الحلقة الأولى: القوة الحقيقية للمعارضة السورية
لكي يصار إلى وضع
خطة تمكِّن النظام السوري من حسم الأمور لصالحه وبسط سيادة الدولة خلال فترة
قصيرة، كمثل أسابيع، لا بد أولاً من معرفة القوة الحقيقية التي تستند عليها
المعارضةُ، عملاً بالقاعدة التي تقول: "اعرف عدوَك".
باستثناء قلة قليلة من المعارضة السورية التي
ترفض التدخل العسكري الخارجي وتلتزم بالمعاداة للسياسة الأمريكية، إلا أن معظم هذه
المعارضة هي متأمركة تطلب وتتوسل المساعدة العسكرية من قبل الولايات المتحدة
وحلفائها وقد صدرت عنها تصريحات واضحة تشير إلى معاداة حزب الله وإيران وإلى
الرغبة في التغيير في السياسة الخارجية السورية.
هذه المعارضة
المتأمركة تستمد قوتها من الدعم الإعلامي والسياسي والاقتصادي والعسكري الذي يصلها
من قبل الولايات المتحدة أو من قبل حلفائها في الشرق الأوسط أو في أوروبا أو غيرها...
لكن قوتها الحقيقية تكمن في مجال آخر؛ لكي يتوضح لنا هذا المجال علينا أن نلقي
نظرة فاحصة عليها وعلى الذين يدعمونها في الخارج.
نلاحظ أن هذه
المعارضة المتأمركة تتألف من فئتين، علمانية وإسلاموية. كذلك نلاحظ أن مَن
يدعمونها في الخارج، في أي مكان في العالم، هم بدورهم في فئتين، علمانية
وإسلاموية. الفئة العلمانية، في الداخل السوري وخارجه، هم من ضمن التيار الموالي لسياسة
الولايات المتحدة في القواعد الشعبية في أي مكان في العالم، والذين بالطبع يفضلون
أن تكون جميع الدول العربية تحت المظلة الأمريكية.
الفئة الإسلاموية، هي
في الداخل السوري تتألف من مسلمين سنّة يهدفون إلى إقامة دولة إسلامية أو دولة برداء
إسلامي، أي كمثل مصر أو تونس أو السعودية
أو تركيا، وأن تكون تحت المظلة الأمريكية. وبالرغم من كونهم أقلية مقارنة بالسنة
من سكان سوريا الموالين للنظام، كما هو حال المعارضة السورية بفئتيها التي هي
أقلية مقارنة بالموالين للنظام، إلا أنهم يحظون بدعم من قبل إسلامويين سنّة يشكلون
الأكثرية في العالمين العربي والإسلامي. وهنا تكمن القوة الحقيقية للمعارضة
السورية، لأن هؤلاء الأكثرية يعتبرون أن إقامة دول إسلامية أو برداء إسلامي في
العالمين العربي والإسلامي تكون تحت المظلة الأمريكية هي أفضل طريقة لرفع شأن
المسلمين والدين الإسلامي.
السبب في هذا الأمر
يعود إلى ما يلي:
حصلت في العقدين
الأخيرين عدة انتصارات متتالية للولايات المتحدة، وهي: تفكك الاتحاد السوفياتي في
بداية التسعينات، احتلال العراق للكويت ثم قيام أمريكا بتحريره في العام ١٩٩١،
قيام هذه الدولة بتحرير كوسوفو من الصرب في العام ١٩٩٩، اعتداءات ١١ أيلول ٢٠٠١ ما
أثبت تخلف وإرهاب الأصوليين المعارضين لها، الاحتلال الأمريكي للعراق في العام ٢٠٠٣، اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام ٢٠٠٥ ما أثبت ادعاءات أمريكا بجلب
الحرية والديمقراطية إلى المنطقة، التدخل الغربي العسكري في ليبيا تحت مظلتها في
العام ٢٠١١. ولم يخرق هذه السلسلة من الانتصارات إلا انتصارين لحزب الله على
إسرائيل في العامين ٢٠٠٠ و٢٠٠٦.
