ما يتضمنه كتابي "حول الأزمة اللبنانية ونهاية الزعامة العالمية للولايات المتحدة" دراسات معمقة وغير مسبوقة في السياسة والإستراتيجيا والتنمية والسوسيولوجيا؛ من بينها: أربع نظريات جديدة في الأنتروبولوجيا المجتمعية، وخطة لحلّ الأزمة في لبنان، وإستراتيجيا تعتمد وسائل المحاربة الإعلامية والسياسية والاقتصادية لهزيمة الولايات المتحدة وإنهاء زعامتها العالمية، والتي سيكون من نتائجها الاستقرار الأمني والنمو الاقتصادي والتطور في العالم العربي ومعظم دول الجنوب.

السبت، 28 ديسمبر 2013

الأرثوذكسية والموقف من السحر والتنجيم



1 - ورد في إحدى القصص الشعبية اللبنانية أن خلافاً نشب بين رجل وامرأته، فخشيت أن يطلقها، فقصدت شيخاً في إحدى القرى المجاورة، معروف عنه بعمل الكتابات والأحجبة ومعرفة الغيب ورؤية المستقبل وتجميع العشاق وغيرها من صنوف السحر، وشَكَت إليه حالَها ورَجته أن يعمل لها كتاباً أو حجاباً أو طلسماً، لإلزام رجلها البقاء معها وتجديد محبته لها.
     فاشترط الشيخُ عليها أن تجلب له سبع شعرات من شارب الضبع ليصنع لها بواسطتها إحدى الطلاسم السحرية.
     فمضت المرأة، ثم رجعت بعد عشرة أيام لتقول له: "هذه سبع شعرات من شارب الضبع". فذُهِل الشيخُ لرؤيتها بالنظر لما عُرِف عن الضباع من وحشية وشراسة، وقال: "أخشى أن تكون هذه السبع شعرات من شارب زوجك"، أجابت: "لو كان بإمكاني أن أمدّ يدي إلى شارب زوجي لما جئت أطلب معونتك"، قال: "لكن كيف كان بإمكانك أن تمدّي يدك إلى شارب الضبع ؟"
     أجابت: "الأمر بسيط جداً.. عندما رجعت إلى قريتي تذكرت أن بعض رجال القرية يتحدثون، في سهرات الشتاء عن ضبع عتيق يعيش في "مغر الخرائب" وهو يُشاهَد في بعض الليالي قرب المخاضة على نهر الحاصباني، فحملت كمية من اللحم وتوجهت إلى ذلك المكان. وما أن خيّم الظلام حتى لمعت عينا الضبع من بعيد.. وعندما اقترب مني رميت له قطعة من اللحم فالتهمها، وصرت كلما دنا مني أرمي له قطعة أخرى حتى شبع ورجع من حيث أتى.
     وفي اليوم التالي أعدت الكرة، وهكذا دواليك، لمدة خمسة أيام. وفي اليوم السادس، عندما ذهبت وجدته ينتظرني وهو يهز ذيله ترحيباً بي، فرميت له ما كان معي من اللحم ورجعت أدراجي.
     وفي اليوم السابع وجدت الضبعَ راقداً على صخرة ينتظرني، فاقتربت منه ورحت أناوله قطع اللحم من يدي إلى فمه، وهو ينظر إلي بعينين بريئتين كأنه طفل وديع. ثم جلست على الأرض، فنزل عن الصخرة ورقد بجانبي، فرحتُ أغني له وأداعبه بالحلمسة فوق جبينه وتحت ذقنه وحول شاربيه حتى استأنس ومدّ رأسه ووضعه على ركبتي واستسلم إلى نوم عميق؛ عندئذ، يا حضرة الشيخ، تجرأت ومددت يدي إلى شاربه..."
     هنا انتفض الشيخُ صارخاً: "كفى يا امرأة، مَن بمقدورها أن تنوِّم الضبعَ على ركبتها لن يصعب عليها أن تنوِّم زوجَها على مخدتها".            
(بتصرف عن سلام الراسي)
     هذه القصة موجودة في التراث الشعبي اللبناني، والمرجَّح أنها موجودة أيضاً في التراث الشعبي في مناطق مختلفة من العالم بالمضمون نفسه، وإن كان بأشكال مختلفة. فالقصص الشعبية تتشابه في معظم مناطق العالم، وهي وإن اختلفت في الشكل إلا أنها تبقى بمضامين واحدة (أو بالأحرى بِبُنى واحدة وفق التحليل الأنتروبولوجي البنيوي للأدب). 
     والمقصود من القصة أعلاه هو أن الإنسان، وبغض النظر عن انتمائه أو منطقته أو دِينه أو إن كان ذكراً أم أنثى، يمتلك قدرات كبيرة جداً. بإمكانه أن يثق بنفسه ليستخدمها حتى لتغيير ما يُعتبَر من المستحيلات، أو قد يستصغر نفسه ليكون عاجزاً حتى عن أصغر الأمور ويسلّم نفسه إلى السحرة والمنجمين.
     حول سيئات أو أضرار التنجيم الذي أصبح دارجاً بكثرة في هذه الأيام وما يشبه الخبز اليومي للكثيرين، أنه عندما يثق الإنسانُ بأقوال المنجمين حتى وإن كانت ثقة جزئية، فأقل ما قد يصيبه منها هو أضرار كثيرة على صحته النفسية أو الجسدية أو أعماله أو علاقاته. لأنه عندما يصورون له شيئاً أو مشروعاً ما على أنه جيد، فإن يضع هذا التصور في عقله الباطني ويصبح غير قادر على رؤية ما يوجد من سيئات في هذا الأمر أو المشروع، ويأخذ موقفاً منه من هذا المنطلق؛ والعكس صحيح عندما يصورونه على أنه سيء... وعندما يقولون له إن مصيبة أو مكروهاً سيصيبه فقد يضع هذا القول في عقله الباطني ويعمل على استجلاب هذه المصيبة أو المكروه أو يعيش في حالة الهوس الدائم منها... وما إلى ذلك.
     فالإنسان العاقل يُفترَض به أن لا يهتم لما يقوله المنجمون عنه أو عمن هم ضمن برجه أو فئته أو في منطقته؛ كذلك، يُفترَض به أن لا يحاول أن ينجِّم للآخرين، حتى من باب التسلية وتمضية الوقت (كمثل من خلال قراءة الفنجان وقراءة الكف وما شابه)، لأن الاحتمال قائم أن يثق هؤلاء بكلامه ويصبحوا غير قادرين على التفكير السليم واتخاذ المواقف السليمة.  

2 - ملخَّص عن خلاص الإنسان في الأرثوذكسية.
أ - قلنا أعلاه إن الإنسان يمتلك قدرات كبيرة جداً تتيح له تغيير حتى ما يُعتبَر من المستحيلات. في المسيحية الأرثوذكسية، تصبح هذه القدرات المتاحة ليست فقط كبيرة جداً بل أيضاً لا نهائية.
     فالله خلق الإنسانَ على صورته ومثاله؛ وبفعل تجسد المسيح الإله، ضُمَّت الطبيعة البشرية إلى الإلهية. وبفعل هذا التجسد والصلب والقيامة أُعطيت البشرية النعمةَ الإلهية غير المخلوقة، النعمة المؤلِّهة، وأصبح بإمكان الإنسان الحصول عليها من خلال مشاركته في المعمودية والميرون والمناولة.
     فيكون المطلوب منه لخلاص نفسه هو أن ينجح في حياته في السَير في القداسة، أي التقدس بهذه النعمة غير المخلوقة، والتي تتطلب منه المواظبة على الصلوات والأصوام وغيرها من فروض التدين والمحاربة المستمرة لخطاياه في السلوك والتفكير والشعور.
     هدف القداسة هو ليس أن يصبح الإنسان قادراً على صنع العجائب، كما يذهب أحياناً التفكير الشعبي، بل هو السَعي المستمر للتخلي عن الأنانية، أو محبة الذات، التي هي أصل كل الشرور، لصالح المحبة لله وللآخرين. ("تحبُّ الربَّ إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك، هذه هي الوصية الأولى والعظمى، والثانية مثلها، تحبُّ قريبَك كنفسك"؛ متى 22: 37 - 39)؛ والقريب هنا هو أي شخص في العالم مهما كانت فئته أو انتماؤه؛ بناءً على ما ورد في لوقا 10: 29 - 37.
     مسألة صنع العجائب، أو القدرات الخارقة للطبيعة، قد تكون إحدى المواهب التي يحصل عليها المؤمنُ في حال نجاحه في السَير في طريق القداسة، أو قد لا تكون؛ فهي ليست المقياس في النجاح في هذا الأمر. وعلى المؤمن أن لا يطمح بالحصول عليها. ("فرجع السبعون بفرح قائلين: يا رب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك، فقال لهم: رأيتُ الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء، ها أنا اعطيكم سلطاناً لتدوسوا الحيات والعقارب وكلَّ قوة العدو ولا يضركم شيء، ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا بالحري أن أسماءكم قد كُتبت في السموات"؛ لوقا 10: 17 - 20).  
     بل وأكثر من ذلك في حال حصول المؤمن على هكذا مواهب فعليه أن يكون حذراً جداً منها، إذ قد تكون خداعاً من الشياطين لجره إلى الغرور والتكبر وغيره من الخطايا أو لحرفه عن الإيمان الصحيح. ("الشيطان نفسه يغيّر شكله إلى شبه ملاك نور"؛ 2 كورنثوس 11: 14).
     إذاً، وفق المسيحية الأرثوذكسية، الهدف الأساسي في حياة الإنسان هو النجاح في القداسة، وليس النجاح في الحصول على المكاسب الدنيوية من عائلة وصحة وتعلّم وأموال ومناصب وغيرها. فهذه المكاسب يجب أن تكون أهميتُها ثانوية في حياة الإنسان، وليست أساسية؛ ويجب أن تكون في خدمة سعيه للنجاح في القداسة وليس العكس. ("فلا تطلبوا أنتم ما تأكلون وما تشربون ولا تقلقوا، فإن هذه كلها تطلبها أمم العالم، وأما أنتم فأبوكم يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه، بل اطلبوا ملكوت الله وهذه كلها تزاد لكم"؛ لوقا 12: 29 - 31).     
     هذا السَير في القداسة وصفه آباء الكنيسة بتأله الإنسان بالنعمة الإلهية غير المخلوقة، أي بالنعمة المؤلِّهة، فالإنسان يصبح إلهاً بالنعمة وليس بالطبيعة؛ بالنظر إلى كونه قد أصبح حاوياً في كيانه الطبيعة الإلهية غير المخلوقة، وإلى التغيير الكبير الذي سيطرأ على سلوكه وتفكيره وشعوره بفعل نجاحه في  هذه القداسة، وإلى مشاركته مستقبلاً في القيامة في المجد الإلهي غير المخلوق. ("قد وهب لنا المواعيد العظمى والثمينة لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية"؛ 2 بطرس 1: 4). وقد ردد آباء الكنيسة منذ القرن الثاني: "لقد صار الإله إنساناً لكي يستطيع الإنسان أن يصير إلهاً".
     وعندما يصبح الإنسان "إلهاً بالنعمة"، فهذا يعني أن القدرات المتاحة له قد أصبحت لا نهائية. والمقصود بذلك ليس بالضرورة حصوله على المواهب الخارقة للطبيعة، كما ذكرنا أعلاه؛ بل القدرات على تغيير ما في داخله من مخاوف وضعفات وخطايا وعلى تغيير ما في داخل الآخرين من هذه الأمور وعلى التغيير الإيجابي في هذا العالم من خلال أفكاره ومبادراته ومشاريعه وغيرها... وعلى شرط أن يكون كل هذا التغيير هو بما يخدم خلاص نفسه وأنفس الآخرين، وليس لبناء مجده الشخصي أو مجد عائلته أو مجتمعه.
     ما يتيح للإنسان امتلاك هذه القدرات اللانهائية هو النعمة الإلهية الحاصل عليها والتي تؤازره في مسيرته في القداسة. ("فإننا نحن عاملان مع الله، وأنتم فلاحة الله، بناءُ الله"؛ 1كورنثوس 3: 9).
     أحد الشروط الأساسية لنجاح الإنسان في السَير في القداسة هو امتلاكه التواضع؛ فعليه أن يجاهد في تطويع وتحجيم محبته لذاته المتأصلة فيه (أي ما قال عنه آباءُ الكنيسة برغبة الإنسان بعد السقوط في أن يتأله بقواه الذاتية أي ما يُعرَف في علم النفس بالرغبة اللاواعية في التفوق والتوكيد الذات) لصالح المحبة لله وللآخرين. والمقصود بذلك ليس أن يتخلى الإنسان عن طموحه الشخصي في التفوق وتحقيق النجاحات في الدراسة والعمل وغيرها؛ بل أن يجعل هذه النجاحات ليس في خدمة مجده الشخصي بل في خدمة سَعيه لخلاص نفسه وسَعي الآخرين لخلاص أنفسهم، كما ذكرنا أعلاه.
     بموجب هذا الاتضاع، على المسيحيين أن لا يتعاملوا بعنصرية مع غيرهم ويعتبروا أنفسهم أفضل منهم؛ وعلى المسيحي أن لا يعتبِر نفسه أنه متقدِّم بالإيمان على غيره من المسيحيين، كما عليه أن لا يعتبِر نفسه أنه أصبح حتماً مخلَّصاً وأن طريق الجنة أصبحت مضمونة له. ("كل من يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفع"؛ لوقا 18: 10 - 14). ما تعنيه هذه النقطة الأخيرة، هو أن عليه أن لا يكون مطمئناً إلى حتمية خلاصه وفي نفس الوقت عليه أن لا ييأس من هذا الخلاص؛ بل لسان حاله يجب أن يكون دائماً: "أنا إنسان خاطئ لكن الرب يسوع المسيح برحمته ومحبته للبشر سيخلصني"؛ وهو ما يتم التعبير من خلال ترداد صلاة الرب يسوع المسيح التي تقول: "يا رب يسوع المسيح ابن الله ارحمني". 
ب - بالنظر إلى كل ما تقدَّم تصبح المسيحية الأرثوذكسية هي أكثر مذهب ديني أو فكري في التاريخ:
- يُظهِر رفعة قيمة الإنسان، بالنظر إلى خلق الإنسان على صورة الله ومثاله، واتحاد الطبيعتين الإلهية والبشرية في شخص يسوع المسيح، وإعطاء الإنسان النعمة الإلهية غير المخلوقة.
- يُظهِر كرمَ الله غير المحدود نحو الإنسان، بالنظر إلى فتح المجال أمامه للتأله بالنعمة المؤلِّهة وللمشاركة في المجد الإلهي غير المخلوق في القيامة.
- يُظهِر القدرات اللانهائية المتاحة للإنسان في حال نجاحه في إطاعة الله.
- يُشدد على ضرورة تواضع الإنسان كشرط أساس لنجاحه في إطاعة الله.

3 - الموقف الأرثوذكسي من السحر.
أ - يصح وضع السحر ضمن أكثر من خانة. فهناك السحر القائم على التعاون بين الإنسان والشياطين أو مَن هم ضمن خانة الشياطين؛ وهناك السحر القائم على التعاون بين الإنسان ومخلوقات روحية قد يُخدَع بها الإنسان ويظنها خيِّرة؛ وأيضاً هناك السحر الذي لا يقوم على تعاون مباشر أو مقصود بين الإنسان وأي من هذه المخلوقات (كما سنرى أدناه).
     مهما كان نوع السحر، وحتى إذا افترضنا أن الإنسان المسيحي الذي يقرر القيام به، يكون هدفه هو ليس أذية الآخرين بل تحسين الأحوال الدنيوية له أو للآخرين (كمثل التخلص من الأمراض وزيادة الأموال والحصول على محبة الناس وما شابه)؛ فما يوصف به هذا الموقف من قبله هو ليس فقط الخطيئة من منطلق الابتعاد عن الله ووصاياه؛ بل أيضاً الاستصغار الكبير من قبل هذا الإنسان لقيمته المعطاة له في المسيحية ولكرم الله نحوه وللقدرات اللانهائية المتاحة له، التي تمكنه من تحسين الأحوال الدنيوية له ولغيره، في حال إطاعته لله...
     وبالطبع، في حال كان السحر الذي يقوم به هذا الإنسان قائماً على تعاون مقصود بينه وبين الشياطين أو أن هدفه منه هو إلحاق الأذية بالآخرين، فإن وضعه سيكون أكثر سوءًا مما هو وارد أعلاه.
     كذلك هو الحال مع المسيحي الذي يلتجئ إلى السحرة لتحسين أحواله أو أحوال غيره الدنيوية، فما يوصف به هذا الموقف من قبله هو ليس فقط الخطيئة من منطلق الابتعاد عن الله ووصاياه؛ بل أيضاً الاستصغار الكبير من قبل هذا الإنسان لقيمته المعطاة له في المسيحية ولكرم الله نحوه وللقدرات اللانهائية المتاحة له... أيضاً يكون الأمر أكثر سوءًا معه في حال كان هدفه من الالتجاء إلى السحرة هو أذية الآخرين.
     وباختصار، إذا كان السحرُ خطيئةً وأمراً مكروهاً في معظم المذاهب الدينية، إلا أنه يبقى في المسيحية الأرثوذكسية خطيئةً وأمراً مكروهاً أكثر ما هو الحال في باقي هذه المذاهب.
ب - تعترف الأرثوذكسية بوجود سحر قائم على التعاون بين الإنسان والشياطين. فالشياطين هم ملائكة ساقطون يقومون بإغواء البشر للقيام بالشر والابتعاد عن الله. ولا تفرِّق الأرثوذكسية بين الشياطين والجن، بل تضعهم جميعاً في نفس خانة الشياطين. أي على عكس ما هو الأمر في بعض المعتقدات الشعبية وعند العاملين بالسحر وعند بعض الديانات، الذين يفصلون بين الشياطين والجن، ويضعون الجن ضمن مراتب، ويميزون بين مَن هم صالحين منهم ومَن هم طالحين، أو بين مَن هم سيئين ومَن هم أكثر سوءًا.
     أحياناً يبرر بعضٌ من المسيحيين، كما من غيرهم، التجاءهم إلى السحرة، تحت حجة أنهم عرضة لسحر مؤذٍ وأنهم بحاجة إلى حماية هؤلاء السحرة لرد هذا السحر عنهم. فيقولون: إن هناك من يصنع لهم سحراً لتفريقهم عن محبيهم أو لبقائهم من دون زواج أو لخسارتهم مصدر رزقهم أو لإصابتهم بأمراض جسدية أو عقلية أو غيره، وإنهم لا يطمعون من التجائهم إلى السحرة بأي مكسب دنيوي إنما فقط لرد ذلك السحر المؤذي عنهم، وإنهم أناس صالحون ومتدينون وقد التجؤا إلى الصلاة والصوم والكنائس والأديرة وعلقوا الأيقونات في منازلهم؛ وإن كل ذلك لم ينفع في رد السحر المؤذي عنهم ولم يتبقَ لهم إلا الالتجاء إلى السحرة لهذه الغاية...
     الجواب على ما تقدم: هو أنه ليس كل من عمل الصلاح وقام بالصلاة والصوم أنه أصبح بالضرورة مخلَّصاً في الأرثوذكسية؛ لأن الاحتمال قائم أن يكون صلاحه وتدينه هو في غير الوجهة الصحيحة؛ كمثل أن يكون بهدف تحسين أحواله الدنيوية (عملاً بالمثل القائل "على حسب نواياكم ترزقون")، أو أن يكون من ضمن انقياده في أعراف اجتماعية، أو أن يكون المؤمِن قد دخل في حالة كبرياء وأصبح يَعتبِر نفسه أكثر قداسة من الكثيرين وأن الدخول إلى الجنة أصبح مضموناً له. في حين أن الهدف من التدين في الأرثوذكسية هو، وكما ذكرنا، الوصولُ، وبمعونة النعمة الإلهية، إلى النقاء الداخلي، أي إلى النجاح في القداسة، أي إلى تطويع وتقزيم محبة الذات لصالح المحبة لله وللآخرين، وعلى رجاء الخلاص في الدهر الآتي. هذه الطريق تتطلب أن يتم اقتران التدين مع ما يرافقه من تغيّر في السلوك باليقظة والمحاربة الدائمة للأفكار والمشاعر السيئة وخاصة منها الغرور والكبرياء. ("من القلب تخرج أفكار شريرة... هذه هي التي تنجّس الإنسان" متى 15: 19 - 20).
     وعندما يسير الإنسان في الطريق الصحيح للخلاص، أي عندما يصبح متقدساً بالنعمة الإلهية غير المخلوقة فمن البديهي أن لا يؤثِّر عليه أيُّ سحر مهما قوي أو كبر، وأن يكون مطمئناً وواثقاً إلى الحماية الحاصل عليها في مواجهة هكذا سحر.
     إحدى أشهر القصص في المسيحية في هذا الإطار هي قصة القديسين الشهيدين كبريانوس ويوستينة (2 تشرين الأول). فكبريانوس كان ساحراً مقتدراً، لكنه عجز في استخدام السحر في جعل يوستينة المسيحية البتول تقع في غرام شاب آخر يريد الزواج منها... وكانت النهاية أن تعرّف كبريانوس على الإيمان المسيحي بفضلها وترك السحر وأصبح مسيحياً، إلى أن نال الشهادة معها.  
     كخلاصة، مَن كان مسيحياً صالحاً ومتديناً وفي نفس الوقت مقتنعاً أنه عرضة لسحر مؤذٍ وأنه غير قادر على ردّه أو الحماية منه... فالمطلوب منه هو أن يجعل صلاحه وتدينه في الوجهة الصحيحة... وإذا ما عجز عن هذا الأمر، فعليه أن يلتجئ إلى أب روحي أو أب مرشد فيساعده بنصائحه في هذا الأمر.    
ج - هناك نوع من السحر كان ولا يزال موجوداً منذ آلاف السنين في المنطقة الممتدة من المغرب العربي وصولاً إلى ما بعد إيران؛ يدَّعي مَن يقومون به أنهم لا يتعاونون مع الشياطين أو الجن السفليين بل مع مخلوقات روحانية خيِّرة، كمثل الملائكة والجن العِلويين (أي الصالحين). بموجب هذا السحر يقوم الساحر بخلوة روحية طويلة ينقطع فيها عن غيره من البشر، ويأكل أطعمة معيَّنة عادةً تكون نباتية، ومع بخور معيَّن، ومع احتساب حركة النجوم، ويطالع فيها بكثرة كتباً دينية منها التوراة والإنجيل والقرآن، ويتلو أدعية بكثرة... وفي نهاية الخلوة يظهر عليه الملاك المطلوب أو أحد ملوك الجن العِلويين أو ما شابه... ويصار إلى تعاهد بين الطرفين...
     وجهة النظر الأرثوذكسية حول هذا الموضوع، هو أنه لما كان الملائكة لا يتم استدعاؤهم والتعاون معهم بهذا الشكل، بل المفترَض بالمؤمِن أن يطلب شفاعتهم، ولما كان "الشيطان نفسه يغيّر شكله إلى شبه ملاك نور"؛ فيكون الذين يتعاهد معهم هؤلاء السحرةُ ليسوا سوى شياطين يظهرون بصور مضيئة أو نورانية.
د - الكثير من السحرة في العالم العربي يحيطون أنفسهم بمظهر ديني، فيعلقون الرموز الدينية، كمثل الآيات القرآنية أو الأيقونات المسيحية، داخل منازلهم، ويكثرون من ذكر الله وأنبيائه وقديسيه في أحاديثهم، وإذا ما جاءهم زبون يطلب مساعدتهم في سحر معيَّن يقولون له عبارات كمثل "بإذن الله سيكون لك هذا أو سيتحقق هذا"... فيطمئن هذا الزبون إلى أن هؤلاء السحرة لا يفعلون شيئاً محرماً بدليل كثرة تدينهم، وإلى أنهم يتعاونون مع أرواح خيِّرة أو عِلوية وليس مع أرواح شريرة أو سفلية، كون هذه الأخيرة سوف تهرب من الآيات القرآنية أو الأيقونات المسيحية المعلقة داخل المنزل أو سوف تهرب من كثرة ذكر الله وأنبيائه وقديسيه.
     وجهة النظر الأرثوذكسية حول هذا الموضوع هو أن كثرة الرموز الدينية المعلقة داخل المنزل الساحر أو كثرة ذكره لله وأنبيائه وقديسيه لا تكفي لمنع الشياطين من أن تأتي إلى هذا الساحر وتتعاون معه، سواء أكان هذا بعلم منه أم بخداع له من قبلها.
     الكثير من القديسين والنساك في الأرثوذكسية كانت تظهر لهم الشياطين، إما بصورها الحقيقية أو بصور الملائكة، بهدف إرهابهم أو إحباطهم أو خداعهم أو حرفهم عن الإيمان الصحيح أو غيره... أي إن تقدُّم هؤلاء في القداسة وكثرة ذكرهم لله وتلاوتهم للصلاة وصيامهم لم يكن كافياً لردع الشياطين من أن تظهر لهم؛ فكيف هو الحال إذاً مع السحرة في إحاطتهم لأنفسهم بمظهر ديني ؟ 
هـ - حول السحر الذي يهدف إلى استحضار أرواح بشر متوفين للتحدث معهم، سواء بهدف التسلية أو الفضول أو الشوق لهم أو الاستفادة منهم.
     في الأرثوذكسية، المطلوب من المؤمِن أن يصلي من أجل أرواح البشر المتوفين، وسواء أكانوا مسيحيين أم غير مسيحيين، ومن غير الجائز التعامل معهم بخفة إلى درجة استدعائهم للتحدث معهم أو الاستفادة منهم أو غيره... بالتالي، عند حصول جلسات استحضار الأرواح، فالأرواح التي تتم مشاهدتها أو سماع صوتها أو تقوم بتحريك القلم لتكتب أو ترسم به أو غيره... المرجَّح هنا أيضاً أن تكون شياطين تظهَر في هذه الجلسات بصور أرواح بشرية.   
و - حول السحر الذي لا يقوم على تعاون مقصود بين الإنسان وأيٍّ من المخلوقات الروحية.
     في جميع المجتمعات يوجد سحر شعبي هو عبارة عن عادات ومفاهيم شعبية تهدف إلى جلب الخير وإبعاد الشر.
     أحد أشهر هذه المفاهيم هو التشاؤم من الرقم 13 والابتعاد عنه بهدف إبعاد الشر أو الأذية التي ستنتج عن الالتصاق به. لتوضيح الأمور أكثر، إذا افترضنا أن أحدهم وجد أن كرسيه في قاعة ما تحمل هذا الرقم أو أن مقصورته تحمله أو أن الطابق في البناية الذي ينوي استئجاره أو شراءه يحمله... فمن الطبيعي أن يشعر ببعض القرف أو الاشمئزاز أو الخوف من هذا الوضع، لكن عندما يتقصد تجنب هذا الكرسي أو المقصورة أو الطابق بهدف الابتعاد عن الشر أو الأذية الذي سيلحق به بسبب الرقم 13، فهذا سلوك سحري بكل ما للكلمة من معنى وأيضاً خطيئة بكل ما للكلمة من معنى؛ بالرغم من عدم وجود رابط ظاهر أو واعٍ بين الرقم 13 ومخلوقات روحية ما... بالتالي، في الأرثوذكسية، المفترَض بالمؤمِن أن لا يستصغر رفعة القيمة المعطاة له من الله وكرم الله نحوه والنعمة الإلهية غير المخلوقة الحاصل عليها والقدرات اللانهائية المتاحة له في حال نجاحه في السَير في القداسة، إلى درجة الخوف من الرقم 13 وتجنبه، أو إلى درجة التمسك بغيره من العادات والمفاهيم في هذا المجال. 
   أيضاً من العادات والمفاهيم في هذا الإطار التي نجدها في مجتمعاتنا، أنه إذا أُرسِلت ورقة نعوة إلى أحدهم أن يقوم بتمزيق قسم منها حرصاً على أن لا تجلب هذه الورقة الشر أو الموت إلى بيته؛ وأنه إذا توفي أحدهم فلا يتم الدفن يوم الاثنين لأنه بداية الأسبوع وقد تحدث وفيات أخرى خلاله في حال فُتِحت المقبرة في هذا اليوم. وهناك عادة قديمة عند المسيحيين وهي أنه حين الدفن يُحرَص على وضع يدي الميت على جانبيه وليس على صدره حرصاً على "أن لا يبلع يدَه، فيجرّ وراءه" أي تحدث وفيات أخرى في بيته أو قريته؛ ويشابه هذه العادة عادةٌ عند المسلمين وهي أن يتم إبعاد الكفن عن وجه الميت حرصاً على "أن لا يبلع الكفن، فيجرّ وراءه"... 
     كل هذه العادات يصح وصفها بالسحر الشعبي... إلا أن العادة الأكثر ممارسة هي حول تعليق خرزة زرقاء أو حذاء عتيق في مكان ظاهر من المنزل أو مكان العمل أو السيارة أو الشاحنة لرد "صَيبة العين". وكثيراً ما يتم تعليق الخرزة الزرقاء على الأطفال للغاية نفسها... وبعض المسيحيين يعمدون إلى جمع هذه الخرزة إلى جانب الصليب وتعليقهما على الأطفال؛ في هذا الوضع الأمر لا يعود مجرد سحر شعبي بل أيضاً إهانة واضحة لرمز الصليب... حول رد العين الحاسدة، هناك صلاة خاصة في الأرثوذكسية (أفشين) يقيمها الكاهن على المؤمِن، أو على أحد أطفاله، في حال الظن بوجود عين حاسدة.
     أخيراً هناك نوع من السحر في هذا الإطار يدَّعي مَن يقومون به أنهم يستعملون التنويم المغناطيسي، أو ما شابه من القدرات، للسيطرة على الآخرين وإلزامهم تنفيذ أوامرهم... هنا أيضاً يُفترَض بمن هو متدين وصالح، بالشكل الصحيح، أن يكون محصناً ضد هذا النوع من السحر، كما ضد غيره من أنواع السحر الذي يقوم على التعاون مع الشياطين.

