظام الأسد من خلال إشعال هذه الفتنة.
     بالنظر إلى كل ما تقدَّم، أصبح من الواضح أنه فيما يتعلق باغتيال الرئيس الحريري وصولاً إلى الأحداث الأمنية التي تشهدها سوريا ومسألة ميشال سماحة، فالتفكير المنطقي يذهب تلقائياً إلى أن الولايات المتحدة وحلفاءها الأساسيين في الشرق الأوسط إضافة إلى المعارَضة السورية، هم المستفيدون منها أكثر من غيرهم والمتهَمون بها قبل غيرهم. والذين هم في أي مكان في العالم ويوجِّهون الاتهامات بهذا الاغتيال وبهذه الأحداث إلى النظام السوري وحزب الله ومَن معهما يكونون إما من الموالين للولايات المتحدة ويروجون لسياستها وأكاذيبها، وإما من المخدوعين بالحملات الإعلامية الأمريكية ومقتنعين بأنها تعمل على جلب الحرية والديمقراطية إلى المنطقة.  
     وبما أن ما يجري في سوريا أصبح صراعاً عالمياً بين مَن يريدون استمرار الزعامة العالمية للولايات المتحدة ومَن يريدون تقويض هذه الزعامة، وبما أن المعارَضة السورية هي بمعظمها فئة متأمركة تطلب، بل وتتوسل، المساعدة العسكرية من قبل هذه الدولة وحلفائها؛ فإذا ما أردنا السَير في خطة تؤدي في النهاية إلى إنهاء هذه الزعامة فلا بد من تقديم كل دعم ضروري لنظام الأسد ليصل إلى فرض الأمن والاستقرار على كامل الأراضي السورية.
      وبالطبع مع الإبقاء على حق أية فئة في الداخل السوري في العمل السياسي السلمي المعارِض للنظام.

ز - بالعودة إلى الإستراتيجيا المقترَحة لإنهاء الزعامة العالمية للولايات المتحدة؛ قلنا إن هذه الإستراتيجيا هي الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى النمو الاقتصادي والتطور والتحسن في الممارسة الديمقراطية في العالم العربي وباقي دول الجنوب.
    لتوضيح هذا الأمر نشير أولاً إلى التحالف القائم بين الولايات المتحدة وإسرائيل والدول الاستعمارية الأوروبية ودول غربية صناعية أخرى، حيث الولايات المتحدة هي الحامية والمتزعمة عليها؛ كما نشير، من جهة أخرى، إلى أن الدول العربية كما معظم باقي دول الجنوب، أي تلك الممتدة من أمريكا اللاتينية إلى أفريقيا إلى جنوب آسيا، قد عانَت من اعتداءات بالغة من قبل الولايات المتحدة أو إحدى هذه الدول الحليفة لها، أو قد عانَت من هكذا اعتداءات إحدى الدول التي يجمعها معها الانتماء إلى أمة واحدة أو قواسم مشتركة مهمة. وبنتيجة هذا الوضع أصبح هناك انقسام في القواعد الشعبية في أي من الدول العربية وغيرها من باقي دول الجنوب، بين تيار موالٍ للولايات المتحدة وآخر معارِض لها. فإذا ما كان التيار المعارِض للولايات المتحدة هو مَن يتولى السلطة في أيٍّ من هذه البلدان يكون هناك تخوف من تعرّض البلاد لاعتداءات من قبل هذه الدولة أو إحدى تلك الدول الحليفة لها، أو أن يتمرد عليه التيار الموالي لها بدعم وتشجيع منها؛ وإذا ما كان التيار الموالي لها، أي للولايات المتحدة، هو مَن يتولى السلطة فيكون هناك تخوف من أن يتمرد عليه التيار المعارِض لها.
     وبنتيجة هذا التخوف من التوترات الأمنية المستقبلية سيبقى هناك بطء في النمو الاقتصادي، لأن سرعة النمو الاقتصادي تحتاج إلى توفر الثقة في الاستقرار الأمني المستقبلي، وهذه قاعدة معروفة في علم الاقتصاد.