نتيجة لهذه
الانتصارات المتتالية، تعلَّمَ معظمُ الحكام في العالمين العربي والإسلامي الدرسَ
بسرعة، وهو أن عليهم أن يسيروا وراء الثور الأمريكي وإلا سيكون مصيرهم كمثل صدام
حسين أو معمر القذافي أو بشار الأسد؛ كما أن معظم الشعوب في هذين العالمين أصبح
عندهم القناعة بأنه لا يمكن هزيمة الولايات المتحدة وبأن دولهم محكوم عليها أن
تبقى تحت مظلة هذه الدولة.
والبقاء تحت المظلة
الأمريكية يعني أحد الخيارين: الأول هو نظام علماني، أي كمثل نظام حسني مبارك أو
بن علي، الثاني هو نظام حكم إسلامي أو برداء إسلامي. فما هو الفرق بين الاثنين ؟
لتوضيح الفرق نشير
إلى أن العالم بأسره يعيش منذ بدايات القرن العشرين، عصرَ القيادة الحضارية
والثقافية الغربية. أي إن معظم شعوب العالم تأخذ من العالم الغربي، الذي على رأسه
الولايات المتحدة، العلوم والمعارف والمنتوجات الصناعية، كما تأخذ منه صبغة ثقافية
كمثل اللباس الغربي وبعض العادات كالمأكولات والموسيقى والمفردات اللغوية؛ فيكون
عندها نتيجة لذلك تبعية حضارية وثقافية للغرب. بالتالي، عندما تكون أية دولة من
دول الجنوب تحت المظلة الأمريكية فهذا يعني أن عندها تبعية حضارية وثقافية وسياسية
للغرب. لكن عندما يكون لهكذا دولة نظام حكم إسلامي أو برداء إسلامي، فهذا يعني
التبعية السياسية والحضارية للغرب لكن ليس التبعية الثقافية؛ كون تطبيق بعض مظاهر الشريعة
الإسلامية كمثل اعتبار هذه الشريعة المصدر للدستور والقوانين وارتداء الحجاب
والتضييق على حريات المرأة واللباس التقليدي للرجل وإطلاق اللحى ووضع عبارات
التكبير والبسملة والشهادة على كل شاردة وواردة إلخ... تعطي استقلالية ثقافية عن
الغرب؛ إضافة إلى ما يعنيه الحجاب من التشدد في المحافظة على الأخلاقيات مقارنة
باللباس غير المحتشم للنساء كما هو دارج في الغرب...
وكل هذا يعني أن نظام
حكم إسلامي أو برداء إسلامي تحت المظلة الأمريكية هو محافظة على الكرامة وعزة
النفس للشعب أكثر من نظام حكم علماني تحت هذه المظلة. ولما كان يعود الفضل إلى الدين
الإسلامي في هذه الكرامة وعزة النفس، يصبح نظامُ الحكم الإسلامي أو برداء إسلامي
هو، في نفس الوقت، رفعاً لشأن هذا الدين.
وهكذا يصبح، في زمن
الانتصارات الأمريكية والإحباطات في العالمين العربي والإسلامي، إقامةُ أنظمة حكم
إسلامية أو برداء إسلامي تحت مظلة الولايات المتحدة أفضل طريقة لرفع شأن المسلمين
والدين الإسلامي. ورفع الشأن هذا له علاقة بالمسألة الإيمانية، أي إن قسماً كبيراً
من المعارضة السورية والداعمين لها عندهم إيمان حقيقي بأن محاربة النظام السوري لإقامة
نظام حكم إسلامي أو برداء إسلامي تحت المظلة الأمريكية هو أمر يرضي الله بل ويستحق
حتى الاستشهاد من أجله...