3 - الموقف الأرثوذكسي من التنجيم.
     هناك قسم من المنجمين يدَّعون القدرة على رؤية المستقبل من خلال الاتصال أو التعاون مع مخلوقات روحية كمثل الشياطين أو الجن أو أرواح بشر متوفين أو غيرهم... استناداً إلى ما أوردناه أعلاه ليس من داعٍ للدخول في هذا الموضوع وإظهار الخطأ فيه من وجهة النظر الأرثوذكسية.
     سنتناول هنا موضوع مَن يدَّعون رؤية المستقبل من دون أي اتصال أو تعاون مع مخلوقات روحية، أي الذي يدَّعون معرفة المستقبل اعتماداً على حدس داخلي أو حاسة سادسة أو من خلال قراءة أو تفسير إشارات معيَّنة في راحة اليد الشخص المعني أو فنجان القهوة الذي شربه للتو أو الهيئة الفلكية حين ولادته أو اسمه شخصي أو غيره...
     لفهم الموقف الأرثوذكسي من هذا الموضوع سنتناول أولاً القصة التالية الواردة في الإنجيل: "وبينما نحن مقيمون أياماً كثيرة انحدر من اليهودية نبيُّ اسمه أغابوس، فجاء إلينا وأخذ منطقةَ بولس وربط يَدي نفسه ورجليه وقال هذا يقوله الروحُ القدس: الرجل الذي له هذه المنطقة هكذا سيربطه اليهودُ في أورشليم ويسلمونه إلى أيدي الأمم. فلما سمعنا هذا طلبنا إليه نحن والذين من المكان أن لا يصعد إلى أورشليم. فأجاب بولس: ماذا تفعلون تبكون وتكسرون قلبي لأني مستعد ليس أن أُربَط فقط بل أن أموت أيضاً في أورشليم لأجل اسم الرب يسوع. ولما لم يُقنَع سكتنا قائلين لتكن مشيئة الرب" (أعمال الرسل 21: 10 - 14).
     المقصود بهذا أن المطلوب من المؤمِن أن يخطط لمستقبله بما يرضي الله، حتى وإن كان هذا الأمر سيؤدي إلى خسارته لحياته أو لأي مكسب دنيوي آخر.
     لزيادة التوضيح. وكما كنا قد أشرنا أعلاه، أن هدف الأساسي عند المؤمِن في هذه الحياة هو القداسة، أي التأله، بينما تحصيل المكاسب الدنيوية يكون هدفاً ثانوياً عنده وفي خدمة هذا الهدف الأساسي. بالتالي، المفترَض بالمؤمِن وعند شروعه في أي عمل، وسواء أكان صغيراً أم كبيراً أو أكان لزيادة تحسين أحواله أم للتخلص من أية مشكلة، أن يطلب بركةَ الله. كمثل أن يقول: "بارك أيها الرب يسوع المسيح" أو "بصلوات آبائنا القديسين بارك أيها الرب يسوع المسيح هذا العمل" أو "على اسم الله"؛ أو على الأقل أن يرسم إشارة الصليب دلالةً على طلب هذه البركة.
     أما ما تعنيه هذه البركة، فهو أن تكون نتيجة ذلك العمل مساهِمةً في نجاح المؤمِن في السَير في القداسة، وليس أن تكون بالضرورة مساهِمةً في الزيادة أو التحسين في مكاسبه الدنيوية، من الصحة أو المال أو الأولاد أو الشهادة العلمية أو النجاح المهني أو الشهرة أو غيره... فقد يرى اللهُ أن هذا المؤمِن، وبالنظر إلى ظروفه وأوضاعه الشخصية، ولكي يسير بشكل أفضل في القداسة، أن تتحسن أحواله الدنيوية في ذلك المشروع الذي يطلب البركة فيه؛ والعكس صحيح، أي قد يرى اللهُ أنه من الضروري لهذه الغاية أن تسوء أحوال هذا المؤمِن في هذا المشروع، أي أن يكون بحاجة إلى بعض التأديب، ("يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تَخُر إذا وبخك، لأن الذي يحبُّه الربُّ يؤدِّبه ويجلد كلَّ ابن يقبَله"؛ عبرانيين 12: 5 - 6).      
     باختصار، المفترَض بالمؤمِن أن يكون هدفه عند شروعه في أي عمل أن تأتي نتائجه مساهمةً في حسن سَيره في القداسة حتى وإن أدَّت إلى شهادة الدم، وأن يكون بما يرضي الله؛ وهو لذلك يطلب البركة في هذا العمل. ولا يُفترَض به أن يكون هدفه منه هو أساساً زيادة المكاسب الدنيوية، فيذهب إلى المنجمين ليقولوا له: إن ابتدأت العملَ في هذا الوقت ستزيد أرباحُك وإذا ابتدأت في ذلك الوقت ستقل أرباحُك؛ أو ليقولوا: هذا الشخص اسمُك يتوافق مع اسمه وبرجُك مع برجه فتعاون معه، وذلك الشخص لا يتوافق مع اسمك وبرجك فلا تتعاون معه؛ وما على ذلك...

4 - الموقف الأرثوذكسي من الظهورات الشيطانية.
أ - هناك منازل تُعرَف "بالبيوت المسكونة" فيتم سماع أصوات غريبة في داخلها، أي من دون معرفة مصدرها، أو تتم مشاهدة أشباح فيها قد تكون بهيئات بشرية أو شيطانية. وتصبح الأمور أكثر مأساوية عند حصول ظاهرة "الشبح الصاخب" (كما يقال في أوروبا)؛ فيقوم هذا الشبح، وبشكل مفاجئ، بإدارة جهاز التلفزيون أو الراديو أو بفتح الأبواب أو إغلاقها أو إزاحة المفروشات من مكانها أو فتح حنفيات المياه... ما يحوِّل حياةَ ساكني المنزل إلى كابوس.
     الحلّ في الأرثوذكسية لهذه المشكلة، الكفيل بإزالة هذه الظهورات، يكون في أن يقوم كاهنٌ برش البيت بالماء المقدسة، ومن الممكن أن تتم خدمة تقديس الماء داخل هذا البيت. وبالطبع المطلوب من سكان هذا البيت من جهتهم أن يزيدوا من تدينهم ومن صلاحهم، أي أن يزيدوا مما يقومون به من صلوات وأصوام وغيرها من فروض التدين ومن السلوك والأعمال الجيدة والتنقية الداخلية؛ كون النعمة الإلهية لا تكفي لوحدها لخلاص الإنسان بل لا بد من أن تُقرَن بالجهاد من جانب هذا الإنسان ("نحن عاملان مع الله"). وفي حال عدم توفر كاهن لهذه المهمة فبإمكان سكان هذا البيت أن يجلبوا ماء مقدسة (مصلّى عليها في كنيسة أرثوذكسية) وأن يقوموا بأنفسهم برش البيت منها مع تلاوة صلاة في نفس الوقت. هذه الصلاة قد تبتدئ باستدعاء الروح القدس، "أيها الملك السماوي" وما يليها، ثم "قدوس الله" وما يليها، ثم بالتزامن مع رش الماء تتم تلاوة طروبريات أو مزامير أو ترداد عبارات كمثل "بصلوات آبائنا القديسين أيها الرب يسوع المسيح إلهنا ارحمنا وخلصنا آمين"... كما يمكن أداء أية صلاة أخرى قد يرتئيها الأب الروحي أو الأب المرشد في حال توفر أي منهما.
     العادة في مجتمعاتنا أن يتم رش المنزل بالماء المقدسة مرة واحدة في السنة بمناسبة عيد الظهور الإلهي، فيدور الكاهن على منازل الرعية ويرشها بالمياه. لكن من الأفضل أن يحتفظ المؤمِنُ بالماء المقدسة في بيته على مدار السنة ويقوم بنفسه برش بيته أو مكان عمله بها أكثر من مرة. ليس من باب طرد أية شياطين من المنزل بل من باب فروض التدين و"العيش بالملكوت"، أي حتى وإن كان لا يعاني من أية ظاهرة تتعلق بالبيوت المسكونة. في بعض الأديرة تتم خدمةُ تقديس الماء مرة كل شهر، ويقوم الرهبان أو الراهبات بالشرب منها بشكل يومي. فيكون من المفيد أن يَحضَر المؤمِنُ هذه الخدمَ، في هذه الأديرة أو في الرعايا في حال كانت تقام فيها، أكثر من مرة في السنة، ويجلب معه الماء المقدسة للشرب منها كما لرش بيته أو مكان عمله أو حتى حديقته أو حقله من وقت لآخر...
ب - هناك أشخاص تحدث معهم ظهورات شيطانية من وقت لآخر، في مكان سكنهم أو خارجه، فيشاهدون أشباحاً بهيئات شيطانية أو هيئات بشرية؛ وقد تحدث معهم أثناء اليقظة كما في الأحلام أثناء النوم. بعضُهم قد يتجرأ ويدخل مع هذه الظهورات في نقاشات وجدل في مواضيع دينية أو فلسفية أو أخلاقية أو غيرها، أو قد يتصارع جسدياً معها... أحياناً لا تكون هذه الظهورات بهيئات مخيفة، بل تأخذ شكل فتاة رائعة الجمال، أو بالأحرى يكون جمالها مختلفاً عن جمال مجمل الفتيات في هذا العالم حيث لا يصعب على الإنسان الذي يشاهدها من أن يدرك من أنها من صنف الجنيات أو ما شابه، فتتطور الأمور إلى علاقة جنسية بين الطرفين، أو حتى إلى علاقة حب وغرام جارف تمتد إلى سنين طويلة.  
     وجهة النظر الأرثوذكسية عن هذه الظهورات، هي أنه أولاً المفترَض بالمؤمِن أن لا يخاف من أية ظهورات شيطانية، "فالمؤمِن لا يخاف إلا من الخطيئة"؛ أي المفترَض به أن لا يخاف من أعداء بشريين أو حيوانات مفترسة أو أمراض أو أوبئة أو كوارث طبيعية أو من الموت أو من أي سحر أو ظهورات شيطانية... وفي حال حصل له خوف فهذا يعني أن ثمة أخطاء في تدينه أو صلاحه، أي ثمة خطايا يعيش فيها غير متنبه لها أو لخطورتها... فكلما زادت خطايا الإنسان زاد خوفه، وكلما قلَّت خطاياه قلَّ خوفه.
     آباء الكنيسة الأرثوذكسية (أي معلموها) تحدثوا كثيراً عن الظهورات الشيطانية، وحذروا المؤمِنَ من أن يجري معها أي حديث أو نقاش أو جدل أو صراع جسدي... والسبب واضح، وهو أن المؤمِن عندما يجد نفسه يتحدث مع الشياطين ويجادلها أو يصارعها، فيظن أنه قوي جداً أو قديس حتى لا تستطيع إيذاءه، فيدخل في غرور وكبرياء مفرطَين وينجرّ إلى الخطايا ويخسر الخلاص؛ فتكون الشياطين قد حققت هدفها على أسهل ما يكون.  
     أما عن كيفية التخلص من هذه الظهورات، فبالطبع من المهم ذِكر اسم الرب يسوع ورسم إشارة الصليب وما شابه... وقد قدَّم الآباءُ نصائحَ مهمة في هذا الإطار... منها أن الشياطين في ظهورها على أي إنسان هي تستفيد مما عنده من غرور وكبرياء؛ فتكون أسهل وأسرع طريقة ليتخلص منها هي أن يبتعد عن هذه الأمور... فما عليه، حين تحصل له هذه الظهورات، سوى أن يردد عبارات كمثل: "أنا إنسان حقير، وأحقر الناس، لا أساوي شيئاً، أنا نكرة، أنا تافه، أنا حشرة..."؛ فتختفي هذه الظهورات للتو... ومع الوقت يصبح بإمكانه أن يردد هذه العبارات حتى أثناء النوم حين تحصل له هذه الظهورات في الأحلام.

5 - الخلاصة.
     قلنا أعلاه إن المسيحية الأرثوذكسية هي أكثر مذهب ديني أو فكري في التاريخ: يُظهِر رفعة القيمة المعطاة للإنسان من الله والقدرات اللانهائية المتاحة له...
     إضافة إلى ذلك هي أكثر مذهب ديني أو فكري في التاريخ: يؤمِّن سعادة الإنسان، ويتيح له التغلب على مخاوفه وضعفاته وخطاياه، ويفتَح المجالَ أمامه للتغيير نحو الشخصية الفاعلة والبنَّاءة والإيجابية، ويتوافق مع طبيعة نفسيته من حيث تغييرها إلى الأفضل، وغيره...
     واعتماداً على كل ذلك المفترَض بمن هو أرثوذكسي متدين وصالح أن لا يخاف: لا من أي سحر مؤذٍ يتقصده حتى ولو اجتمع كل السحرة في العالم لمحاربته، ولا من أية ظهورات شيطانية تحصل له حتى ولو ظَهر أمامه الشيطان الأكبر بذاته، ولا من الرقم 13 أو غيره من العادات والمفاهيم التشاؤمية، ولا من "صَيبة العين"، ولا من تنويم مغناطيسي يتقصده، ولا من أن يسكن ويأكل ويشرب وينام في أي من البيوت التي تُعرَف المسكونة حتى ولو كانت تعج بالجن والشياطين... كذلك المفترَض أن لا يلتجأ إلى السحرة والمنجمين مهما ساءت أحواله الدنيوية.
     وفي حال حصل له أيٌّ من هذه المخاوف أو وجد نفسه ملتجئاً إلى سحرة أو منجمين، فهذا يعني أن ثمة أخطاء في تدينه أو صلاحه، أي ثمة خطايا غير متنبه إليها أو إلى خطورتها... فيكون المطلوب منه هو أن يصحح هذه الأخطاء. إحدى الطرق المهمة التي تساعده في التصحيح هو كثرة المطالعة للكتاب المقدس وسِيَر القديسين وأقوالهم وغيرها من الكتب الدينية التي توصله إلى التنبه إلى أخطائه ومعرفة كيفية تصحيحها... وفي حال عجز عن ذلك فالمطلوب منه هو الاستعانة بنصائح أب مرشد أو أب روحي.
     المقصود بالأب المرشد هو الذي يقدِّم النصائح للسائل في حالات معيَّنة. والمقصود بالأب الروحي هو الذي يكون مطَّلِعاً على مجمل نواحي حياة تلميذه ويرافقه مدى الحياة ويقدِّم له النصائح في مجال التدين كما في غيره من المجالات التي يَعتبِر أن لها علاقة بخلاصه؛ ومن الأفضل أن يكون هو نفسه الكاهن الذي يمارس عنده سر الاعتراف.  
     وجود الأب الروحي في حياة المؤمِن ليس شرطاً لحصول الخلاص، أي بإمكان المؤمِن الوصول إلى القداسة من دونه؛ لكن المجمَع عليه هو أن وجود الأب الروحي هو ضمانة أكبر للخلاص.



عامر سمعان ، باحث وكاتب
28/ 12/ 2013

الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

عن الراهبات المختطفات ومسيحيي سوريا


أ - بعد أن قامت المعارضةُ السورية المسلحة باختطاف الراهبات من دير القديسة تقلا في معلولا، وما أثاره هذا الأمر من ضجة منددة داخل سوريا وخارجها؛ ظهرت فجأة أصواتٌ من داخل سوريا ومن ضمن الفريق الموالي للنظام، على صفحات التواصل الاجتماعي، مستغربة ظهور هذه الضجة وما يرافقها من مساعي حثيثة للإفراج عنهن في حين لا يزال الآلاف من المختطفين والمفقودين يكاد لا أحد يهتم بهم. ويتساءل هؤلاء: كيف من الممكن أن تكون ثلاث عشرة راهبة أهم من آلاف المختطفين والمفقودين ؟ وما هو شعور أهالي المختطفين عندما يرون هذا الاهتمام الزائد بالراهبات في حين لا يهتم أحد بأولادهم ؟ وليصلوا إلى نتيجة أن النظام السوري قد أخطأ في التعاطي الزائد بموضوع الراهبات.
     من جهة أخرى، ومع ازدياد هجرة المسيحيين من سوريا بعد بدء الأحداث الأمنية كانت قد ظهرت أصواتٌ تتهِم مسيحيي سوريا بقلة الوطنية وبالجبن لأنهم لم يحملوا السلاح ويدافعوا عن وجودهم كما تفعل باقي الأقليات من أكراد وشيعة ودروز وعلويين.
ب - أقل ما يمكن أن يقال عمن يطلقون هذه الاتهامات إما أن لديهم قصر نظر فاضح، أو كره لمسيحيي سوريا...
- أولاً، حول اهتمام النظام السوري وحلفائه بالإفراج عن الراهبات المختطفات.
     أهم مأخذ على المعارضة السورية المسلحة، أي الانتكاسة السياسية الأهم لها، هي قيامها بجرائم ضد الإنسانية بحق مسيحيي سوريا، من قتل وتطهير طائفي وخطف وقنص وقصف وسبي نساء واغتصابهن وتخريب وتدنيس الكنائس والأديرة والتعرض لرجال الدين والرهبنة، وخاصة ما حصل مع المطرانين المخطوفين ومؤخراً مع خطف الراهبات من معلولا.
     بالطبع كل سكان سوريا من مسلمين ومسيحيين هم معرَّضين أو ضحايا لهذه الجرائم من قبل المعارضة المسلحة. لكن عندما تحصل هذه الجرائم بحق المسيحيين يكون لها ضجة أكبر من عندما تحصل بحق غيرهم، أي يترتب عليها انتكاسة سياسية أكبر للمعارضة. وخاصة عندما تحصل بحق رجال الدين والرهبنة والكنائس والأديرة، لأن هذه هي رموز لحرية العبادة المسيحية.
     السبب في هذا الأمر، هو أنه يوجد ضرورة عالمية للمحافظة على المسيحية في هذه المنطقة، أي في سوريا والدول المجاورة لها. فالمسيحيون في كل أنحاء يهمهم هذا الأمر لأن هذه المنطقة هي مهد المسيحية. والمسلمون بدورهم يهمهم هذا الأمر لإظهار أنفسهم كمنفتحين ومتقبلين الآخر ومتعايشين معه. والذين هم غير مسيحيين وغير مسلمين يهمهم بدورهم هذا الأمر من باب المحافظة على التنوع الثقافي في هذه المنطقة. باستثناء فريقين في العالم يعملان على إلغاء الوجود المسيحي في هذه المنطقة، الأول هم الأصوليون الإسلاميون المتطرفون (قسم منهم وليس جميعهم) الذين يعتبرون المسيحيين كجسم غريب داخل إماراتهم الإسلامية المستقبلية؛ والثاني هم صناع القرار في السياسات الغربية، الأمريكية والحليفة لها، والذين بناءً على سياساتهم في العراق وسوريا يبدو واضحاً أنهم يعملون على إلغاء الوجود المسيحي في هذه المنطقة.
     أي إنه بالنظر إلى الضرورة العالمية للمحافظة على المسيحية في هذه المنطقة، تصبح جرائم المعارضة السورية المسلحة بحق المسيحيين، وخاصة بحق رجال الدين منهم والرهبنة والأديرة والكنائس، هي الانتكاسة السياسية الأهم لها. 
     بالتالي، عندما يقوم النظامُ السوري وحلفاؤه، داخل سوريا وخارجها، بتسليط الأضواء على الراهبات المختطفات والمطرانين وبعض الكهنة المختطفين، فهذا ليس لأن هؤلاء هم أهم من آلاف المخطوفين والمفقودين، وليس لأن النظام السوري يخاف من الغرب المسيحي ويريد أن يسترضيه بهذه المسألة (كما تذهب بعض التعليقات)... بل السبب هو أنه كلما زاد تسليط الأضواء على هؤلاء الراهبات والمطرانين والكهنة، أدى هذا إلى زيادة تشويه صورة المعارضة السورية المسلحة عالمياً، وكان هذا الأمر ربحاً سياسياً أكبر للنظام وحلفائه...        
     الحرب العالمية الدائرة في سوريا هي أولاً وأساساً حرب إعلامية وسياسية وثانياً هي حرب عسكرية؛ وكلما زاد الربح الإعلامي والسياسي زاد تحسن الوضع العسكري على الأرض.
- ثانياً، حول الهجرة الملحوظة لمسيحيي سوريا.
     عندما قرر أكراد سوريا البقاء فيها وحمل السلاح والدفاع عن أنفسهم في مواجهة جرائم الأصوليين المتطرفين، فليس السبب في هذا أنهم أكثر وطنية أو شجاعة من المسيحيين، بل السبب أنه هناك ميليشيات كردية خارج سوريا مستعدة لأن تمدهم بالسلاح والمتطوعين إذا لزم الأمر. وعندما قرر شيعة سوريا البقاء فيها وحمل السلاح والدفاع عن أنفسهم في مواجهة جرائم الأصوليين المتطرفين، فليس السبب في هذا أنهم أكثر وطنية أو شجاعة من المسيحيين، بل السبب أنه هناك ميليشيات شيعية خارج سورية ودول شيعية مستعدة لأن تمدهم بالسلاح والمتطوعين إذا لزم الأمر؛ مع العلم أنه عند التحدث عن حزب الله فهو ليس مجرد ميليشيا، بل أحد أقوى الجيوش ويشكِّل دولة داخل دولة. وكذلك هو الحال مع الدروز في قرارهم البقاء وحمل السلاح. أما العلويون فمن الطبيعي أن يكونوا مطمئنين إلى أنهم آخر فئة قد يتخلى عنها النظام؛ لكن على ما يبدو أنهم أصبحوا يتذمرون من طريقة تعاطي هذا النظام مع مختطفي ريف اللاذقية...
     أما عن مسيحيي سوريا فبالطبع ليس هناك من ميليشيات مسيحية خارج سوريا مستعدة لأن تمدَّهم بالسلاح والمتطوعين.   
     المسألة لا تتوقف عند هذا الحد، لنعد قليلاً بالذاكرة إلى ما حصل في العراق. فمسيحيو العراق لم يكونوا المسؤولين عن أخطاء نظام صدام حسين لا من قريب ولا من بعيد؛ وليسوا هم من طلب وترجى وتوسل الأمريكيين لكي يحتلوا العراق وينهوا هذا النظام؛ وفي النهاية ماذا كان مصيرهم ؟
     كان مصيرهم أنه في العام 2010 أعلن تنظيم "دولة العراق الإسلامية" أن مسيحيي العراق أصبحوا جميعاً "أهدافاً مشروعة للمجاهدين" و"أن كل المراكز والمنظمات والهيئات النصرانية، رؤوساً واتباعاً، أهداف مشروعة للمجاهدين حيثما طالته أيديهم"... تحت حجة أن الكنيسة القبطية في مصر تسجن في أحد الأديرة سيدتين مسيحيتين اعتنقتا الإسلام، وأنها لم تفرج عنهما بعد انقضاء المهملة التي منحها لها هذا التنظيم. وأعقب هذا التهديد اعتداءات على كنيسة وبيوت للمسيحيين في بغداد أوقعت عشرات القتلى منهم. أي إن تنظيم "دولة العراق الإسلامية" تجاهل كل ما لحق ويلحق بمسيحيي مصر من تجاوزات وغبن وتهميش، واستند إلى رواية مشكوك بصحتها ليستبيح دم مسيحيي العراق.
     بالتالي، وبعد أن ظهر إلى الوجود التوأمُ لهذا التنظيم، وتحول إلى "داعش"، "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، فماذا سيكون مصير مسيحيي سوريا لو سقط النظام، وماذا سيكون مصير المسيحيين في أية منطقة من سوريا بعد أن يفقد النظام السيطرة عليها ؟
     انطلاقاً من هذه المعطيات أعلاه علينا النظر إلى الأسباب الحقيقية التي وراء هجرة قسم ملحوظ من مسيحيي سوريا.
ج - أي شخص لا يحتاج لأن يكون خبيراً إستراتيجياً لكي يدرك ما أوردناه أعلاه عن اهتمام النظام السوري وحلفائه بالراهبات المختطفات والمطرانين والكهنة المختطفين، أو ليدرك الأسباب وراء هجرة المسيحيين... التمنيات أن الذين انتقدوا موقف النظام وحلفائه من هذه المسألة والذين وصفوا مسيحيي سوريا بقلة الوطنية وبالجبن، أن يكونوا قد قالوا هذا الكلام عن قصر نظر أو تسرّع أو عدم انتباه، وليس أن يكونوا قد قالوه كرهاً بالمسيحيين، لأن مسيحيي سوريا "مش ناقصن مصايب".     
د - الحل الوحيد في سوريا الذي من شأنه أن ينهي الأحداث الأمنية حتى خلال أسابيع، وينهي أيضاً وجود الأصوليين المتطرفين، ليس فقط كمسلحين في سوريا أو في غيرها بل أيضاً ينهي وجودهم كفكر ونهج في أي مكان في العالم؛ هو في مواجهة رأس الأفعى مباشرة، أي في العمل بخطة (إستراتيجيا) تعتمد وسائل المحاربة الإعلامية والسياسية والاقتصادية للولايات المتحدة وتؤدي في المستقبل المنظور إلى إنهاء زعامتها العالمية وإلحاق هزيمة كبرى بها وبإسرائيل ومَن معهما. هذه الخطة كنتُ قد وضعتُها بناءً على دراسات معمَّقة وغير مسبوقة، في علوم السياسة والإستراتيجيا والتنمية والسوسيولوجيا.
حول الملخَّص عن هذه الخطة انظر "نحو الانتصار في سوريا وهزيمة أمريكا":
حول أسباب عدم البدء بهذه الخطة لغاية الآن انظر "محور المقاومة... العجز وقلة الجرأة":
http://www.amersemaan.com/2013/11/blog-post.html
حول موقف مسيحيي 14 آذار في لبنان من مسيحيي سوريا انظر "الداعشيون المسيحيون":


عامر سمعان ، باحث وكاتب
11/ 12/ 2013 ، تم آخر تنقيح لهذه المقالة في 10/ 3/ 2014

الاثنين، 9 ديسمبر 2013

التضليل في تقارير LBCI عن الأرشمندريت بندلايمون

 
بعد القرار الصادر عن مطرانية جبل لبنان للروم الأرثوذكسي القاضي بمنع الأرشمندريت بندلايمون فرح رئيس دير سيدة حماطورة من أداء الخدمة الكهنوتية وإلزامه الإقامة في هذا الدير وإقفاله أمام الزوار تحت حجة قيامه "بارتكابات مخالِفة بشكل صارخ للقوانين الكنسية والتراث الرهباني" وتجاهله للمجلس التأديبي المكلف النظر بقضيته، وبعد توجّه العديد من محبي هذا الكاهن في 30/ 11/ 2013 إلى المقر البطريرك في البلمند للاحتجاج على هذا القرار؛ صدر تقريرٌ عن المحطة التلفزيونية LBCI مما ورد فيه: "الجدير بالذكر أن قضية الأرشمندريت بندلايمون تأتي بعد أشهر على كشف قضية الأب منصور لبكي، فهل بدأ عهد الإصلاح الكنسي ؟"؛ ومما ورد في تقرير آخر صدر عن هذه المحطة:" أما مضامين الردود في قضية الأب بندلايمون فتختصر بالتالي مؤامرة خطيرة على الكنيسة الأرثوذكسية من دون ذكر هوية المتآمرين".
الرد على هذه العبارات هو التالي:
 
- أولاً، حول التلميح عن أن ما حصل هو من ضمن حركة إصلاح في الكنيسة.
أ - يوجد فساد في الكثير من نواحي الكنيسة الأنطاكية الأرثوذكسية، يُلاحَظ في قسم ملحوظ من رجال الدين ومن العلمانيين الذين يعملون أو يخدمون في مؤسساتها الرعوية والتربوية والطبية وغيرها أو في الجمعيات الأرثوذكسية. فهؤلاء يتغطون بالرداء الديني خدمةً لمصالحهم الشخصية كتأمين لقمة العيش أو تحصيل الثروات والوصول إلى المناصب أو الوجاهة المحلية؛ ويصح وصفهم بأصحاب التيار الزمني، أي الذين الأولوية عندهم هي خدمة مصالحهم في هذا الزمن.
     بالطبع هذا الشكل من الفساد يوجد عند أية طائفة في أية ديانة وفي أي مكان وزمان؛ لكنه عند الطائفة الأرثوذكسية في لبنان وسوريا هو أكثر مما هو عند باقي الطوائف المسيحية والإسلامية في هذين البلدين. السبب في هذا هو أن هذه الطائفة تعيش حالة قلة تديّن أكثر مما هو الحال عند باقي هذه الطوائف. المقصود بقلة التديّن، أو الفتور الديني، هو قلة الاهتمام بالشأن الديني كمثل قلة توجّه المؤمنين لأداء الصلوات في الكنائس وقلة الالتزام بالصلوات الفردية في المنازل وقلة المنتسبين إلى الكهنوت والرهبنة وقلة التبرع لبناء الكنائس وللأوقاف وغيره. ووجود هذه الحالة من قلة التديّن في الأوساط الشعبية تعني أن المهتمين بالنهضة الدينية في هذه الأوساط هم أقلية وأن قدرتهم هي ضعيفة على محاسبة رجال الدين والذين يتولون المؤسسات التابعة للطائفة، فيزداد بالتالي وجود الفاسدين أو أصحاب التيار الزمني ضمن هؤلاء. والعكس صحيح، أي عند وجود حالة النهضة الدينية في الأوساط الشعبية فهي تعني أن المهتمين بهذه النهضة في هذه الأوساط هم أكثرية وأن قدرتهم هي قوية على محاسبة رجال الدين والذين يتولون المؤسسات التابعة للطائفة، فيقل بالتالي وجود الفاسدين أو أصحاب التيار الزمني ضمن هؤلاء. وهذه القاعدة تصح على أية طائفة في أية ديانة في أي مكان وزمان.
      حول أصحاب التيار الزمني في الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية، فمن ضمن ما صدر عنهم خلال النصف الثاني من القرن العشرين وصولاً إلى السنوات الأخيرة، هو التالي:
1 ) الكثير من القرارات التي تتعارض مع الإدارة الصحيحة للكنيسة في المجال الكهنوتي والعمل الرعوي والوقفي والمالي والتربوي وغيره.
2 )  كتابات وتصريحات ومواقف تعبِّر عن قلّة الخلافات بين الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية، أو تظهِر هذه الخلافات وكأنها مجرد خلافات سطحية أو خلافات سياسية تعود إلى الماضي البعيد لا تؤثِّر على الحياة المسيحية... في حين أنه، في واقع الأمر، لا يوجد شركة بين الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية والخلافات بينهما هي كبيرة وعميقة على مستويات العقائد والتعاليم والليتورجيا.
3 ) كتابات وتصريحات ومواقف تحاول أن تُظهِر أن الديانتين المسيحية والإسلامية كأنهما وجهين لعملة واحدة وأن ما يجمع بينهما أكثر مما يفرِّق. كمثل القول: إن محمد هو كأحد الأنبياء، وإن القرآن لم ينكر ألوهية المسيح، وإن عيسى المذكور في القرآن هو ليس المسيح، وإن الآيات القرآنية التي اعترفت بألوهية المسيح قد تم حذفها، وإن هناك آيات يمكن تفسيرها بشكل باطني ما يُظهِر ألوهية المسيح، وما إلى ذلك... في حين أن المسيحية الأرثوذكسية، في واقع الأمر، لا تعترف لا من قريب ولا من بعيد لا بنبوة محمد ولا بإنزال القرآن، وتعتبِر أن ما يفرِّق بين المسيحية والإسلام (كديانتين) هو أكثر مما يجمع، وفي نفس الوقت هي تدعو إلى احترام حقوق المسلمين وغيرهم من أبناء أية ديانة والتعاطف مع قضاياهم المحقة (كمثل القضية الفلسطينية) وتدعو إلى عدم التعالي عليهم أو الانعزال عنهم أو محاولة تهميشهم، وتعتبِر أن المحافظة على الوحدة الوطنية والتعايش بين الطوائف وتقبّل الآخر واحترامه والتعاطف معه في أي بلد لا تتم من خلال التلاعب بالعقائد والتعاليم الدينية التي تمت المحافظة عليها خلال الألفين سنة الماضية وتم تقديم الكثير من الشهداء والتضحيات في سبيل المحافظة عليها.         
 4 ) كتابات وتصريحات تذهب إلى أنه لا يوجد فرق بين الزواج الديني والزواج المدني... في حين أن المسيحية الأرثوذكسية هي أكثر مذهب ديني في التاريخ يشدد على قدسية الزواج (بالنظر إلى التعليم حول الحصول على النعمة الإلهية غير المخلوقة في سر الزواج كما في غيره من الأسرار الكنسية).
 5 ) تصريحات ومواقف تظهِر عدم احترام حياة الرهبنة أو قلّة الجدوى منها في سياق سَعي الإنسان لخلاص نفسه... في حين أن المسيحية الأرثوذكسية تشدد كثيراً على حياة الرهبنة وعلى أهميتها ليس فقط في خلاص أنفس مَن يسيرون في هذا الطريق بل أيضاً في حثّ وتشجيع باقي المؤمنين على زيادة التديّن والجهاد في حياتهم العلمانية للوصول إلى الخلاص.     
     هذه الحالة من قلَّة التديّن أو الفتور الديني في الكنيسة المسيحية الأرثوذكسية الأنطاكية، والتي من نتائجها ظهور أصحاب التيار الزمني داخلها، كما أظهرنا أعلاه، هي، بالطبع، لم تكن موجودة فقط خلال القرن العشرين بل أيضاً كانت موجودة منذ مئات السنين بسبب ظروف عدة لا يتسع المجال لها هنا. إلا أنه في النصف الثاني من القرن العشرين ابتدأت نهضة دينية خجولة داخل هذه الكنيسة لم تلبث أن أصبحت ملحوظة خلال التسعينات؛ لكنها لا تزال صغيرة جداً مقارنة بالنهضة الدينية الموجودة عند الموارنة وعند الطوائف الإسلامية.
ب - عند التحدث عن هذه النهضة في الكنيسة الأرثوذكسية، فإن الأرشمندريت بندلايمون فرح هو أحد أبرز الوجوه في هذه النهضة وهو أحد المنارات الروحية في الكنيسة الأنطاكية ويصح فيه القول الإنجيلي "من ثمارهم تعرفونهم". فقد نمت تحت رعايته في دير حماطورة رهبنة ناشطة تجاوزت خمسة عشر راهباً (وهو رقم كبير مقارنة بأوضاع الطائفة الأرثوذكسية)، ويقصد الديرَ الآلافُ من المؤمنين من لبنان وخارجه لتلقي الإرشاد والاعتراف والأبوة الروحية هذا دون التحدث عمن يقصدونه للصلاة، وقد تم الكشف عن رفات قديسين شهداء في الدير أثناء فترة رئاسته، وقام، أي الأب بندلايمون، بتعميد العشرات من المسلمين في الدير الذين اهتدوا إلى المسيحية (لم أتمكن من معرفة الرقم بالتحديد)، ويمكن الملاحظة بسهولة أن المؤمنين الذين يتواجدون في محاضراته في الرعايا أكبر من الذين يتواجدون في محاضرات غيره من الكهنة ما يدل على مكانته المميزة عندهم... هذا دون التحدث عن النشاطات التربوية الدينية التي تتم في الدير من إصدار مطبوعات وأقراص مدمجة، وعن استصلاح الأراضي الزراعية والمشاريع العمرانية وغيره...
ج - لما كان الأب بندلايمون هو أحد أبرز وجوه النهضة في الكنيسة، فمن الطبيعي أن يكون أحد أهم المرشحين لخلافة المطران جورج خضر على أبرشية جبل لبنان.
     منصب المطران في لبنان، وما شابهه من مناصب القيادات الروحية في الطوائف المسيحية والإسلامية، يأخذ أهمية اجتماعية وسياسية أكثر من الأهمية التي يأخذها هذا المنصب في معظم بلدان العالم، بسبب نظام الطائفية السياسية في لبنان ووجود هذا البلد في منطقة متوترة من العالم. أي إن المطران في لبنان يكاد يكون أهم من نائب أو وزير. لهذا السبب، وأيضاً بالنظر إلى الأوضاع السيئة للطائفة الأرثوذكسية التي ذكرناها أعلاه، فإن الكثير من الأطراف السياسية داخل لبنان وخارجه درجت خلال القرن العشرين، وحتى قبله، على التدخل في محاولات التأثير على انتخاب المطارنة والبطاركة الأرثوذكس.
د - بالنظر إلى ما تقدم يصبح هناك ترجيح أن جهة ما، من ضمن مَن وصفناهم بأصحاب التيار الزمني أو غيرهم، قد زوَّرت الأدلة التي بُنيَت عليها التهم الموجّهة إلى الأب بندلايمون والقرار الصادر بحقه عن المطرانية، بهدف استبعاده عن أن يصبح مطراناً، وتكون الدوافع المحتمَلة لذلك هي التالية:
 1 ) إيصال مطران يكون من ضمن أصحاب التيار الزمني فيغطي على فسادهم أو يشارك فيه فيما يتعلق بمصالحهم الشخصية كمثل الأمور المالية والوصول إلى المناصب وما شابه.
2 ) إيصال مطران يكون من ضمن أصحاب هذا التيار أو متجاوباً معهم فيما يتعلق بالاختلافات بين الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية أو بالاختلافات بين المسيحية والإسلام أو بموضوع الزواج المدني أو بموضوع الرهبنة... فيعمل على أن "يطريها" أو "يلفلفها" في هذه المواضيع.
3 ) إيصال مطران يكون من ضمن توجُّه سياسي معيّن فيما يتعلق بالأوضاع في لبنان وسوريا، أو ضعيفاً إلى درجة يمكن وضعه في هذا التوجّه؛ بالنظر إلى أهمية الدور السياسي الذي من الممكن أن تلعبه مطرانية جبل لبنان اعتماداً على موقعها وامتدادها الجغرافي.
هـ - هناك مسألة أخرى مهمة وهي أن الأراضي التابعة لأوقاف دير حماطورة هي من أجمل المناظر الطبيعية في لبنان، إن لم نقل أجملها. ما يعني أن مشاريع سكنية فخمة أو سياحية فيها ستكون مربحة جداً.
     من حيث المبدأ لا شيء يمنع من تقام هكذا مشاريع مربحة على أراضي الأوقاف، حتى بالاشتراك مع رجال أعمال من خارج الطائفة، طالما أن هذه الأراضي ستبقى ملكيتها من ضمن الأوقاف، أي إنها لن تباع. لكن مع وجود رهبنة متنامية وناشطة ومع وجود دير له نشاطه الديني - النهضوي على صعيد الكرسي الأنطاكي، يصبح من الصعب الجمع بين تلك المشاريع من جهة وبين هذه الرهبنة وهذا النشاط للدير في نفس المكان. بالتالي، مَن كان همُّهم النهضة الدينية ستكون الأولوية عندهم لبقاء هذه الرهبنة وهذا النشاط للدير وأن تقام تلك المشاريع في أماكن أخرى من الأوقاف، ومَن كان همُّهم الأرباح المادية والوجاهة و"التنفيعات"، أي أصحاب التيار الزمني، ستكون الأولوية عندهم هي هذه المشاريع.
     وبناءً عليه يوجد احتمال أن يكون الهدف من التهم الموجَّهة إلى الأب بندلايمون هو إبعاده مع رهبانيته عن هذه المنطقة تمهيداً للطريق أمام هكذا مشاريع.
     لا بد من الإشارة هنا إلى أن بعض محبي الأب بندلايمون يعملون على الترويج لفكرة أن الهدف من التهم الموجَّهة إليه هو إبعاده بهدف بيع قسم من أراضي أوقاف حماطورة. هذه الفكرة، ومع الاحترام للذين يعملون على ترويجها، هي غير واقعية وغير منطقية، والسبب بسيط وهو أن أي بيع لأراضي الأوقاف يحتاج إلى الموافقة الشخصية للبطريرك بحسب القوانين في الكرسي الأنطاكي؛ والبطريرك الحالي، معروف عنه، لدى القريب والبعيد، غيرته وقداسته وهمُّه النهضوي، أي إنه أبعد الناس عن التفريط بأراضي الأوقاف أو بحياة الرهبنة في أي دير.
و - باختصار، في ظل قوة أصحاب التيار الزمني في الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية، فإن أي قرار يصدر بحق أي رجل دين من الذين عندهم نشاط نهضوي ملحوظ، وسواء أصدر هذا القرار عن مرجعية دينية أم عن مؤسسة ضمن الطائفة أم عن جمعية دينية، يكون تلقائياً موضع شك في مصداقيته.
    مع التنبيه، إلى أنه في حال صدور هكذا قرار عن مرجعية، أي مطران أو بطريرك، فليس بالضرورة أن تكون هذه المرجعية هي من ضمن التيار الزمني، بل من المحتمل أن تكون الدائرة المحيطة بها هي الفاسدة وتستغل ضعف أو عجز أو مرض أو شيخوخة المطران أو البطريرك لحمله على إصدار هكذا قرار. وهناك عدة سوابق في هذا الإطار في الكنيسة الأرثوذكسية (انظر مثلاً الطريقة التي تم بها عزل القديس نكتاريوس عن منصبه).
     وفي حال كان رجل الدين، الصادر بحقه هكذا قرار، هو من أهم المرشحين لكي يصبح مطراناً أو كانت إزاحته ستفتح المجال أمام مشاريع اقتصادية ضخمة ومربحة، فإن الشك بمصداقيته سيكون أكبر بكثير.
 
- ثانياً، حول وضع قضيتي الأب بندلايمون والأب لبكي في نفس خانة الإصلاح الكنسي.
     أولاً، وكما أصبح معروفاً، فإن الأب لبكي (ومع كل الاحترام له) قد صدر حكمٌ بحقه من محكمة استئناف، بينما الأب بندلايمون لم يصدر بعد بحقه حتى حكم بدائي.
     لكن المسألة هي أبعد من ذلك؛ فالأب بندلايمون ينتمي إلى الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية التي هي واحدة من ضمن عدة كنائس أرثوذكسية في العالم، تُعرَف جميعها بالكنيسة الأرثوذكسية؛ بينما الأب لبكي ينتمي إلى الكنيسة المارونية التي هي من ضمن الكنيسة الكاثوليكية. وكما ذكرنا أعلاه، أنه لا يوجد شركة بين الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية ويوجد خلافات كبيرة وعميقة بينهما على مستويات العقائد والتعاليم والليتورجيا.
     إضافة، ولما كانت الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية تعيش حالة فتور ديني ممتدة منذ مئات السنين؛ فإن الكنيسة المارونية هي على العكس من ذلك، أي إنها تعيش حالة نهضة دينية ممتدة منذ مئات السنين، الأمر الذي يعود أساساً (من الناحية السوسيولوجية) إلى وجود عامل الربط بين الدين والقومية عند الموارنة. فكان يوجد عند الموارنة، ومنذ مئات السنين، كثرة توجّه المؤمنين لأداء الصلوات في الكنائس، كثرة المنتسبين إلى الكهنوت والرهبنة، كثرة التبرع للكنائس والأوقاف ("مال الروم للبطون ومال الموارنة للخوارنة")، دور ديني وسياسي وقيادي للبطريرك، غطاء ديني لتحركات سياسية استقلالية، وغيره...
     المقصود مما تقدم أنه هناك اختلافات كثيرة ومتنوعة وعميقة بين الكنيسة الأنطاكية الأرثوذكسية والكنيسة المارونية. فهما ليستا كنيسة واحدة لكي يصح وضع قضيتي الأب بندلايمون والأب لبكي في نفس خانة الإصلاح الكنسي. كما أنه لا يوجد بين هاتين الكنيستين حالة غزل متبادل وتنسيق وتعاون لكي يتبع أيَّ قرار إصلاحي من هنا قرارٌ إصلاحي من هناك، ويصح بالتالي وضع هاتين القضيتين في نفس هذه الخانة. كما لا يوجد بين هاتين الكنيستين حالة هيمنة وتبعية لكي تكون إحداهما مضطرة لأن تتبَع الأخرى في قراراتها الإصلاحية، ويصح أيضاً وضع هاتين القضيتين في نفس هذه الخانة.
 
- ثالثاً، حول السخرية في تقرير LBCI عن فكرة وجود مؤامرة تستهدف الكنيسة الأرثوذكسية أو الأب بندلايمون.
      إن أي شخص في العالم لديه الحد الأدنى من الاطلاع على تاريخ المسيحية، لن يغفل عنه كيف كان الكثير من القديسين فيها ومن رجال الدين الذين يخدمون الكنيسة بإخلاص، ومنذ نشأة المسيحية، يتعرضون لمؤامرات، إما من قبل المسيحيين أنفسهم أو من قبل غيرهم.
     إن السخرية من فكرة وجود المؤامرة في قضية الأب بندلايمون، لو كانت قد صدرت عن شخص لا يعرف شيئاً عن تاريخ المسيحية أو يعيش في بلد لا يوجد فيه مسيحيون، فلا يكون هذا بالأمر العجيب الغريب. لكن عندما تصدر هذه السخرية من مؤسسة كمثل LBCI والتي توجد في بلد لديه تاريخ مسيحي ممتد منذ نشأة المسيحية، فهذا الأمر هو بالعجيب الغريب.
 
- رابعاً، الخلاصة. 
أ - إن ما ورد في تقارير LBCI عن الأب بندلايمون من المستبعَد أن يكون قد تم عن عدم انتباه أو جهل أو قلة تفكير. المرجَّح أنه هناك تضليل إعلامي مقصود من قبل هذه المؤسسة لجعل الرأي العام، داخل لبنان وخارجه، يصل إلى إدانة الأب بندلايمون في التهم الموجَّهة إليه بغض النظر عن أية محاكمة قد تُجرى.
     ما نقصده بالتضليل الإعلامي هو التركيز على نقاط قليلة وصغيرة وغير مهمة أو غير محورية في المسألة المعنية وتكبيرها وإظهارها على أنها هي المهمة والمحورية، وفي نفس الوقت تجاهل نقاط كثيرة وكبيرة ومهمة أو محورية؛ وذلك بهدف تضليل الرأي العام وجرّه إلى اتجاه معيّن فيما يتعلق بالمسألة المعنية.
     هدف LBCI من هذا التضليل الإعلامي قد يكون اجتذاب أكبر عدد من المشاهدين من خلال الإثارة الإعلامية أو السبق الصحفي القائمَين على هذا التضليل؛ أي ما يصح وصفه بقلة أخلاق مهنية؛ أو قد يكون لديها أهداف أخرى. 
ب - في المفاهيم العالمية المعاصرة، أي منذ النصف الثاني من القرن العشرين ولغاية الآن، فإن أبشع تهمة قد توجَّه إلى أي رجل هي الشذوذ الجنسي نحو الرجال وخاصة عندما تتعلق بالتحرش بقاصر. وهي التهمة الأهم الموجَّهة إلى الأب بندلايمون بحسب ما ورد في أحد تقارير LBCI. وعندما يكون الذي توجَّه له هذه التهمة هو رجل دين ورئيس دير للرهبان فإن هذه التهمة تصبح أكثر ما يمكن من البشاعة.
     رجال الدين والرهبنة الأرثوذكس الذين في لبنان وسوريا، وكما هو معروف، هم من ضمن كنيسة واحدة وإدارة واحدة، والتي هي الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية.
     عندما تقوم LBCI بإثارة موضوع الأب بندلايمون والتضليل الإعلامي فيه لحمل الرأي العام داخل لبنان وخارجه على إدانته بالتهمة التي هي الأكثر بشاعة في المفاهيم العالمية المعاصرة، وعندما تقوم بالنفخ في هذه الضجة، فمما سينتج عنها هو تشويه لسمعة مجمل رجال الدين والرهبنة الأرثوذكس في لبنان وسوريا؛ وبالتالي فإن الاهتمام سيقل بمصير المطرانين المختطفَين والراهبات المختطفات في سوريا أو بأية جرائم أخرى قد تطال رجال الدين أو الرهبنة الأرثوذكس في هذا البلد. وبكلمة أدق، فإن أي تنديد بهذه الجرائم ستقل فاعليته في ظلّ هكذا ضجة.
ج - أخيراً، بناءً على كل ما تقدَّم المفترَض بالمؤسسات الإعلامية التي تريد تناول موضوع الأب بندلايمون أن تتناوله بموضوعية ومنهجية صحيحة وأخذ ما ورد في هذه المقالة بعين الاعتبار. 
 
 
عامر سمعان ، باحث وكاتب
9/ 12/ 2013