     هكذا نكون قد أوضحنا السببَ الأساسي في مشاكل الفقر وبطء النمو الاقتصادي في معظم البلدان العربية وبلدان الجنوب.
     ومن نتائج التخوف من التوترات الأمنية المستقبلية هو السلطة القمعية أي غياب الديمقراطية. لتوضيح هذه المسألة سنعطي هذا المثل. الولايات المتحدة، والتي هي الدول الأكثر قوة في العالم، ما أن ظهر تهديد بسيط لأمنها القومي بعد هجمات 11 أيلول 2001 من قبل تنظيم القاعدة وغيره من التنظيمات الأصولية المتطرفة، أي بمجرد أن كان هناك تخوف بسيط من توترات أمنية مستقبلية، حتى كان هناك قوانين كمثل باترويت آكت وقانون تفويض الدفاع الوطني وقانون التجسس، التي تتضمن ما يشكِّل انتهاكاً للحقوق والحريات المدنية للأمريكيين تحت حجة محاربة الإرهاب والمحافظة على الأمن القومي. فمما تتضمنه هذه القوانين هو السماح للأجهزة الأمنية بالتنصت على المواطنين الأمريكيين والاطلاع على المعلومات الشخصية عنهم ومداهمة منازلهم لمجرد الاشتباه أن لهم علاقة بالإرهاب ومن دون إذن قضائي، وكذلك اعتقالهم إلى أجل غير مسمى من دون توجيه تهمة لهم ومن دون محاكمة.
     أي إنه بمجرد حصول اهتزاز بسيط في الأمن القومي في الولايات المتحدة حتى كان هناك خطوة مهمة في سوء الممارسة الديمقراطية فيها. فكيف هو الحال إذاً في الدول العربية وباقي دول الجنوب التي كان ولا يزال الأمن القومي فيها مهتزاً منذ عشرات السنين. أما عن السبب في هذا الاهتزاز في الأمن القومي فهو، كما قلنا، حصول انقسام في القواعد الشعبية في أيٍّ من هذه الدول بين تيار موالٍ للولايات المتحدة وآخر معارِض لها وما يترتب على هذا الانقسام من مخاوف من توترات أمنية سواء أكان أي من التيارين في السلطة.
     وهذا هو السبب الحقيقي في سوء الممارسة الديمقراطية في الدول العربية وغيرها من دول الجنوب.    
     أيضاً في هذه الأجواء يكون هناك بطء في التطور، أي في نمو الاقتصاد الصناعي، لأنه في حال التسريع في هذا النمو فما سيترتب عليه هو بناء القوة الاقتصادية والعسكرية؛ الأمر الذي لن يرضى عنه الأعداءُ التاريخيون لدول الجنوب، أي الولايات المتحدة والدول الاستعمارية الأوروبية وغيرها من الدول الغربية الصناعية الحليفة لها وإسرائيل، والذين قد يحاولون عرقلته من خلال افتعال التوترات الأمنية في هذه الدول أو الاعتداءات عليها. ولأن شعوب هذه الدول سيكون عندهم تخوف من حصول هكذا عراقيل، فيقومون تلقائياً ( لا شعورياً ) بتبطيء التطور في بلدانهم.
     وهذا هو السبب الأساسي في بطء التطور، أي في بطء الخروج من التخلف، الذي تعاني منه معظم دول الجنوب. 
     من الواضح أن ما أوردناه هنا عن أسباب بطء التطور وسوء الممارسة الديمقراطية هو موجز للغاية، فمن يريد التوسع فيه والاطلاع على الإطار العلمي له فبإمكانه العودة إلى كتابي المشار إليه أعلاه، الفصل العاشر.
     واعتماداً على ما تقدم، يكون الرأي الذي يَعتبِر أن ثورات الربيع العربي ستؤدي إلى النمو الاقتصادي والديمقراطية، ولو بعد عدة سنوات، خطأً؛ كون المشكلة الأساسية ستبقى هي ذاتها. أي في حال كان النظام الجديد موالياً للولايات المتحدة سيكون هناك تخوف من أن يتمرد عليه التيار المعارِض لها، وفي حال كان النظام الجديد معارِضاً لها سيكون هناك تخوف من تعرض البلاد لاعتداءات من قبلها، أي الولايات المتحدة، أو إحدى حليفاتها الأساسيات كما سيكون هناك تخوف من أن يتمرد عليه التيار الموالي لها بدعم وتشجيع منها. فثورات الربيع العربي لن تؤدي، ولو بعد ألف عام، إلا إلى زيادة الفقر وزيادة الديكتاتوريات، أو سيكون هناك ديمقراطية شكلية لكن مترافقة مع حالة عدم استقرار أمني مستمرة.
     لكي تحقق أية دولة عربية، أو أية دول من باقي دول الجنوب، النمو الاقتصادي والديمقراطية والتطور، علها أن تعالج أصل المشكلة. أي عليها إما أن تتصالح ( بقواعدها الشعبية ) مع الأمريكيين والمستعمرين الأوروبيين والإسرائيليين وباقي الدول الغربية الصناعية الحليفة لهم على حساب التضحية بحقوقها والدوس على كرامتها، وإما أن تسير في خطة تؤدي في المستقبل المنظور إلى إلحاق الهزيمة بزعامة الولايات المتحدة العالمية، مما يمهد لمحاسبتها، هي وحليفاتها، على جرائمها.
     فما قد أوردناه هنا هو أفضل إستراتيجيا من الممكن أن توضع في هذه الظروف وتؤدي إلى هذه النتيجة، أي إنهاء الزعامة العالمية للولايات المتحدة وإلحاق هزيمة كبرى بها، وفي نفس الوقت هي أفضل إستراتيجيا تؤدي إلى انتصار النظام السوري في الحرب العالمية التي تخاض على أرضه، وفي نفس الوقت هي أفضل إستراتيجيا تؤدي إلى تسريع انتقال الدول العربية وغيرها من باقي دول الجنوب إلى النمو الاقتصادي والديمقراطية والتطور، مما سيكون له أثره على تسريع النمو الاقتصادي والتطور في معظم أنحاء العالم. بل هي الإستراتيجيا الوحيدة الممكنة التحقيق التي في حال نجاحها لن تؤدي فقط إلى إنهاء زعامة الولايات المتحدة بل أيضاً ستفتح الباب أمام معظم دول الجنوب للخروج في المستقبل المنظور من مشاكل أو مآسي التوترات الأمنية والفقر وسوء التغذية والمجاعة وسوء الرعاية الصحية والكوارث الطبيعية والبطالة والأمية وسوء الممارسة الديمقراطية وغيرها...
     فعلى المقتنعين بهذه الإستراتيجيا أن يبادروا في التنفيذ في المرحلة الأولى، من خلال مطالبة أنظمة الحكم في أي مكان في العالم بتبني المواقف الواردة أعلاه والمتعلقة بلبنان وسوريا وليبيا والولايات المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية. وهذه المطالبة، تكون، بالطبع، من خلال الوسائل الديمقراطية والتي منها التظاهرات والإضرابات.     
     كما أن أي فرد، في أي مكان في العالم مقتنِع بها، فبإمكانه أن يقوم من تلقاء نفسه بعمل فردي في هذا المجال، على الأقل، عبر نشر ملخص لها من خلال ما هو متوفر لديه من وسائل إعلام. وسنقدِّم الآن ملخصاً لهذه الإستراتيجيا في حوالي صفحتين.
     الملخَّص هو التالي:

مساهمة أيِّ فرد في إنهاء الزعامة العالمية للولايات المتحدة
                                                                                
1 - إن كل شخص مقتنِع بأن الزعامة العالمية للولايات المتحدة لن تجلب إلى العالم إلا الحروب والمآسي وجمود الأوضاع الاقتصادية والفقر، وبأن إنهاء هذه الزعامة وإلحاق هزيمة كبرى بها سيحسِّن إلى حد بعيد من أوضاع العالم بأسره، فلا يمكنه الاعتماد بهذا على أنظمة الحكم الحالية أو المؤسسات الدولية، بل إن الطريقة الوحيدة الممكنة هي في تحركات شعبية في مختلف البلدان تطالب أنظمة الحكم وتضغط عليها بالوسائل الديمقراطية، والتي منها التظاهرات والإضرابات، لاتخاذ قرارات مناهضة للولايات المتحدة، من خلال عدة مراحل.
2 - المرحلة الأولى تتعلق بلبنان وسوريا وليبيا والولايات المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية، فيكون هناك مطالبات لمختلف أنظمة الحكم لتوافق على ما يلي:                 
أ - حول لبنان، عدم التعاون مع المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي أُنشئت لمحاكمة قتلة رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، ورَفض كل قرارات مجلس الأمن ذات الصلة؛ من منطلق أن الولايات المتحدة هي المستفيد الأول من هذه الجريمة وأن إدارة الرئيس جورج بوش هي المتهَم الأول بها، وأنه ليس هناك أية مصداقية لهذه المحكمة، وأنها أداة لخدمة المصالح الأمريكية في المنطقة خاصة في لبنان وسوريا. كذلك، تقديم كل دعم ممكن إلى لبنان في مواجهة أية ضغوطات تتعلق بهذه المسألة. 
ب - حول سوريا، رَفض أية ضغوطات تمارَس على نظام الرئيس بشار الأسد تتعلق بمسألة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، كذلك رَفض أية ضغوطات عليه تكون تحت حجة حماية التحركات الشعبية المعارِضة في الداخل السوري من قمع أجهزة النظام، ورفض أية مساعدات عسكرية أو اقتصادية تقدَّم إلى الجناح العسكري للمعارَضة؛ من منطلق أن هذه الضغوطات هي من ضمن مسلسل مستمر على سوريا منذ احتلال العراق في العام 2003 تهدف إلى جعلها في المحور الأمريكي، وأن المسؤولية الأساسية للتوترات الأمنية في سوريا تعود إلى المعارَضة وحلفائها الخارجيين من أمريكيين ومَن معهم، وأن هؤلاء هم المتهَمون قبل غيرهم بما جرى من جرائم بحق المدنيين السوريين. كذلك، تقديم كل دعم ممكن إلى هذا النظام في مواجهة هذه الضغوطات، وفي مواجهة أعمال العنف الجارية في الداخل. 
ج - حول ليبيا، اعتبار أن التدخل العسكري الغربي الذي تم فيها تحت حجة الحظر الجوي وحماية المدنيين هو اعتداء عليها، يهدف إلى الهيمنة عليها وسرقة خيراتها وجعل التحركات الشعبية المعارِضة التي تحصل في العالم العربي تحت مظلة الولايات المتحدة وزيادة نفوذها فيه؛ ومطالبة الدول التي اشتركت في هذا التدخل العسكري والتي قدَّمت الدعم المادي والسياسي له بدفع التعويضات لليبيين. وأيضاً إيجاد ضمانات سياسية وأمنية للقاعدة الشعبية الموالية للقذافي، وعدم إجراء أية محاكمة لأيِّ مسؤول في نظام القذافي في الداخل إلا في ظل هذه الضمانات، وعدم تقديم أيِّ منهم إلى المحكمة الجنائية الدولية. 
د - حول الولايات المتحدة، تخفيض التمثيل الدبلوماسي فيها، ووقف أيِّ تعاون عسكري معها، أي وقف أيِّ تدريب للعسكريين فيها وشراء الأسلحة منها والمناورات المشترَكة معها والانسحاب من أية أحلاف عسكرية معها وإزالة أية قواعد عسكرية لها في البلد المعني.
هـ - حول المحكمة الجنائية الدولية، رَفض أيِّ تعاون مع هذه المحكمة في أية قضية داخل العالم العربي أو خارجه والانسحاب من عضويتها، من منطلق عدم مصداقيتها وأنها أصبحت إحدى مؤسسات العدالة الدولية الموضوعة في خدمة السياسة الأمريكية.
3 - بعد أن تكون المطالبات حول المرحلة الأولى قد أدَّت إلى النتائج المرجوة، سيكون هناك مطالبات أخرى قد تتضمن المقاطعة السياسية أو الاقتصادية للولايات المتحدة، أو أية معارك سياسية أو اقتصادية أخرى حسب المستجدات، وصولاً إلى المطالبات لإلزامها بالاعتراف بكل جرائمها بحق الشعوب الأخرى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
4 - في المراحل المتقدمة من هذه المواجهة سيكون من الضروري المطالبة بالانسحاب من الأمم المتحدة وتأسيس منظمة دولية أخرى تُعنى بالسلام العالمي والتعاون بين الشعوب. من منطلق فشل هذه المنظمة في المحافظة على السلام العالمي بسبب حق العضوية الدائمة والنقض في مجلس الأمن المعطى للخمس الدول وخاصة بسبب هيمنة الولايات المتحدة في كثير من الأحيان على هذا المجلس.
5 - مع بداية نهاية الزعامة العالمية للولايات المتحدة، وانطلاقاً من كون إسرائيل هي من الناحية الإستراتيجية بمثابة الجزء منها، سيكون بالإمكان المطالبة بفرض حل عادل فيما يتعلق بالدولتين الإسرائيلية والفلسطينية يقوم على أساس أن إسرائيل كيان مغتصَب وغير شرعي. من ضمن هذا الحل، سيكون هناك ضرورة لإشراك كل من بريطانيا والولايات المتحدة بالمسؤولية المعنوية والمادية للوجود غير الشرعي لإسرائيل وللجرائم التي ارتكبتها بحق شعوب المنطقة.
     كذلك سيكون هناك ضرورة لرعاية ودعم قيام اتحاد بين الدول العربية يقوم أساساً على البرلمان العربي المشترَك، بالنظر إلى أهمية هذه الخطوة في إنهاء حقبة المشروع الصهيوني في المنطقة، وفي العملية التنموية في العالم العربي.
6 - بعد تحقيق هذه المراحل والوصول إلى إنهاء الزعامة العالمية للولايات المتحدة وإلحاق هزيمة كبرى بها، فإن معظم أنحاء العالم ستنعم بالاستقرار الأمني وبالتسريع في النمو الاقتصادي والتطور في مختلف المجالات.
7 - من الضروري القيام بنشاط إعلامي، فردي أو جماعي، في جميع البلدان لنشر هذه الورقة وشرحها والدفاع عنها في كل الوسائل الإعلامية المتاحة.
8 - في حال لم يكن بالإمكان في أيِّ بلد القيام بتحرك جماعي لمطالبة نظام الحكم والضغط عليه لإقرار ما هو وارد في هذه الورقة، بالنظر إلى سلطة قمعية يمارسها هذا النظام أو إلى قلة المقتنِعين بما هو وارد فيها، فسيكون من المفيد أن يقوم كل شخص مقتنِع بها بتحرك فردي، على الأقل، لنشرها بكل الوسائل المتاحة له، لأن هذا من شأنه أن يمهِّد تدريجياً لنمو قاعدة شعبية في ذلك البلد تكون مقتنِعة بها ومستعدة للتحرك الجماعي لإقرارها.  

     انتهى الملخَّص لهذه الإستراتيجيا. وكما هو واضح لقد أضفنا إليه الرابط الذي يوصل إلى هذه المقالة، لمن يود الاستزادة في الاطلاع على ما ورد فيه.     
     إضافة إلى ما تقدم، وبالنظر إلى الأهمية الحالية للوضع السوري على الساحة الدولية، فمن الأفضل زيادة المقدمة التالية على هذه الورقة، وهي: "المقدمة: مَن كان راغباً في انتصار النظام السوري في الحرب العالمية التي تجري على أرضه، وأن يتم في نفس الوقت إلحاق هزيمة كبرى بالولايات المتحدة وإنهاء زعامتها العالمية، فليقم بنشر هذه الورقة والدفاع عن محتواها ومطالبة حكومة بلاده بإقرار المطالب الواردة في المرحلة الأولى فيها:..."
     
ح - للتوسع في أهمية هذه الإستراتيجيا فيما يتعلق بالوضع السوري، ولإظهار كيفية مواجهة الخطاب الديني الأصولي المتطرف عند المعارضة السورية، انظر المقالة "النظام السوري والخيار الوحيد أمامه للنصر (الملخّص)": 
     للاستزادة عما ورد في هذه الإستراتيجيا عن الأوضاع في لبنان وسوريا، أي فيما يتعلق باغتيال الحريري وباقي الاغتيالات والتفجيرات التي تم ربطها به والمحكمة الدولية الخاصة بهذه الجريمة والحرب الدائرة في سوريا وما يجري فيها من جرائم بحق المدنيين ومسألة ميشال سماحة، انظر العشر مقالات تحت عنوان: "حول المساندة الإعلامية للنظام السوري وحزب الله" بدءًا من المقالة الأولى على الرابط:
     ومع التنبيه إلى أن هذه الإستراتيجيا هي موضوعة بناءً على ما قمتُ به من دراسات معمَّقة وغير مسبوقة في علوم السياسة والإستراتيجيا والتنمية والسوسيولوجيا، والتي من ضمنها خمس نظريات جديدة في السوسيولوجيا (الأنتروبولوجيا المجتمعية) كنتُ قد توصلتُ إلى صياغتها؛ وكل ذلك قد أوردته في كتابي "حول الأزمة اللبنانية ونهاية الزعامة العالمية للولايات المتحدة". انظر في هذا الإطار المقالة "التقييم العلمي للكتاب بوصفه دراسة غير مسبوقة في الأنتروبولوجيا المجتمعية":
     للتوسع في هذه الإستراتيجيا، وخاصة لجهة الصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية، ولإظهار كيف أن الولايات المتحدة، كدولة وشعب وحضارة، يصح وصفها بالتخلف الفكري وقلة ديمقراطية ورعاية الإرهاب، ولتبيان كيفية استخدام هذا الأمر في الخطة أعلاه لمحاربة هذه الدولة والتسريع في انهيارها وهزيمتها؛ انظر المقالة "الولايات المتحدة من حيث التخلف الفكري فيها":
     للتوسع أكثر في كل ما هو وارد أعلاه عن هذه الإستراتيجيا، وأيضاً للاطلاع على الدراسات والنظريات التي بموجبها تم توضيح كيف أن الزعامة العالمية للولايات المتحدة وتحالفها مع المستعمرين الأوروبيين وإسرائيل هي المسبب الأساسي لحالة قلة الاستقرار الأمني والفقر والتخلف في العالم العربي ومعظم دول الجنوب، وأنه لا يمكن لهذه المناطق أن تنعم بالاستقرار الأمني والنمو الاقتصادي والتطور والديمقراطية إلا بإلحاق هزيمة كبرى بالولايات المتحدة وإنهاء زعامتها العالمية؛ انظر كتابي الوارد أعلاه "حول الأزمة اللبنانية ونهاية الزعامة العالمية للولايات المتحدة" الفصول من التاسع إلى الثاني عشر.
         
عامر سمعان، باحث وكاتب
24/ 1/ 2013 .    

ملاحظة: تمت كتابة هذه المقالة قبل إعلان النظام السوري عن رغبته في نزع السلاح الكيميائي في 9/ 9/ 2013؛ وهذا الأمر تطلب إضافات على الخطة الواردة أعلاه لكي تبقى على ما هي من فاعلية في إنهاء الأحداث السورية وإلحاق الهزيمة المرتجاة بالولايات المتحدة... حول هذه الإضافات انظر المقالة "الكيميائي والخطأ الإستراتيجي الكبير":
     حول الملخَّص لهذه الخطة بعد هذه الإضافات انظر المقالة "نحو الانتصار في سوريا وهزيمة أمريكا":
http://www.amersemaan.com/2013/10/blog-post_4147.html
عامر سمعان، تم آخر تنقيح لهذه المقالة في 13/ 1/ 2014.