فأن يتم إخراج
سوريا بهذه السهولة من جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي ويتم تناسي
الدعم الكبير الذي قدَّمته إلى حزب الله ومعارضتها للسياسات الأمريكية والصهيونية ويتم
تجاهل التظاهرات الكبيرة المؤيدة للنظام التي أثبتت وجود أكثرية موالية له وأن
يكون هناك دعوات في مختلف العالم الإسلامي للجهاد فيها وأن تصل الأمور إلى حد
إصدار فتاوى تجيز قتل المدنيين الموالين للنظام وجهاد النكاح وسبي النساء فيها...
كل هذا لا يصح تفسيره إلا في السياق الوارد أعلاه.
وهذا لا يمنع من
وجود جماعات أصولية متطرفة معارضة للولايات المتحدة تحارب النظام السوري على أمل
إقامة نظام حكم إسلامي يكون معارضاً بدوره لهذه الدولة؛ لكن هذه الجماعات، في حال
وجودها، تكون محجَّمة جداً مقارنة بالمد الكبير من قبل الفريق الأصولي الآخر الذي
يعمل لأن تكون سوريا تحت مظلة هذه الدولة.
وبالطبع يبقى هناك
في العالمين العربي والإسلامي فريقٌ آخر يشكِّل أقلية فيهما لا يزال مصراً على
معارضة السياسة الأمريكية وتقديم الدعم للنظام السوري، ومن ضمنه أصحاب توجهات
أصولية، من سنّة وشيعة، كمثل إيران وحزب الله.
وهكذا يتضح القوة
الحقيقية التي تستند عليها المعارضة السورية، فهي أولاً تتلقى الدعم الإعلامي
والسياسي والاقتصادي والعسكري من قبل الولايات المتحدة أو حلفائها، وثانياً،
والأهم، أنها جزء من مد أصولي يشكل الأكثرية في العالمين العربي والإسلامي يَعتبر
أن إقامة أنظمة حكم إسلامية أو برداء إسلامي فيهما تحت المظلة الأمريكية هو أفضل
طريقة في هذا الزمن لرفع شأن المسلمين والدين الإسلامي.
في مواجهة عدو بهذه
الضخامة يصح القول إن صمود النظام السوري والقاعدة الشعبية الموالية له كان عملاً
بطولياً بكل ما للكلمة من معنى. لكن نتائج البطولات هي ليست من دون حدود. أي إن الأمور ذاهبة إما إلى سقوط
النظام وإما إلى مسلسل لا نهائي من المعارك والمذابح والتهجير والتدمير؛ وأي كلام
غير هذا هو ليس إلا من باب رفع المعنويات.
لكن هذا ليس نهاية
الطريق، فإذا ما تم وضع الإستراتيجيا المناسبة في هذه الحرب العالمية يصبح
بالإمكان تغيير الأمور مئة وثمانين درجة لتمكين النظام من حسم الأمور لصالحه وبسط
سلطة الدولة حتى خلال أسابيع، بل وإدخال الولايات المتحدة في مأزق يكون بداية
نهاية زعامتها العالمية.
تقوم هذه
الإستراتيجيا على خطوتين متزامنتين، الأولى، هي اعتبار أن ما يجري هو ليس حرباً
بين النظام ومتمردين أو إرهابيين أو تكفيريين بل بين النظام والولايات المتحدة بذاتها
التي المعارضة ما هي إلا إحدى أدواتها، وأن يتم الإعلان عن خطة واضحة للمواجهة من
قبل النظام أو الداعمين له داخل سوريا وخارجها كمثل المقاطعة الاقتصادية والسياسية
للولايات المتحدة وما شابه. الخطوة الثانية هي في اعتماد خطاب تكفيري يكون في
مواجهة الخطاب التكفيري للمعارضة، فكما أن هذه الأخيرة تدَّعي أن محاربة النظام
السوري هي الطريق المؤدية إلى الجنة، يكون الخطاب المضاد هو إن محاربة الولايات
المتحدة، الشيطان الأكبر، هي ما يرضي الله أو من الطرق المؤدية إلى الجنة، وإن
التحالف معها لا يمكن أن يؤدي إلا إلى جهنم؛ وإن المسلم أو المسيحي لا يمكن أن
يكون مسلماً حقيقياً أو مسيحياً حقيقياً وفي نفس الوقت يكون متحالفاً مع هذه
الدولة، وكذلك الأمر لمن ينتمي إلى أي دين آخر...
في هذه الأجواء
يسقط المنطق الموجود عند المعارضة وحلفائها الذي يَعتبر أن محاربة النظام السوري هو
الطريق المؤدية إلى الجنة، كونه سيتم تسليط الأضواء على منطق آخر يَعتبر أن عدم
التواجد تحت مظلة الولايات المتحدة، أي عدم التبعية السياسية لها، هو ما يرضي الله
وبغض النظر إن كان هناك تبعية ثقافية للغرب أم لا؛ كون التبعية السياسية لها تعني
المشاركة أو السكوت عن جرائمها بحق الشعوب المسلمة وغيرها في الكثير من مناطق
العالم. أي إن ذلك التوجّه الإيماني عند المعارضة وحلفائها الذي يصب في محاربة النظام
السوري سوف يخف لصالح توجّه إيماني مضاد يصب في محاربة الولايات المتحدة...
ما سيترتب على كل هذا، أن القسم الأكبر من الداعمين
للمعارضة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي سيتخلون عنها لصالح دعمهم للنظام، وكذلك
الأمر مع الحاضنة الشعبية لهذه المعارضة في الداخل السوري... وسيزداد مختلف أشكال
الدعم المقدَّم إلى النظام من الكثير من مناطق العالم؛ أي ما سيمكنه من حسم الأمور
لصالحه وبسط سلطة الدولة حتى خلال أسابيع... كما سيزداد في الكثير من مناطق العالم
مختلفُ المواقف المعارضة للسياسة الخارجية الولايات المتحدة؛ الأمر الذي سيشكِّل
بداية النهاية للزعامة العالمية لهذه الدولة، من عزلة سياسية وانهيار اقتصادي
وغيره... أي ما سيؤدي إلى تغيير الأمور في المستقبل المنظور لصالح القضية
الفلسطينية، وأيضاً لصالح الدول العربية وباقي دول الجنوب من حيث الاستقرار الأمني
فيها وما سيترتب عليه لاحقاً من تسريع النمو الاقتصادي والتطور والتحول نحو
الديمقراطية.
الحلقة القادمة، التي هي تحت عنوان "المواجهة مع المعارضة السورية بصفتها أداة للولايات المتحدة"، سنعرض فيها الإستراتيجيا الأفضل للمواجهة مع هذه الدولة:
http://www.amersemaan.com/2013/05/23.html
وفي الحلقة الثالثة والأخيرة، التي هي تحت عنوان "المواجهة مع المعارضة السورية بصفتها صاحبة خطاب تكفيري"، سنعرض فيها الخطاب التكفيري المضاد الذي يجب اتباعه في مواجهتها:
http://www.amersemaan.com/2013/05/3-3.html
أنظر أيضاً
المقالة: "حول المساندة الإعلامية للنظام السوري وحزب الله (10)" (الحلقة العاشرة حول الأسباب الموجبة لتقديم الدعم للنظام السوري):
أنظر أيضاً كتابي:
"حول الأزمة اللبنانية ونهاية الزعامة العالمية للولايات المتحدة" الفصل
العاشر، الفقرة السادسة حول المد الأصولي.
عامر سمعان، باحث وكاتب
www.amersemaan.com
www.amersemaan.com
٤/ ٥/ ٢٠١٣ . وقد تم آخر تنقيح لهذه المقالة بتاريخ ١٠/ ٦/ ٢٠١٣.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق