1 - ورد في إحدى القصص الشعبية اللبنانية أن خلافاً نشب بين رجل
وامرأته، فخشيت أن يطلقها، فقصدت شيخاً في إحدى القرى المجاورة، معروف عنه بعمل
الكتابات والأحجبة ومعرفة الغيب ورؤية المستقبل وتجميع العشاق وغيرها من صنوف
السحر، وشَكَت إليه حالَها ورَجته أن يعمل لها كتاباً أو حجاباً أو طلسماً، لإلزام
رجلها البقاء معها وتجديد محبته لها.
فاشترط الشيخُ عليها أن تجلب له سبع شعرات من شارب الضبع ليصنع لها
بواسطتها إحدى الطلاسم السحرية.
فمضت المرأة، ثم رجعت بعد عشرة أيام لتقول له: "هذه سبع شعرات من شارب
الضبع". فذُهِل الشيخُ لرؤيتها بالنظر لما عُرِف عن الضباع من وحشية وشراسة،
وقال: "أخشى أن تكون هذه السبع شعرات من شارب زوجك"، أجابت: "لو
كان بإمكاني أن أمدّ يدي إلى شارب زوجي لما جئت أطلب معونتك"، قال: "لكن
كيف كان بإمكانك أن تمدّي يدك إلى شارب الضبع ؟"
أجابت: "الأمر بسيط جداً.. عندما رجعت إلى قريتي تذكرت أن بعض رجال
القرية يتحدثون، في سهرات الشتاء عن ضبع عتيق يعيش في "مغر الخرائب" وهو
يُشاهَد في بعض الليالي قرب المخاضة على نهر الحاصباني، فحملت كمية من اللحم
وتوجهت إلى ذلك المكان. وما أن خيّم الظلام حتى لمعت عينا الضبع من بعيد.. وعندما
اقترب مني رميت له قطعة من اللحم فالتهمها، وصرت كلما دنا مني أرمي له قطعة أخرى
حتى شبع ورجع من حيث أتى.
وفي اليوم التالي أعدت الكرة، وهكذا دواليك، لمدة خمسة أيام. وفي اليوم
السادس، عندما ذهبت وجدته ينتظرني وهو يهز ذيله ترحيباً بي، فرميت له ما كان معي
من اللحم ورجعت أدراجي.
وفي اليوم السابع وجدت الضبعَ راقداً على صخرة ينتظرني، فاقتربت منه ورحت
أناوله قطع اللحم من يدي إلى فمه، وهو ينظر إلي بعينين بريئتين كأنه طفل وديع. ثم
جلست على الأرض، فنزل عن الصخرة ورقد بجانبي، فرحتُ أغني له وأداعبه بالحلمسة فوق
جبينه وتحت ذقنه وحول شاربيه حتى استأنس ومدّ رأسه ووضعه على ركبتي واستسلم إلى
نوم عميق؛ عندئذ، يا حضرة الشيخ، تجرأت ومددت يدي إلى شاربه..."
هنا انتفض الشيخُ صارخاً: "كفى يا امرأة، مَن بمقدورها أن تنوِّم
الضبعَ على ركبتها لن يصعب عليها أن تنوِّم زوجَها على مخدتها".
(بتصرف عن سلام الراسي)
هذه القصة موجودة في التراث الشعبي
اللبناني، والمرجَّح أنها موجودة أيضاً في التراث الشعبي في مناطق مختلفة من
العالم بالمضمون نفسه، وإن كان بأشكال مختلفة. فالقصص الشعبية تتشابه في معظم
مناطق العالم، وهي وإن اختلفت في الشكل إلا أنها تبقى بمضامين واحدة (أو بالأحرى
بِبُنى واحدة وفق التحليل الأنتروبولوجي البنيوي للأدب).
والمقصود من القصة أعلاه هو أن الإنسان، وبغض النظر عن انتمائه أو منطقته
أو دِينه أو إن كان ذكراً أم أنثى، يمتلك قدرات كبيرة جداً. بإمكانه أن يثق بنفسه
ليستخدمها حتى لتغيير ما يُعتبَر من المستحيلات، أو قد يستصغر نفسه ليكون عاجزاً
حتى عن أصغر الأمور ويسلّم نفسه إلى السحرة والمنجمين.
حول سيئات أو أضرار التنجيم الذي أصبح دارجاً بكثرة في هذه الأيام وما يشبه
الخبز اليومي للكثيرين، أنه عندما يثق الإنسانُ بأقوال المنجمين حتى وإن كانت ثقة
جزئية، فأقل ما قد يصيبه منها هو أضرار كثيرة على صحته النفسية أو الجسدية أو
أعماله أو علاقاته. لأنه عندما يصورون له شيئاً أو مشروعاً ما على أنه جيد، فإن
يضع هذا التصور في عقله الباطني ويصبح غير قادر على رؤية ما يوجد من سيئات في هذا الأمر أو المشروع، ويأخذ
موقفاً منه من هذا المنطلق؛ والعكس صحيح عندما يصورونه على أنه سيء... وعندما
يقولون له إن مصيبة أو مكروهاً سيصيبه فقد يضع هذا القول في عقله الباطني ويعمل
على استجلاب هذه المصيبة أو المكروه أو يعيش في حالة الهوس الدائم منها... وما
إلى ذلك.
فالإنسان العاقل يُفترَض به أن لا يهتم لما يقوله المنجمون عنه أو عمن هم
ضمن برجه أو فئته أو في منطقته؛ كذلك، يُفترَض به أن لا يحاول أن ينجِّم للآخرين،
حتى من باب التسلية وتمضية الوقت (كمثل من خلال قراءة الفنجان وقراءة الكف وما
شابه)، لأن الاحتمال قائم أن يثق هؤلاء بكلامه ويصبحوا غير قادرين على التفكير
السليم واتخاذ المواقف السليمة.
2 - ملخَّص عن خلاص الإنسان في الأرثوذكسية.
أ - قلنا أعلاه إن الإنسان يمتلك قدرات
كبيرة جداً تتيح له تغيير حتى ما يُعتبَر من المستحيلات. في المسيحية الأرثوذكسية،
تصبح هذه القدرات المتاحة ليست فقط كبيرة جداً بل أيضاً لا نهائية.
فالله خلق الإنسانَ على صورته ومثاله؛ وبفعل تجسد المسيح الإله، ضُمَّت
الطبيعة البشرية إلى الإلهية. وبفعل هذا التجسد والصلب والقيامة أُعطيت البشرية
النعمةَ الإلهية غير المخلوقة، النعمة المؤلِّهة، وأصبح بإمكان الإنسان الحصول
عليها من خلال مشاركته في المعمودية والميرون والمناولة.
فيكون المطلوب منه لخلاص نفسه هو أن ينجح في حياته في السَير في القداسة،
أي التقدس بهذه النعمة غير المخلوقة، والتي تتطلب منه المواظبة على الصلوات
والأصوام وغيرها من فروض التدين والمحاربة المستمرة لخطاياه في السلوك والتفكير
والشعور.
هدف القداسة هو ليس أن يصبح الإنسان قادراً على صنع العجائب، كما يذهب أحياناً
التفكير الشعبي، بل هو السَعي المستمر للتخلي عن الأنانية، أو محبة الذات، التي هي
أصل كل الشرور، لصالح المحبة لله وللآخرين. ("تحبُّ
الربَّ إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك، هذه هي الوصية الأولى والعظمى،
والثانية مثلها، تحبُّ قريبَك كنفسك"؛ متى 22: 37 - 39)؛ والقريب هنا هو أي
شخص في العالم مهما كانت فئته أو انتماؤه؛ بناءً على ما ورد في لوقا 10: 29 - 37.
مسألة صنع العجائب، أو القدرات الخارقة للطبيعة، قد تكون إحدى المواهب التي
يحصل عليها المؤمنُ في حال نجاحه في السَير في طريق القداسة، أو قد لا تكون؛ فهي
ليست المقياس في النجاح في هذا الأمر. وعلى المؤمن أن لا يطمح بالحصول عليها. ("فرجع
السبعون بفرح قائلين: يا رب حتى الشياطين تخضع
لنا باسمك، فقال لهم: رأيتُ الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء، ها أنا اعطيكم
سلطاناً لتدوسوا الحيات والعقارب وكلَّ قوة العدو ولا يضركم شيء، ولكن لا تفرحوا
بهذا أن الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا بالحري أن أسماءكم قد كُتبت في السموات"؛
لوقا 10: 17 - 20).
بل وأكثر من ذلك في حال حصول المؤمن على هكذا مواهب فعليه أن يكون حذراً
جداً منها، إذ قد تكون خداعاً من الشياطين لجره إلى الغرور والتكبر وغيره من الخطايا
أو لحرفه عن الإيمان الصحيح. ("الشيطان نفسه يغيّر شكله إلى شبه ملاك
نور"؛ 2 كورنثوس 11: 14).
إذاً، وفق المسيحية الأرثوذكسية، الهدف الأساسي في حياة الإنسان هو النجاح
في القداسة، وليس النجاح في الحصول على المكاسب الدنيوية من عائلة وصحة وتعلّم
وأموال ومناصب وغيرها. فهذه المكاسب يجب أن تكون أهميتُها ثانوية في حياة الإنسان،
وليست أساسية؛ ويجب أن تكون في خدمة سعيه للنجاح في القداسة وليس العكس. ("فلا
تطلبوا أنتم ما تأكلون وما تشربون ولا تقلقوا، فإن هذه كلها تطلبها أمم العالم،
وأما أنتم فأبوكم يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه، بل اطلبوا ملكوت الله وهذه كلها تزاد
لكم"؛ لوقا 12: 29 - 31).
هذا
السَير في القداسة وصفه آباء الكنيسة بتأله الإنسان بالنعمة الإلهية غير المخلوقة،
أي بالنعمة المؤلِّهة، فالإنسان يصبح إلهاً بالنعمة وليس بالطبيعة؛ بالنظر إلى كونه
قد أصبح حاوياً في كيانه الطبيعة الإلهية غير المخلوقة، وإلى التغيير
الكبير الذي سيطرأ على سلوكه وتفكيره وشعوره بفعل نجاحه في هذه القداسة، وإلى مشاركته مستقبلاً في القيامة
في المجد الإلهي غير المخلوق. ("قد وهب لنا المواعيد العظمى والثمينة لكي
تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية"؛ 2 بطرس 1: 4). وقد ردد آباء الكنيسة منذ
القرن الثاني: "لقد صار الإله إنساناً لكي يستطيع الإنسان أن يصير
إلهاً".
وعندما يصبح الإنسان "إلهاً بالنعمة"، فهذا يعني أن القدرات
المتاحة له قد أصبحت لا نهائية. والمقصود بذلك ليس بالضرورة حصوله على المواهب
الخارقة للطبيعة، كما ذكرنا أعلاه؛ بل القدرات على تغيير ما في داخله من مخاوف وضعفات
وخطايا وعلى تغيير ما في داخل الآخرين من هذه الأمور وعلى التغيير الإيجابي في هذا
العالم من خلال أفكاره ومبادراته ومشاريعه وغيرها... وعلى شرط أن يكون كل هذا
التغيير هو بما يخدم خلاص نفسه وأنفس الآخرين، وليس لبناء مجده الشخصي أو مجد
عائلته أو مجتمعه.
ما يتيح للإنسان امتلاك هذه القدرات اللانهائية هو النعمة الإلهية الحاصل
عليها والتي تؤازره في مسيرته في القداسة. ("فإننا نحن عاملان مع الله، وأنتم
فلاحة الله، بناءُ الله"؛ 1كورنثوس 3: 9).
أحد الشروط الأساسية لنجاح الإنسان في السَير في القداسة هو امتلاكه
التواضع؛ فعليه أن يجاهد في تطويع وتحجيم محبته لذاته المتأصلة فيه (أي ما قال عنه
آباءُ الكنيسة برغبة الإنسان بعد السقوط في أن يتأله بقواه الذاتية أي ما يُعرَف
في علم النفس بالرغبة اللاواعية في التفوق والتوكيد الذات) لصالح المحبة لله
وللآخرين. والمقصود بذلك ليس أن يتخلى الإنسان عن طموحه الشخصي في التفوق وتحقيق
النجاحات في الدراسة والعمل وغيرها؛ بل أن يجعل هذه النجاحات ليس في خدمة مجده
الشخصي بل في خدمة سَعيه لخلاص نفسه وسَعي الآخرين لخلاص أنفسهم، كما ذكرنا أعلاه.
بموجب هذا الاتضاع، على المسيحيين أن لا يتعاملوا بعنصرية مع غيرهم
ويعتبروا أنفسهم أفضل منهم؛ وعلى المسيحي أن لا يعتبِر نفسه أنه متقدِّم بالإيمان
على غيره من المسيحيين، كما عليه أن لا يعتبِر نفسه أنه أصبح حتماً مخلَّصاً وأن
طريق الجنة أصبحت مضمونة له. ("كل من يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه
يرتفع"؛ لوقا 18: 10 - 14). ما تعنيه هذه النقطة الأخيرة، هو أن عليه أن لا
يكون مطمئناً إلى حتمية خلاصه وفي نفس الوقت عليه أن لا ييأس من هذا الخلاص؛ بل
لسان حاله يجب أن يكون دائماً: "أنا إنسان خاطئ لكن الرب يسوع المسيح برحمته
ومحبته للبشر سيخلصني"؛ وهو ما يتم التعبير من خلال ترداد صلاة الرب يسوع
المسيح التي تقول: "يا رب يسوع المسيح ابن الله ارحمني".
ب - بالنظر إلى كل ما تقدَّم تصبح
المسيحية الأرثوذكسية هي أكثر مذهب ديني أو فكري في التاريخ:
- يُظهِر رفعة قيمة الإنسان، بالنظر
إلى خلق الإنسان على صورة الله ومثاله، واتحاد الطبيعتين الإلهية والبشرية في شخص
يسوع المسيح، وإعطاء الإنسان النعمة الإلهية غير المخلوقة.
- يُظهِر كرمَ الله غير المحدود نحو
الإنسان، بالنظر إلى فتح المجال أمامه للتأله بالنعمة المؤلِّهة وللمشاركة في
المجد الإلهي غير المخلوق في القيامة.
- يُظهِر القدرات اللانهائية المتاحة للإنسان في حال نجاحه في إطاعة الله.
- يُشدد على ضرورة تواضع الإنسان كشرط أساس لنجاحه في إطاعة الله.
- يُظهِر القدرات اللانهائية المتاحة للإنسان في حال نجاحه في إطاعة الله.
- يُشدد على ضرورة تواضع الإنسان كشرط أساس لنجاحه في إطاعة الله.
3 - الموقف الأرثوذكسي من السحر.
أ - يصح وضع السحر ضمن أكثر من خانة.
فهناك السحر القائم على التعاون بين الإنسان والشياطين أو مَن هم ضمن خانة
الشياطين؛ وهناك السحر القائم على التعاون بين الإنسان ومخلوقات روحية قد يُخدَع
بها الإنسان ويظنها خيِّرة؛ وأيضاً هناك السحر الذي لا يقوم على تعاون مباشر أو
مقصود بين الإنسان وأي من هذه المخلوقات (كما سنرى أدناه).
مهما كان نوع السحر، وحتى إذا افترضنا أن الإنسان المسيحي الذي يقرر القيام
به، يكون هدفه هو ليس أذية الآخرين بل تحسين الأحوال الدنيوية له أو للآخرين (كمثل
التخلص من الأمراض وزيادة الأموال والحصول على محبة الناس وما شابه)؛ فما يوصف به
هذا الموقف من قبله هو ليس فقط الخطيئة من منطلق الابتعاد عن الله ووصاياه؛ بل
أيضاً الاستصغار الكبير من قبل هذا الإنسان لقيمته المعطاة له في المسيحية ولكرم
الله نحوه وللقدرات اللانهائية المتاحة له، التي تمكنه من تحسين الأحوال الدنيوية
له ولغيره، في حال إطاعته لله...
وبالطبع، في حال كان السحر الذي يقوم به هذا الإنسان قائماً على تعاون
مقصود بينه وبين الشياطين أو أن هدفه منه هو إلحاق الأذية بالآخرين، فإن وضعه
سيكون أكثر سوءًا مما هو وارد أعلاه.
كذلك هو الحال مع المسيحي الذي يلتجئ إلى السحرة لتحسين أحواله أو أحوال
غيره الدنيوية، فما يوصف به هذا الموقف من قبله هو ليس فقط الخطيئة من منطلق
الابتعاد عن الله ووصاياه؛ بل أيضاً الاستصغار الكبير من قبل هذا الإنسان لقيمته
المعطاة له في المسيحية ولكرم الله نحوه وللقدرات اللانهائية المتاحة له... أيضاً
يكون الأمر أكثر سوءًا معه في حال كان هدفه من الالتجاء إلى السحرة هو أذية
الآخرين.
وباختصار، إذا كان السحرُ خطيئةً وأمراً مكروهاً في معظم المذاهب الدينية،
إلا أنه يبقى في المسيحية الأرثوذكسية خطيئةً وأمراً مكروهاً أكثر ما هو الحال في
باقي هذه المذاهب.
ب - تعترف الأرثوذكسية بوجود سحر قائم
على التعاون بين الإنسان والشياطين. فالشياطين هم ملائكة ساقطون يقومون بإغواء
البشر للقيام بالشر والابتعاد عن الله. ولا تفرِّق الأرثوذكسية بين الشياطين
والجن، بل تضعهم جميعاً في نفس خانة الشياطين. أي على عكس ما هو الأمر في بعض
المعتقدات الشعبية وعند العاملين بالسحر وعند بعض الديانات، الذين يفصلون بين
الشياطين والجن، ويضعون الجن ضمن مراتب، ويميزون بين مَن هم صالحين منهم ومَن هم
طالحين، أو بين مَن هم سيئين ومَن هم أكثر سوءًا.
أحياناً يبرر بعضٌ من المسيحيين، كما من غيرهم، التجاءهم إلى السحرة، تحت
حجة أنهم عرضة لسحر مؤذٍ وأنهم بحاجة إلى حماية هؤلاء السحرة لرد هذا السحر عنهم.
فيقولون: إن هناك من يصنع لهم سحراً لتفريقهم عن محبيهم أو لبقائهم من دون زواج أو
لخسارتهم مصدر رزقهم أو لإصابتهم بأمراض جسدية أو عقلية أو غيره، وإنهم لا يطمعون
من التجائهم إلى السحرة بأي مكسب دنيوي إنما فقط لرد ذلك السحر المؤذي عنهم،
وإنهم أناس صالحون ومتدينون وقد التجؤا إلى الصلاة والصوم والكنائس والأديرة
وعلقوا الأيقونات في منازلهم؛ وإن كل ذلك لم ينفع في رد السحر المؤذي عنهم ولم
يتبقَ لهم إلا الالتجاء إلى السحرة لهذه الغاية...
الجواب على ما تقدم: هو أنه ليس كل من عمل الصلاح وقام بالصلاة والصوم أنه
أصبح بالضرورة مخلَّصاً في الأرثوذكسية؛ لأن الاحتمال قائم أن يكون صلاحه وتدينه هو
في غير الوجهة الصحيحة؛ كمثل أن يكون بهدف تحسين أحواله الدنيوية (عملاً بالمثل
القائل "على حسب نواياكم ترزقون")، أو أن يكون من ضمن انقياده في أعراف
اجتماعية، أو أن يكون المؤمِن قد دخل في حالة كبرياء وأصبح يَعتبِر نفسه أكثر قداسة
من الكثيرين وأن الدخول إلى الجنة أصبح مضموناً له. في حين أن الهدف من التدين في
الأرثوذكسية هو، وكما ذكرنا، الوصولُ، وبمعونة النعمة الإلهية، إلى النقاء الداخلي،
أي إلى النجاح في القداسة، أي إلى تطويع وتقزيم محبة الذات لصالح المحبة لله
وللآخرين، وعلى رجاء الخلاص في الدهر الآتي. هذه الطريق تتطلب أن يتم اقتران
التدين مع ما يرافقه من تغيّر في السلوك باليقظة والمحاربة الدائمة للأفكار
والمشاعر السيئة وخاصة منها الغرور والكبرياء. ("من القلب تخرج أفكار شريرة...
هذه هي التي تنجّس الإنسان" متى 15: 19 - 20).
وعندما يسير الإنسان في الطريق الصحيح للخلاص، أي عندما يصبح متقدساً
بالنعمة الإلهية غير المخلوقة فمن البديهي أن لا يؤثِّر عليه أيُّ سحر مهما قوي أو
كبر، وأن يكون مطمئناً وواثقاً إلى الحماية الحاصل عليها في مواجهة هكذا سحر.
إحدى أشهر القصص في المسيحية في هذا الإطار هي قصة القديسين الشهيدين كبريانوس
ويوستينة (2 تشرين الأول). فكبريانوس كان ساحراً مقتدراً، لكنه عجز في استخدام
السحر في جعل يوستينة المسيحية البتول تقع في غرام شاب آخر يريد الزواج منها...
وكانت النهاية أن تعرّف كبريانوس على الإيمان المسيحي بفضلها وترك السحر وأصبح
مسيحياً، إلى أن نال الشهادة معها.
كخلاصة، مَن كان مسيحياً صالحاً ومتديناً وفي نفس الوقت مقتنعاً أنه عرضة
لسحر مؤذٍ وأنه غير قادر على ردّه أو الحماية منه... فالمطلوب منه هو أن يجعل
صلاحه وتدينه في الوجهة الصحيحة... وإذا ما عجز عن هذا الأمر، فعليه أن يلتجئ إلى
أب روحي أو أب مرشد فيساعده بنصائحه في هذا الأمر.
ج - هناك نوع من السحر كان ولا يزال
موجوداً منذ آلاف السنين في المنطقة الممتدة من المغرب العربي وصولاً إلى ما بعد
إيران؛ يدَّعي مَن يقومون به أنهم لا يتعاونون مع الشياطين أو الجن السفليين بل مع مخلوقات روحانية
خيِّرة، كمثل الملائكة والجن العِلويين (أي الصالحين). بموجب هذا السحر يقوم
الساحر بخلوة روحية طويلة ينقطع فيها عن غيره من البشر، ويأكل أطعمة معيَّنة عادةً
تكون نباتية، ومع بخور معيَّن، ومع احتساب حركة النجوم، ويطالع فيها بكثرة كتباً
دينية منها التوراة والإنجيل والقرآن، ويتلو أدعية بكثرة... وفي نهاية الخلوة يظهر
عليه الملاك المطلوب أو أحد ملوك الجن العِلويين أو ما شابه... ويصار إلى تعاهد
بين الطرفين...
وجهة النظر الأرثوذكسية حول هذا الموضوع، هو أنه لما كان الملائكة لا يتم
استدعاؤهم والتعاون معهم بهذا الشكل، بل المفترَض بالمؤمِن أن يطلب شفاعتهم، ولما
كان "الشيطان نفسه يغيّر شكله إلى شبه ملاك نور"؛ فيكون الذين يتعاهد
معهم هؤلاء السحرةُ ليسوا سوى شياطين يظهرون بصور مضيئة أو نورانية.
د - الكثير من السحرة في العالم العربي
يحيطون أنفسهم بمظهر ديني، فيعلقون الرموز الدينية، كمثل الآيات القرآنية أو
الأيقونات المسيحية، داخل منازلهم، ويكثرون من ذكر الله وأنبيائه وقديسيه في
أحاديثهم، وإذا ما جاءهم زبون يطلب مساعدتهم في سحر معيَّن يقولون له عبارات كمثل
"بإذن الله سيكون لك هذا أو سيتحقق هذا"... فيطمئن هذا الزبون إلى أن
هؤلاء السحرة لا يفعلون شيئاً محرماً بدليل كثرة تدينهم، وإلى أنهم يتعاونون مع
أرواح خيِّرة أو عِلوية وليس مع أرواح شريرة أو سفلية، كون هذه الأخيرة سوف تهرب من
الآيات القرآنية أو الأيقونات المسيحية المعلقة داخل المنزل أو سوف تهرب من كثرة
ذكر الله وأنبيائه وقديسيه.
وجهة النظر الأرثوذكسية حول هذا الموضوع هو أن كثرة الرموز الدينية المعلقة داخل المنزل الساحر أو كثرة ذكره لله وأنبيائه وقديسيه لا تكفي لمنع الشياطين من أن تأتي إلى هذا الساحر وتتعاون معه، سواء أكان هذا بعلم منه أم بخداع له من قبلها.
وجهة النظر الأرثوذكسية حول هذا الموضوع هو أن كثرة الرموز الدينية المعلقة داخل المنزل الساحر أو كثرة ذكره لله وأنبيائه وقديسيه لا تكفي لمنع الشياطين من أن تأتي إلى هذا الساحر وتتعاون معه، سواء أكان هذا بعلم منه أم بخداع له من قبلها.
الكثير من القديسين والنساك في الأرثوذكسية كانت تظهر لهم الشياطين، إما
بصورها الحقيقية أو بصور الملائكة، بهدف إرهابهم أو إحباطهم أو خداعهم أو حرفهم عن الإيمان
الصحيح أو غيره... أي إن تقدُّم هؤلاء في القداسة وكثرة ذكرهم لله وتلاوتهم للصلاة
وصيامهم لم يكن كافياً لردع الشياطين من أن تظهر لهم؛ فكيف هو الحال إذاً مع
السحرة في إحاطتهم لأنفسهم بمظهر ديني ؟
هـ - حول السحر الذي يهدف إلى استحضار
أرواح بشر متوفين للتحدث معهم، سواء بهدف التسلية أو الفضول أو الشوق لهم أو
الاستفادة منهم.
في الأرثوذكسية، المطلوب من المؤمِن أن يصلي من أجل أرواح البشر المتوفين،
وسواء أكانوا مسيحيين أم غير مسيحيين، ومن غير الجائز التعامل معهم بخفة إلى درجة
استدعائهم للتحدث معهم أو الاستفادة منهم أو غيره... بالتالي، عند حصول جلسات
استحضار الأرواح، فالأرواح التي تتم مشاهدتها أو سماع صوتها أو تقوم بتحريك القلم
لتكتب أو ترسم به أو غيره... المرجَّح هنا أيضاً أن تكون شياطين تظهَر في هذه
الجلسات بصور أرواح بشرية.
و - حول السحر الذي لا يقوم على تعاون
مقصود بين الإنسان وأيٍّ من المخلوقات الروحية.
في جميع المجتمعات يوجد سحر شعبي هو عبارة عن عادات ومفاهيم شعبية تهدف إلى
جلب الخير وإبعاد الشر.
أحد أشهر هذه المفاهيم هو التشاؤم من الرقم 13 والابتعاد عنه بهدف إبعاد
الشر أو الأذية التي ستنتج عن الالتصاق به. لتوضيح الأمور أكثر، إذا افترضنا أن
أحدهم وجد أن كرسيه في قاعة ما تحمل هذا الرقم أو أن مقصورته تحمله أو أن الطابق في
البناية الذي ينوي استئجاره أو شراءه يحمله... فمن الطبيعي أن يشعر ببعض القرف أو
الاشمئزاز أو الخوف من هذا الوضع، لكن عندما يتقصد تجنب هذا الكرسي أو المقصورة أو
الطابق بهدف الابتعاد عن الشر أو الأذية الذي سيلحق به بسبب الرقم 13، فهذا سلوك
سحري بكل ما للكلمة من معنى وأيضاً خطيئة بكل ما للكلمة من معنى؛ بالرغم من عدم
وجود رابط ظاهر أو واعٍ بين الرقم 13 ومخلوقات روحية ما... بالتالي، في
الأرثوذكسية، المفترَض بالمؤمِن أن لا يستصغر رفعة القيمة المعطاة له من الله وكرم
الله نحوه والنعمة الإلهية غير المخلوقة الحاصل عليها والقدرات اللانهائية المتاحة
له في حال نجاحه في السَير في القداسة، إلى درجة الخوف من الرقم 13 وتجنبه، أو إلى درجة التمسك بغيره من العادات والمفاهيم في هذا المجال.
أيضاً من العادات والمفاهيم في هذا الإطار التي نجدها في مجتمعاتنا، أنه
إذا أُرسِلت ورقة نعوة إلى أحدهم أن يقوم بتمزيق قسم منها حرصاً على أن لا تجلب
هذه الورقة الشر أو الموت إلى بيته؛ وأنه إذا توفي أحدهم فلا يتم الدفن يوم
الاثنين لأنه بداية الأسبوع وقد تحدث وفيات أخرى خلاله في حال فُتِحت المقبرة في
هذا اليوم. وهناك عادة قديمة عند المسيحيين وهي أنه حين الدفن يُحرَص على وضع يدي
الميت على جانبيه وليس على صدره حرصاً على "أن لا يبلع يدَه، فيجرّ
وراءه" أي تحدث وفيات أخرى في بيته أو قريته؛ ويشابه هذه العادة عادةٌ عند
المسلمين وهي أن يتم إبعاد الكفن عن وجه الميت حرصاً على "أن لا يبلع الكفن،
فيجرّ وراءه"...
كل هذه العادات يصح وصفها بالسحر الشعبي... إلا أن العادة الأكثر ممارسة هي
حول تعليق خرزة زرقاء أو حذاء عتيق في مكان ظاهر من المنزل أو مكان العمل أو
السيارة أو الشاحنة لرد "صَيبة العين". وكثيراً ما يتم تعليق الخرزة الزرقاء
على الأطفال للغاية نفسها... وبعض المسيحيين يعمدون إلى جمع هذه الخرزة إلى جانب
الصليب وتعليقهما على الأطفال؛ في هذا الوضع الأمر لا يعود مجرد سحر شعبي بل أيضاً
إهانة واضحة لرمز الصليب... حول رد العين الحاسدة، هناك صلاة خاصة في الأرثوذكسية
(أفشين) يقيمها الكاهن على المؤمِن، أو على أحد أطفاله، في حال الظن بوجود عين
حاسدة.
أخيراً هناك نوع من السحر في هذا الإطار يدَّعي مَن يقومون به أنهم
يستعملون التنويم المغناطيسي، أو ما شابه من القدرات، للسيطرة على الآخرين وإلزامهم
تنفيذ أوامرهم... هنا أيضاً يُفترَض بمن هو متدين وصالح، بالشكل الصحيح، أن يكون
محصناً ضد هذا النوع من السحر، كما ضد غيره من أنواع السحر الذي يقوم على التعاون
مع الشياطين.
3 - الموقف الأرثوذكسي من التنجيم.
هناك قسم من المنجمين يدَّعون القدرة على رؤية المستقبل من خلال الاتصال أو
التعاون مع مخلوقات روحية كمثل الشياطين أو الجن أو أرواح بشر متوفين أو غيرهم...
استناداً إلى ما أوردناه أعلاه ليس من داعٍ للدخول في هذا الموضوع وإظهار الخطأ
فيه من وجهة النظر الأرثوذكسية.
سنتناول هنا موضوع مَن يدَّعون
رؤية المستقبل من دون أي اتصال أو تعاون مع مخلوقات روحية، أي الذي يدَّعون معرفة
المستقبل اعتماداً على حدس داخلي أو حاسة سادسة أو من خلال قراءة أو تفسير إشارات
معيَّنة في راحة اليد الشخص المعني أو فنجان القهوة الذي شربه للتو أو الهيئة
الفلكية حين ولادته أو اسمه شخصي أو غيره...
لفهم الموقف الأرثوذكسي من هذا الموضوع سنتناول أولاً القصة التالية
الواردة في الإنجيل: "وبينما نحن مقيمون أياماً كثيرة انحدر من اليهودية
نبيُّ اسمه أغابوس، فجاء إلينا وأخذ منطقةَ بولس وربط يَدي نفسه ورجليه وقال هذا
يقوله الروحُ القدس: الرجل الذي له هذه المنطقة هكذا سيربطه اليهودُ في أورشليم ويسلمونه
إلى أيدي الأمم. فلما سمعنا هذا طلبنا إليه نحن والذين من المكان أن لا يصعد إلى
أورشليم. فأجاب بولس: ماذا تفعلون تبكون وتكسرون قلبي لأني مستعد ليس أن أُربَط
فقط بل أن أموت أيضاً في أورشليم لأجل اسم الرب يسوع. ولما لم يُقنَع سكتنا قائلين
لتكن مشيئة الرب" (أعمال الرسل 21: 10 - 14).
المقصود بهذا أن المطلوب من المؤمِن أن يخطط لمستقبله بما يرضي الله، حتى
وإن كان هذا الأمر سيؤدي إلى خسارته لحياته أو لأي مكسب دنيوي آخر.
لزيادة التوضيح. وكما كنا قد أشرنا أعلاه، أن هدف الأساسي عند المؤمِن في
هذه الحياة هو القداسة، أي التأله، بينما تحصيل المكاسب الدنيوية يكون هدفاً
ثانوياً عنده وفي خدمة هذا الهدف الأساسي. بالتالي، المفترَض بالمؤمِن وعند شروعه
في أي عمل، وسواء أكان صغيراً أم كبيراً أو أكان لزيادة تحسين أحواله أم للتخلص من
أية مشكلة، أن يطلب بركةَ الله. كمثل أن يقول: "بارك أيها الرب يسوع
المسيح" أو "بصلوات آبائنا القديسين بارك أيها الرب يسوع المسيح هذا
العمل" أو "على اسم الله"؛ أو على الأقل أن يرسم إشارة الصليب
دلالةً على طلب هذه البركة.
أما ما تعنيه هذه البركة، فهو أن تكون نتيجة ذلك العمل مساهِمةً في نجاح
المؤمِن في السَير في القداسة، وليس أن تكون بالضرورة مساهِمةً في الزيادة أو
التحسين في مكاسبه الدنيوية، من الصحة أو المال أو الأولاد أو الشهادة العلمية أو
النجاح المهني أو الشهرة أو غيره... فقد يرى اللهُ أن هذا المؤمِن، وبالنظر إلى
ظروفه وأوضاعه الشخصية، ولكي يسير بشكل أفضل في القداسة، أن تتحسن أحواله الدنيوية
في ذلك المشروع الذي يطلب البركة فيه؛ والعكس صحيح، أي قد يرى اللهُ أنه من
الضروري لهذه الغاية أن تسوء أحوال هذا المؤمِن في هذا المشروع، أي أن يكون بحاجة
إلى بعض التأديب، ("يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تَخُر إذا وبخك، لأن الذي
يحبُّه الربُّ يؤدِّبه ويجلد كلَّ ابن يقبَله"؛ عبرانيين 12: 5
- 6).
باختصار، المفترَض بالمؤمِن أن يكون هدفه عند شروعه في أي عمل أن تأتي
نتائجه مساهمةً في حسن سَيره في القداسة حتى وإن أدَّت إلى شهادة الدم، وأن يكون
بما يرضي الله؛ وهو لذلك يطلب البركة في هذا العمل. ولا يُفترَض به أن يكون هدفه
منه هو أساساً زيادة المكاسب الدنيوية، فيذهب إلى المنجمين ليقولوا له: إن ابتدأت
العملَ في هذا الوقت ستزيد أرباحُك وإذا ابتدأت في ذلك الوقت ستقل أرباحُك؛ أو
ليقولوا: هذا الشخص اسمُك يتوافق مع اسمه وبرجُك مع برجه فتعاون معه، وذلك الشخص
لا يتوافق مع اسمك وبرجك فلا تتعاون معه؛ وما على ذلك...
4 - الموقف الأرثوذكسي من الظهورات
الشيطانية.
أ - هناك منازل تُعرَف
"بالبيوت المسكونة" فيتم سماع أصوات غريبة في داخلها، أي من دون معرفة
مصدرها، أو تتم مشاهدة أشباح فيها قد تكون بهيئات بشرية أو شيطانية. وتصبح الأمور
أكثر مأساوية عند حصول ظاهرة "الشبح الصاخب" (كما يقال في أوروبا)؛
فيقوم هذا الشبح، وبشكل مفاجئ، بإدارة جهاز التلفزيون أو الراديو أو بفتح الأبواب أو
إغلاقها أو إزاحة المفروشات من مكانها أو فتح حنفيات المياه... ما يحوِّل حياةَ
ساكني المنزل إلى كابوس.
الحلّ في الأرثوذكسية لهذه المشكلة، الكفيل بإزالة هذه الظهورات، يكون في
أن يقوم كاهنٌ برش البيت بالماء المقدسة، ومن الممكن أن تتم خدمة تقديس الماء داخل هذا البيت. وبالطبع المطلوب من سكان هذا البيت من جهتهم أن يزيدوا من تدينهم
ومن صلاحهم، أي أن يزيدوا مما يقومون به من صلوات وأصوام وغيرها من فروض التدين
ومن السلوك والأعمال الجيدة والتنقية الداخلية؛ كون النعمة الإلهية لا تكفي لوحدها لخلاص الإنسان بل
لا بد من أن تُقرَن بالجهاد من جانب هذا الإنسان ("نحن عاملان مع
الله"). وفي حال عدم توفر كاهن لهذه المهمة فبإمكان سكان هذا البيت أن يجلبوا
ماء مقدسة (مصلّى عليها في كنيسة أرثوذكسية) وأن يقوموا بأنفسهم برش البيت منها
مع تلاوة صلاة في نفس الوقت. هذه الصلاة قد تبتدئ باستدعاء الروح القدس،
"أيها الملك السماوي" وما يليها، ثم "قدوس الله" وما يليها، ثم
بالتزامن مع رش الماء تتم تلاوة طروبريات أو مزامير أو ترداد عبارات كمثل
"بصلوات آبائنا القديسين أيها الرب يسوع المسيح إلهنا ارحمنا وخلصنا
آمين"... كما يمكن أداء أية صلاة أخرى قد يرتئيها الأب الروحي أو الأب المرشد
في حال توفر أي منهما.
العادة في مجتمعاتنا أن يتم رش المنزل بالماء المقدسة مرة واحدة في السنة بمناسبة عيد الظهور الإلهي، فيدور الكاهن على منازل الرعية ويرشها بالمياه. لكن من
الأفضل أن يحتفظ المؤمِنُ بالماء المقدسة في بيته على
مدار السنة ويقوم بنفسه برش بيته أو مكان عمله بها أكثر من مرة. ليس من باب طرد
أية شياطين من المنزل بل من باب فروض التدين و"العيش بالملكوت"، أي حتى وإن كان لا
يعاني من أية ظاهرة تتعلق بالبيوت المسكونة. في بعض الأديرة تتم خدمةُ تقديس
الماء مرة كل شهر، ويقوم الرهبان أو الراهبات بالشرب منها بشكل يومي. فيكون من
المفيد أن يَحضَر المؤمِنُ هذه الخدمَ، في هذه الأديرة أو في الرعايا في حال كانت
تقام فيها، أكثر من مرة في السنة، ويجلب معه الماء المقدسة للشرب منها كما لرش
بيته أو مكان عمله أو حتى حديقته أو حقله من وقت لآخر...
ب - هناك أشخاص تحدث معهم ظهورات
شيطانية من وقت لآخر، في مكان سكنهم أو خارجه، فيشاهدون أشباحاً بهيئات شيطانية أو
هيئات بشرية؛ وقد تحدث معهم أثناء اليقظة كما في الأحلام أثناء النوم. بعضُهم قد
يتجرأ ويدخل مع هذه الظهورات في نقاشات وجدل في مواضيع دينية أو فلسفية أو أخلاقية
أو غيرها، أو قد يتصارع جسدياً معها... أحياناً لا تكون هذه الظهورات بهيئات
مخيفة، بل تأخذ شكل فتاة رائعة الجمال، أو بالأحرى يكون جمالها مختلفاً عن جمال
مجمل الفتيات في هذا العالم حيث لا يصعب على الإنسان الذي يشاهدها من أن يدرك من
أنها من صنف الجنيات أو ما شابه، فتتطور الأمور إلى علاقة جنسية بين الطرفين، أو
حتى إلى علاقة حب وغرام جارف تمتد إلى سنين طويلة.
وجهة
النظر الأرثوذكسية عن هذه الظهورات، هي أنه أولاً المفترَض بالمؤمِن أن لا يخاف من
أية ظهورات شيطانية، "فالمؤمِن لا يخاف إلا من الخطيئة"؛ أي المفترَض به أن لا
يخاف من أعداء بشريين أو حيوانات مفترسة أو أمراض أو أوبئة أو كوارث طبيعية أو من
الموت أو من أي سحر أو ظهورات شيطانية... وفي حال حصل له خوف فهذا يعني أن ثمة
أخطاء في تدينه أو صلاحه، أي ثمة خطايا يعيش فيها غير متنبه لها أو لخطورتها...
فكلما زادت خطايا الإنسان زاد خوفه، وكلما قلَّت خطاياه قلَّ خوفه.
آباء الكنيسة الأرثوذكسية (أي معلموها) تحدثوا كثيراً عن الظهورات الشيطانية،
وحذروا المؤمِنَ من أن يجري معها أي حديث أو نقاش أو جدل أو صراع جسدي... والسبب
واضح، وهو أن المؤمِن عندما يجد نفسه يتحدث مع الشياطين ويجادلها أو يصارعها، فيظن
أنه قوي جداً أو قديس حتى لا تستطيع إيذاءه، فيدخل في غرور وكبرياء مفرطَين وينجرّ
إلى الخطايا ويخسر الخلاص؛ فتكون الشياطين قد حققت هدفها على أسهل ما يكون.
أما عن كيفية التخلص من هذه
الظهورات، فبالطبع من المهم ذِكر اسم الرب يسوع ورسم إشارة الصليب وما شابه... وقد
قدَّم الآباءُ نصائحَ مهمة في هذا الإطار... منها أن الشياطين في ظهورها على أي
إنسان هي تستفيد مما عنده من غرور وكبرياء؛ فتكون أسهل وأسرع طريقة ليتخلص منها هي
أن يبتعد عن هذه الأمور... فما عليه، حين تحصل له هذه الظهورات، سوى أن يردد
عبارات كمثل: "أنا إنسان حقير، وأحقر الناس، لا أساوي شيئاً، أنا نكرة، أنا
تافه، أنا حشرة..."؛ فتختفي هذه الظهورات للتو... ومع الوقت يصبح بإمكانه أن يردد هذه العبارات حتى أثناء النوم حين تحصل له هذه الظهورات في الأحلام.
5 - الخلاصة.
قلنا أعلاه إن المسيحية الأرثوذكسية هي أكثر مذهب ديني أو فكري في التاريخ:
يُظهِر رفعة القيمة المعطاة للإنسان من الله والقدرات اللانهائية المتاحة له...
إضافة إلى ذلك هي أكثر مذهب ديني أو فكري في التاريخ: يؤمِّن سعادة
الإنسان، ويتيح له التغلب على مخاوفه وضعفاته وخطاياه، ويفتَح المجالَ أمامه
للتغيير نحو الشخصية الفاعلة والبنَّاءة والإيجابية، ويتوافق مع طبيعة نفسيته
من حيث تغييرها إلى الأفضل، وغيره...
واعتماداً على كل ذلك المفترَض بمن هو أرثوذكسي متدين وصالح أن لا يخاف: لا
من أي سحر مؤذٍ يتقصده حتى ولو اجتمع كل السحرة في العالم لمحاربته، ولا من أية
ظهورات شيطانية تحصل له حتى ولو ظَهر أمامه الشيطان الأكبر بذاته، ولا من الرقم 13
أو غيره من العادات والمفاهيم التشاؤمية، ولا من "صَيبة العين"، ولا من
تنويم مغناطيسي يتقصده، ولا من أن يسكن ويأكل ويشرب وينام في أي من البيوت التي
تُعرَف المسكونة حتى ولو كانت تعج بالجن والشياطين... كذلك المفترَض أن لا يلتجأ
إلى السحرة والمنجمين مهما ساءت أحواله الدنيوية.
وفي حال حصل له أيٌّ من هذه المخاوف أو وجد نفسه ملتجئاً إلى سحرة أو
منجمين، فهذا يعني أن ثمة أخطاء في تدينه أو صلاحه، أي ثمة خطايا غير متنبه إليها
أو إلى خطورتها... فيكون المطلوب منه هو أن يصحح هذه الأخطاء. إحدى الطرق المهمة
التي تساعده في التصحيح هو كثرة المطالعة للكتاب المقدس وسِيَر القديسين وأقوالهم
وغيرها من الكتب الدينية التي توصله إلى التنبه إلى أخطائه ومعرفة كيفية تصحيحها...
وفي حال عجز عن ذلك فالمطلوب منه هو الاستعانة بنصائح أب مرشد أو أب روحي.
المقصود بالأب المرشد هو الذي يقدِّم النصائح للسائل في حالات معيَّنة.
والمقصود بالأب الروحي هو الذي يكون مطَّلِعاً على مجمل نواحي حياة تلميذه ويرافقه
مدى الحياة ويقدِّم له النصائح في مجال التدين كما في غيره من المجالات التي
يَعتبِر أن لها علاقة بخلاصه؛ ومن الأفضل أن يكون هو نفسه الكاهن الذي يمارس عنده
سر الاعتراف.
وجود الأب الروحي في حياة المؤمِن ليس شرطاً لحصول الخلاص، أي بإمكان المؤمِن
الوصول إلى القداسة من دونه؛ لكن المجمَع عليه هو أن وجود الأب الروحي هو ضمانة
أكبر للخلاص.
عامر سمعان ، باحث وكاتب
28/ 12/ 2013