ما يتضمنه كتابي "حول الأزمة اللبنانية ونهاية الزعامة العالمية للولايات المتحدة" دراسات معمقة وغير مسبوقة في السياسة والإستراتيجيا والتنمية والسوسيولوجيا؛ من بينها: أربع نظريات جديدة في الأنتروبولوجيا المجتمعية، وخطة لحلّ الأزمة في لبنان، وإستراتيجيا تعتمد وسائل المحاربة الإعلامية والسياسية والاقتصادية لهزيمة الولايات المتحدة وإنهاء زعامتها العالمية، والتي سيكون من نتائجها الاستقرار الأمني والنمو الاقتصادي والتطور في العالم العربي ومعظم دول الجنوب.

السبت، 29 أغسطس 2015

الغباء والمؤامرة في انتفاضة 22 آب


     بعد تراكم النفايات في شوارع العاصمة اللبنانية وضواحيها كان من الطبيعي أن تصل الأمور إلى التظاهرات لحثّ الحكومة على التسريع في حلّ هذه المشكلة ومحاسبة المسؤولين عنها. وكان أهمها هي التظاهرات في 22 و23 آب في وسط العاصمة، التي اجتمع فيها الآلاف وحصلت فيها تصادمات عنيفة بين المتظاهرين والقوى الأمنية ووقع عشراتُ الجرحى من الطرفين... فتطورت مطالباتُ المتظاهرين من مجرد رفع النفايات ومحاسبة المسؤولين عن تراكمها، إلى استقالة الحكومة وإجراء انتخابات نيابية ومحاسبة كل الطبقة السياسية الموجودة وتغييرها وإلغاء الطائفية السياسية وتغيير النظام في البلاد وإسقاط النظام وغيره... بهدف الوصول إلى محاربة الفساد وتحسين الوضعين الاقتصادي والمعيشي في البلاد... فأخذت اسم "انتفاضة 22 آب"، وأصبح هذا التحركُ في نظر الكثير من اللبنانيين وغيرهم، من السياسيين والإعلاميين خارج لبنان، الانتفاضة الموصلة إلى النمو الاقتصادي والازدهار والقضاء على الفساد وبناء الدولة الحديثة.
     في مناقشة بديهية لهذه المطالبات والتحركات يتبين خطورتها وعدم منطقيتها مما يلي:
- أولاً، بحسب الدستور اللبناني، إذا استقالت الحكومة هذا يتطلب وجود رئيس للجمهورية لكي يَقبَل الاستقالة ثم يجري الاستشارات النيابية لتسمية رئيس الحكومة الجديد ثم ليصدر مرسوم تشكيل الحكومة بالاتفاق مع رئيسها؛ والمشكلة هنا، كما هو معروف، هي مع عدم وجود رئيس للجمهورية حالياً... وإذا ما تم إجراء انتخابات نيابية فالحكومة القائمة تعتبر مستقيلة عند بدء ولاية المجلس النيابي الجديد ولا تمارس صلاحياتها إلا في المعنى الضيق لتصريف الأعمال. ما يعني أن العمل الحكومي سيبقى معطلاً إلى أن يَنتخِبَ هذا المجلسُ الجديدُ رئيساً للجمهورية ويتم تشكيل حكومة جديدة تمارس كامل صلاحياتها في إدارة شؤون البلاد. والمشكلة هنا هي في إمكانية فشل المجلس الجديد في انتخاب رئيس للجمهورية، كما قد فشل المجلس الحالي بهذا الأمر منذ 15 شهراً.      
     بكلام أكثر وضوحاً، فإن تحريك الشارع للمطالبة باستقالة الحكومة أو إجراء انتخابات نيابية يعني الدعوة إلى تغيير الدستور ووثيقة الوفاق الوطني اللبناني (اتفاق الطائف) التي أنهت الحرب الأهلية، أي الدعوة إلى ما يُعرَف بمؤتمر تأسيسي لصياغة النظام العام الجديد في لبنان. وبالنظر إلى حالة عدم توفر الثقة في الاستقرار الأمني في لبنان والتوترات الأمنية الخطيرة في جواره فالأرجح أن يؤدي هذا الوضع إلى انهيار أمني حيث ستحاول كل طائفة أن تعزز موقعها على الأرض لتحصل على أكبر حصة من الامتيازات في النظام الجديد.
     والوضع هو نفسه من حيث الخطورة الأمنية لأية دعوات لإجراء تغيير (كبير أو صغير) في النظام العام في البلاد (أي في الدستور) تكون مترافقة مع تحريك التظاهرات وفي هذه الظروف الأمنية داخل لبنان وفي جواره.    
     وحتى ولو كان النظام الجديد المطالَب به هو علماني، فهذا لن يقلل من تصارع الطوائف، بل على العكس سوف يزيد منها؛ لكي تتمكن الطائفة الأقوى من السيطرة على البلاد وتغطية جرائمها بشعار الحكم العلماني والمدني. فنحن نعيش في المنطقة التي فيها الانحدار الطائفي الغرائزي الأقوى في العالم.
- ثانياً، لا يمكن، في لبنان أو في أي بلد آخر، تحسين الوضعين الاقتصادي والمعيشي في ظلّ عدم توفر الثقة في الاستقرار الأمني؛ كون هذا الوضع يُؤدي إلى البطء في النمو الاقتصادي. وهذه القاعدة هي بديهية ومعروفة في علم الاقتصاد.
    أيضاً لا يمكن، في لبنان أو في أي بلد آخر، محاربة الفساد الإداري في ظلّ عدم توفر الثقة في الاستقرار الأمني الناتج عن الانقسام السياسي الداخلي؛ كونه في هذا الوضع تقلّ ثقة المواطنين بالدولة وقدرتها على حمايتهم وتأمين باقي ضرورياتهم فيلتجؤون إلى مجتمعاتهم الخاصة (العائلة، القرية، الحي، العشيرة، الطائفة، الزعيم السياسي،...) لكي تؤمِّن لهم هذه الضروريات، فتزداد المحسوبيات والواسطات وغيرها من ضروب الفساد الإداري.
     يعني إذا أراد المتظاهرون في وسط بيروت (أو أية فئة أخرى في لبنان) تحقيق التحسّن في الوضعين الاقتصادي والمعيشي ومحاربة الفساد الإداري، ولكي يكون في تحركهم الحدّ الأدنى من الواقعية والعقل والمنطق؛ فلا يمكنهم التصرف وكأن لبنان هو جزيرة معزولة أمنياً عن محيطها. بل عليهم أولاً وضع الخطة العامة الكفيلة بتحقيق توفر الثقة في الاستقرار الأمني.
     هذه الخطة التي يتطلب منها أن تقدِّم الأجوبة عما يلي:
- ما هي الإستراتيجيا الصحيحة لمواجهة خطر داعش وأخواتها الذين في الخارج والداخل ؟
- ما هي الإستراتيجيا الصحيحة لمواجهة التهديدات الإسرائيلية ؟
- هل سيبقى سلاح حزب الله معه أم يتم تسليمه إلى الدولة ؟      
- هل ستبقى مخيمات الفلسطينيين خارج سلطة الدولة أم يتم دخول الجيش والقوى الأمنية إليها ؟
- هل سيبقى الجناح العسكري لحزب الله داخل سوريا أم سينسحب منها ؟
- هل تتم إعادة خدمة العلم أم لا ؟ وهل تتم دعوة الاحتياط في الجيش والقوى المسلحة أم لا ؟ وهل يتم تشكيل لجان حماية شعبية لمؤازرة الجيش في التصدي لخطر داعش وأخواتها أم لا ؟
- هل سيكون لبنان إلى جانب النظام السوري أم إلى جانب المعارضة السورية ؟ وهل سيكون ضمن محور المقاومة أم ضمن المحور السعودي أم الأمريكي أم غيره ؟
     بعد أن يتم وضع وطرح هذه الخطة العامة وفي حال حصول إجماع أو شبه إجماع من قبل اللبنانيين، في قواعدهم الشعبية وقياداتهم، عليها، أي حصول وحدة وطنية على مواضيع الأمن القومي في البلاد؛ حينها يتم العمل بالتصوُّر المقترَح لتحسين الوضعين الاقتصادي والمعيشي ومحاربة الفساد. 
     وبالطبع، هكذا خطة عامة ليس بمقدورها أن تلغي نهائياً أية تهديدات من قبل إسرائيل أو داعش وأخواتها. وأهميتها تكمن أنها في حال كانت مدروسة بالشكل الجيد ومع وجود إجماع، أو شبه إجماع، من قبل اللبنانيين عليها، فإن هذا من شأنه أن يحدّ كثيراً من قدرة إسرائيل أو داعش وأخواتها على الاعتداء على لبنان. وحتى مع حصول هذا الاعتداءات فستكون قدرة اللبنانيين أفضل بكثير للمواجهة... أي تصبح هذه الأجواء (وجود هذه الخطة العامة ووجود الوحدة الوطنية عليها) موفرةً لمناخ ملحوظ من الثقة في الاستقرار الأمني، ما سيشكلُ الخلفيةَ الصلبةَ والجيدةَ للنمو الاقتصادي والمحاربة الفساد وبناء دولة المؤسسات.      
     والعكس صحيح، أي مع غياب هذه الخطة العامة الأمنية (أي مع استمرار عدم توفر الثقة في الاستقرار الأمني) فلن يكون بالإمكان تحسين الوضعين الاقتصادي والمعيشي حتى ولو تم جلب أهم الخبراء والعباقرة في الاقتصاد إلى لبنان لهذا الهدف؛ ولن يكون بالإمكان تحسين عمل مؤسسات الدولة ومحاربة الفساد حتى ولو تم جلب أهم الخبراء والعباقرة في الإدارة إلى هذا البلد لهذا الهدف.
     واعتماداً على ما تقدَّم، ما يصح قوله عن المتظاهرين في وسط العاصمة:
أ - إن مطالبهم هي خيالية وغير واقعية وغير منطقية ولن تؤدي إلى أية أهداف في مجالات تحسين الوضعين الاقتصادي والمعيشي ومحاربة الفساد.
ب - إن تحركهم ومطالبهم من شأنها أن تزيد من احتمال الانهيار الأمني بالنظر إلى ما تتضمنه من تغيير في الدستور ووثيقة الوفاق الوطني اللبناني في ظلّ حالة عدم توفر الثقة في الاستقرار الأمني الداخلي والتوترات الأمنية الخطيرة في الجوار.
ج - بالنظر إلى ما يحظى به تحركهم ومطالبهم من دعم سياسي وإعلامي من قبل الكثير من الأطراف داخل لبنان وخارجه، وبالنظر إلى استفادة الكثير من الأطراف الخارجية من إحداث توترات أمنية في لبنان (كمثل إحداث فتنة طائفية تؤدي إلى إلهاء واستنزاف حزب الله في الداخل اللبناني وفتح الجبهات على النظام السوري انطلاقاً من الأراضي اللبنانية) فيصبحُ الاحتمالُ كبيراً أن يؤدي بالفعل هذا التحرك إلى التوترات الأمنية أو الفتنة الطائفية، وخاصة أن يحصل هذا الأمر بفعل تورط قسم من هؤلاء المتظاهرين في مؤامرة تديرها تلك الأطراف الخارجية.
     المتظاهرون في وسط العاصمة، قسم قليل منهم تنحصر مطالبه في الإسراع في جمع النفايات ومحاسبة المسؤولين عن هذه المشكلة. هذه الفئة الصغيرة، لا يوجد أي إشكال حول مطالبها وتحركاتها وهي تستحق كل تقدير. وحالهم كحال الذين يتظاهرون في بعض المناطق رفضاً لتحويل مناطقهم إلى مكبّ للنفايات.
     أما القسم الأكبر من هؤلاء المتظاهرين والذين أصبحت مطالبهم، كما ذكرنا أعلاه، هي: "استقالة الحكومة وإجراء انتخابات نيابية ومحاسبة كل الطبقة السياسية الموجودة وتغييرها وإلغاء الطائفية السياسية وتغيير النظام في البلاد وإسقاط النظام..."، هؤلاء يصح وضعهم في قسمين: الأول، هم مَن لديهم نِيَّةٌ صادقة في تحسين الوضعين الاقتصادي والمعيشي ومحاربة الفساد لكن يتصرفون بسذاجة أو غباء وغير مدركين لاستحالة تحقيق مطالبهم؛ الثاني، هم الذين من المرجَّح أنهم يعملون، أو سيعملون لاحقاً، وفق مؤامرة خارجية لضرب الاستقرار الأمني في لبنان. وحيث أن ذلك القسم الأول، وعن غير قصد منه، يشكِّلُ تحركُهُ مساعدةً لهذا القسم الثاني في مؤامرته.
     وكذلك الأمر مع السياسيين والإعلاميين، داخل لبنان وخارجه، الذين يدعمون تحركَ هؤلاء "ويهوشونهم" ويصورونه على أنه "ربيع لبنان" في سلسلة "ثورات الربيع العربي" والذي من شأنه تغيير النظام في هذا البلد ونقله إلى الازدهار وبناء دولة المؤسسات؛ فهؤلاء بدورهم يصح وضعهم في قسمين: الأول، هم مَن لديهم نِيَّةٌ صادقة في تحسين الأوضاع في لبنان لكن يتصرفون بسذاجة أو غباء؛ الثاني، هم الذين من المرجَّح أنهم يعملون، أو سيعملون لاحقاً، وفق مؤامرة خارجية لضرب الاستقرار الأمني فيه. وحيث أن ذلك القسم الأول، وعن غير قصد منه، يُشكِّلُ تحركُهُ مساعدةً لهذا القسم الثاني في مؤامرته.
    

عامر سمعان، كاتب وباحث
29/ 8/ 2015




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق