ظَهَرت تناقضاتٌ صارخة بين شيخوخة الفنانة
صباح التي تميزت بالمرض والعوز المادي والإهمال الكبير نسبةً إلى مكانتها، وبين
جنازتها التي كانت أشبه بالعرس الوطني. مما جعل الكثيرين ينتقدون بالقول إنه لو
ظهر جزءٌ صغير من هذه المحبة لها أثناء شيخوختها لما كانت قد عانَت ما عانته، وبأن
لبنان هو بلد العجائب والغرائب، وما شابه...
إن الفهم الصحيح لهذه التناقضات هو من خلال
ما يلي:
-
أولاً، لا يوجد في لبنان ضمان تقاعد للفنانين، وصباح كانت من أبرز
ضحايا غياب هذا الضمان. ومن المرجَّح، بالنظر إلى مكانتها، أن عزة نفسها كانت
تدفعها إلى رفض الكثير من المساعدات المادية الشخصية المقدَّمة لها من قبل أصدقاء
أو معجبين. وغني عن البيان: أن الكثير من الفنانين في لبنان كانوا ولا يزالون
يطالبون بإيجاد هكذا ضمان؛ وأن إقرار قانون ضمان تقاعد للفنانين، الذين رفعوا اسم
لبنان، يجب أن يكون من ضمن أولويات الإصلاح التشريعي المطلوب في هذا البلد.
- ثانياً، صباح لم تكن فقط فنانة مشهورة بل أيضاً جميلة
ومثيرة. والفنانات اللواتي عندهن هذه الصفات، يَكُنَّ في صباهن محطّ أنظار واهتمام
وإعجاب ويصبحن في شيخوختهن، وبعد أن يذبل جمالهن، موضع تجاهل وسخرية وشماتة. هذه
هي الطبيعة البشرية، الطبيعة النفسية والسوسيولوجية، الموجودة عند جميع الناس وفي
جميع المجتمعات. وبسبب هذا الواقع المرّ فإن معظم هؤلاء الفنانات، بعد أن يذبل
جمالهن في شيخوختهن، يلجأن إما إلى الانتحار وإما إلى العزلة التامة والابتعاد عن
الوسائل الإعلامية. وبما أن صباح لم تلجأ لا إلى الانتحار ولا إلى العزلة التامة،
بل بقيت حتى أواخر سنوات حياتها تستقبل الناس ببشاشة ورحابة وتسمح بنشر صورها عبر
الوسائل الإعلامية؛ فهذا يدلّ على معدن صلب وقلب كبير لديها، هذه الصفة التي
يفتقدها حتى معظم الناس.
- ثالثاً، هناك عادة شعبية في مجتمعاتنا الشرقية، كانت
ولا تزال موجودة منذ آلاف السنين، وتتعلق بتكريم الميت بشكل مبالغ به أثناء
جنازته. من أمثالنا الشعبية: "ماتَ وماتَت مساوئُه معه" و"الجنازة
حامية والميت كلب"؛ أي ما يدلّ على أنه حتى ولو كان الميتُ في حياته وضيعاً
وفاشلاً وسيئاً، ففي جنازته يتم تكريمه وتعظيمه... فكيف إذا كان الميتُ في حياته
من المشاهير والعظماء في بلده ؟
- رابعاً، صباح لم تكن فقط فنانة مشهورة بل أيضاً رمزاً
وطنياً ساهمت في رفع اسم بلدها. فمن الطبيعي أن الكثير من الفئات الشعبية في لبنان
قد شاركت في مأتمها أو اهتمت به بشكل أو بآخر، كمساهمة منها في رفع اسم لبنان من
خلال تكريم هذه الفنانة في مأتمها.
بالنظر إلى
كل هذه المعطيات أصبح بالإمكان أن نفهم السبب في وجود تلك التناقضات الصارخة بين
شيخوخة الشحرورة وجنازتها.
عامر
سمعان، كاتب وباحث
10/
12/ 2014