ما يتضمنه كتابي "حول الأزمة اللبنانية ونهاية الزعامة العالمية للولايات المتحدة" دراسات معمقة وغير مسبوقة في السياسة والإستراتيجيا والتنمية والسوسيولوجيا؛ من بينها: أربع نظريات جديدة في الأنتروبولوجيا المجتمعية، وخطة لحلّ الأزمة في لبنان، وإستراتيجيا تعتمد وسائل المحاربة الإعلامية والسياسية والاقتصادية لهزيمة الولايات المتحدة وإنهاء زعامتها العالمية، والتي سيكون من نتائجها الاستقرار الأمني والنمو الاقتصادي والتطور في العالم العربي ومعظم دول الجنوب.

السبت، 22 مارس 2014

انتكاسة الإفراج عن الراهبات

1 - شكَّل الإفراج عن راهبات دير القديسة تقلا في معلولا، في 10 آذار، اللواتي كن مختطفات عند جبهة النصرة في المعارضة السورية المسلحة أحد أهم الهزائم السياسية للنظام السوري وفي نفس الوقت كان أحد أهم الانتصارات السياسية لهذه الجبهة ولهذه المعارضة عموماً. حيث السبب يعود إلى تصريحات من قبل الراهبات بعد الإفراج والتي تمت الإشادة فيها كثيراً بحسن المعاملة من قبل الخاطفين، والشكر لمن ساهم في الإفراج: البطريرك الأرثوذكسي والرئيس السوري وأمير قطر ومدير عام الأمن العام اللبناني، من دون أن يشمل هذا الشكر الجيش السوري أو الإشادة بتضحياته؛ ومن دون أن تتضمن هذه التصريحات أي تنديد بعملية الخطف أو بالهجوم على معلولا التي هي من أهم رموز الوجود المسيحي في الشرق أو بغيره من الجرائم التي طالت المدنيين المسيحيين وغيرهم من قبل المعارضة.
     وقد كان النظام وحلفاؤه قد اهتموا بهؤلاء الراهبات المختطفات وبالمطرانين أكثر من جميع المخطوفين والمفقودين، والسبب كان الرغبة في استثمار هذه المسألة سياسياً عبر إظهار جرائم المعارضة بحق المدنيين أمام الرأي العام العالمي؛ كون التعرّض للمسيحيين في سوريا ودول الجوار بجرائم ضد الإنسانية من شأنه أن يثير ضجة عالمياً أكثر من التعرّض لغيرهم، لأن هذه المنطقة هي مهد المسيحية وهناك شبه رغبة عالمية في المحافظة على الوجود المسيحي فيها. إلا أن هذا الاستثمار الذي كان النظام يأمله إثر الإفراج عن الراهبات تحول إلى انتكاسة مفاجئة وكبيرة، كما ذكرنا.  
     سنتناول فيما يلي الاحتمالات في أسباب تصريحات الراهبات بعد الإفراج، ثم التبريرات التي أعطيت لهذه التصريحات، ثم الشتائم التي وُجِّهت إلى هؤلاء الراهبات وإلى مسيحيي سوريا عموماً عبر مواقع التواصل الاجتماعي. 

2 - يوجد ثلاثة احتمالات في أسباب تصريحات الراهبات بعد الإفراج.
أ - الاحتمال الأول، أن تكون رئيسة الراهبات الأم بلاجيا سياف متفقة أو متآمرة مع الخاطفين لأداء تمثيلية الخطف ثم الإشادة بهم بعد الإفراج لمنحهم نصراً سياسياً عبر إظهار مقاتلي جبهة النصرة على أنهم شرفاء لا يتعرضون للمدنيين ولا يسيؤون معاملة الأسرى، وأيضاً لأن تنتهي عملية الخطف بالتبادل والإفراج عن محتجزات لدى النظام. ما يعزز هذا الاحتمال هو ما يلي:
- أولاً، التصريحات بعد الإفراج التي تمت الإشادة بها بجبهة النصرة.
- ثانياً، عدم إخلاء الدير بعد بدء المعارك في معلولا.
     فقد قام مسلحو جبهة النصرة ومَن معهم بمهاجمة بلدة معلولا ذات الأغلبية المسيحية والأهمية المسيحية الكبيرة والتي لا يوجد فيها قواعد عسكرية للنظام وقالوا أمام وسائل الإعلام إنهم جاؤوا "لفتح عاصمة الصليبيين"، وارتكبوا جرائم بحق مدنيين مسيحيين على أساس طائفي واعتدوا على كنائس ومزارات مسيحية وبيوت، وتم تبادل السيطرة العسكرية على البلدة بين الجيش والمسلحين أكثر من مرة، وكان هناك ثلاثة أشهر بين بدء الهجوم على البلدة في أوائل أيلول وتاريخ خطف الراهبات في أوائل كانون الأول، وقد غادر معظم السكان البلدة ما عدا الراهبات وعدد آخر قليل. فيكون السؤال هنا هو لماذا رفضن المغادرة ؟
     النذور في الرهبنة المسيحية الأرثوذكسية هي: الطاعة والفقر والعفة. المقصود بالعفة ليس فقط الامتناع عن الزواج، بل أيضاً أنه في حال تواجد دير للراهبات في مكان شديد الخطورة أمنياً كمثل أن يكون بالقرب من خطوط النار في الجبهة، المفترَض بالراهبات إخلاء الدير حرصاً على عدم تعرّض إحداهن لاعتداء جنسي من قبل عناصر غير منضبطة. فحصول هكذا أمر من شأنه أن يشكل ليس فقط جرحاً كبيراً عند الراهبات بل أيضاً عند باقي المسيحيين في المنطقة المجاورة. أي إنه كان يُفترَض بالأم بلاجيا حرصاً منها على عدم تعرّض الراهبات لهكذا تجاوزات (أو غيرها كالخطف) وعلى عدم حصول جرح عند مسيحيي سوريا ونعرات طائفية بينهم وبين غيرهم بسببها، أن تقوم بإخلاء الدير منذ بدء المعارك. فيكون التفسير المرجَّح لعدم الإخلاء هو وجود ثقة وعلاقات جيدة واتفاقات بين الأم بلاجيا ومسلحي جبهة النصرة... والذي منها الاتفاق على تمثيلية الخطف.       
     أيضاً، هناك من يقول إن الأم بلاجيا كانت قد تكتمت على وجود المسلحين قرب معلولا قبل بدء المعارك ثم قامت بإخفائهم في الدير ثم تعمدت تضليل الجيش لتسهيل سيطرتهم على البلدة... أنا ليس عندي بعد معلومات مؤكدة حول هذا الأمور وفي حال حصولي عليها سأقوم بنشرها.
- ثالثاً، الأم بلاجيا هي لبنانية، والمسيحيون في لبنان هم من ضمن فئتين أساسيتين؛ الأولى هي حليفة لحزب الله و8 آذار والنظام السوري، الثانية هي اليمين المسيحي والتي تُعرَف بمسيحيي 14 آذار. هذه الفئة الأخيرة تعمدت منذ بدء الأحداث السورية ليس فقط على تقديم كل دعم إعلامي وسياسي للمعارضة بل أيضاً على التغطية على جرائم المعارضة التكفيرية بحق مسيحيي سوريا واعتداءاتهم على الكنائس وغيرها، بل وكانت تتهِم النظامَ بارتكاب هذه الجرائم ليتم نسبها إلى المعارضة وتشويه صورتها... هدف هذه الفئة من تقديم هذا الدعم للمعارضة بالرغم من معرفتها أن سقوط النظام سيؤدي إلى إنهاء الوجود المسيحي في سوريا، هو الأمل بتحقيق حلمها القديم بتقسيم لبنان وإقامة الكانتون أو الدويلة المسيحية التي ستكون تحت المظلة الغربية، لأن إنهاء الوجود المسيحي في سوريا وانتقال الحرب إلى لبنان سيعزز الفرص أكثر من أي وقت مضى للاستعانة بالتدخل العسكري الغربي والوصول إلى التقسيم...
     فالاحتمال وارد أن تكون الأم بلاجيا من ضمن هذا اليمين المسيحي في لبنان الذي يعمل على تقديم كل دعم إعلامي وسياسي ممكن إلى المعارضة، بالرغم من كون انتصارها سيؤدي إلى إنهاء الوجود المسيحي في سوريا، وذلك بهدف الوصول إلى الدويلة المسيحية في لبنان.
ب - الاحتمال الثاني، أن تكون الراهبات قد تعرضن للابتزاز من قبل الخاطفين بأنه سيصار إلى قتل الكثير من المخطوفين المسيحيين أو أعداد كبيرة من مسيحيي الرقة، ومن ضمنهم المطرانين، في حال لم يتكلمن بذلك الشكل بعد الإفراج عنهن؛ وهناك من يقول بأنه قد حصل اعتداء جنسي على بعضهن وتم تصويرهن وهددن بعرض شرائط الفيديو.
     هذا الاحتمال وارد، وهكذا قذارة ليست مستبعدة من جرائم المعارضة... لكن إذا تم الأخذ بهذا الاحتمال يبقى من الضروري تقديم تفسير مقنِع لعدم مغادرة الراهبات للدير.
ج - الاحتمال الثالث، أن تكون الأم بلاجيا قد تعرضت لاضطراب نفسي أو عقلي شديد نتيجة الخطف وأنها أعطت التعليمات للراهبات أن يتصرفن أو يصرحن بهذا الشكل... هذا الاحتمال وارد لكن هنا أيضاً يبقى من الضروري تقديم تفسير مقنِع لعدم مغادرة الدير. ولا بد من التنبيه هنا إلى أنه بموجب قانون الطاعة في الأديرة الرهبانية، فإن رئيسة الراهبات (كما هو الحال مع من يكون أباً ورئيساً للرهبان في أي دير) هي التي تعطي التعليمات للراهبات في ديرها في المسائل الدينية وغيرها ليسلكن بموجبها، وهي التي تتحمل المسؤولية أولاً وأساساً عما يصدر عنهن.      
     إلى هنا يبدو الاحتمال الأول حول وجود تآمر أو اتفاق بين الأم بلاجيا والمسلحين هو الأكثر ترجيحاً.
     ولا بد من الإشارة إلى أنه بعد أن كان زعيم جبهة النصرة أبو محمد الجولاني الرقم ستة بين عشرة أسماء وضعتها الإدارة الأمريكية على قائمة أخطر "إرهابيين في العالم"، على رأسهم الظواهري، نشرتها قناة "سي ان ان" في تشرين الأول الماضي؛ اختفى اسمه عن القائمة الجديدة للإرهابيين التي أصدرتها وزارة العدل الأمريكية في النصف الثاني من شهر شباط الماضي (عن السفير).
     أن يحصل هذا الأمر قبل حوالي ثلاثة أسابيع من تحقيق جبهة النصرة أهم نصر سياسي لها في الأزمة السورية من خلال تصريحات الراهبات، فهذا ليس مصادفة. المرجَّح دخول أمريكا وقطر على الصفقة بين جبهة النصرة والأم بلاجيا لأداء تمثيلية الخطف، أو للاشتراك مع هذه الجبهة في ممارسة الضغوطات على الراهبات وابتزازهن لكي يقلن تلك التصريحات بعد الإفراج.
     هذه المسألة لا ترجِّح أيّاً من الاحتمالات أعلاه. إذ عندما تعطي أمريكا الوعود في صفقات ما إلى اليمين المسيحي في لبنان أو غيره من الفئات المتأمرك فبالطبع هذه الوعود تكون أكثر فعالية من عندما تعطيها جبهة النصرة أو غيرها. كذلك عندما تدخل هذه الدولة في تهديدات باستهداف المسيحيين أيضاً تكون أكثر فعالية من عندما تهدد هذه الجبهة بها.
     فيكون المطلوب من الدولة السورية إجراء تحقيق حول هذا الموضوع، مع الراهبات وكل المعنيين في الموضوع، وعرض النتائج أمام الرأي العام. كما المطلوب من البطريركية الأرثوذكسية بدورها، من ضمن إمكانياتها، إجراء هكذا تحقيق وعرض نتائجه؛ وكان قد صدر بيان عنها مما ورد فيه هو رفض لتصريحات الراهبات.

3 - جرت محاولات من قبل بعض المسيحيين لإعطاء تبريرات، من وجهة النظر المسيحية، لتصريحات الراهبات بعد الإفراج؛ سنستعرض هذه التبريرات والردود عليها لإظهار خطئها.
أ - التبرير الأول، هو أن هذه التصريحات تأتي من ضمن الدعوة المسيحية لإحلال السلام بشكل عام في سوريا وأي مكان آخر.
- الرد: المفترَض بالمؤمن الأرثوذكسي، سواء أكان إكليريكياً أم راهباً أم علمانياً، هو محاربة الشر في المجتمع بالوسائل المتوفرة لديه: الإعلامية أو السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية، أو على الأقل الإشارة إلى وجود الشر والتنديد به؛ ولا يُعفى من هذا الواجب إلا في حال عدم توفر المعلومات الموثوقة لديه... وتاريخ الأرثوذكسية يشهد على عدد كبير من القديسين، ومنهم رهبان ونساك، كانوا يواجهون الشر الموجود عند الحكام أو أصحاب النفوذ والثروات، ومنهم من كان يلقى الشهادة أو الاضطهادات نتيجة موقفه.
     ولما كانت الأحداث السورية تتضمن شراً مستفحلاً قلّ نظيره في العالم، خاصة لما يجري من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فواجب كل مؤمن أرثوذكسي في سوريا، أمام ربه، على الأقل أن يعلن، بحسب قناعته وضميره، موقفاً واضحاً عمن يتحمل المسؤولية الأساسية في هذه الجرائم وفي التوترات الأمنية القائمة. أي إما أن يعلن أن المعارضة هي من تتحمل المسؤولية الأساسية (أو بإمكانه أن يعلن عما يتضمن إشارة غير مباشرة إلى هذا الأمر كمثل من خلال الإشادة بالرئيس الأسد أو تضحيات الجيش السوري)، أو أن يعلن أن النظام هو مَن يتحملها، أو أن يعلن أن كليهما يتحملانها. وإذا كانت ظروفه تسمح له بمواجهة هذا الشر بأكثر مما هو إعلان موقف، كمثل من خلال العمل العسكري، فواجبه أيضاً القيام به.
     أي إنه إذا كان هدف الراهبات من التصريحات هو من ضمن الدعوة المسيحية لإحلال السلام، فكان يفترَض بهن الإعلان عن الطرف الذي يتحمل المسؤولية الأساسية عن تلك الجرائم والتوترات الأمنية القائمة؛ وهذا ما لم يحدث.
ب - التبرير الثاني، هو أن ما صدر عن الراهبات هو من ضمن التعاليم المسيحية في مسامحة الأعداء.
- الرد، ما تعنيه المسامحة في الأرثوذكسية هو أنه يُفترَض بالمؤمِن أن يحبّ ويصلي من أجل جميع البشر، الأحياء والأموات؛ وفي حال حصل له أذية من أحدهم فالمفترَض به أولاً هو المسامحة القلبية معه، أي أن يسامحه في قلبه ويصلي له لكي يرشده الله إلى ما هو خير ولخلاص نفسه؛ وبعد ذلك تأتي المسامحة السلوكية في القول والفعل، والظاهرة للعيان، وهذه الأخيرة هي مشروطة بخلاص نفسه للآخر. أي في حال وجد ذلك المؤمنُ - الضحيةُ أن التنازل عن بعض أو كل حقه من شأنه أن يدفع المعتديَ إلى التوبة والابتعاد عن الشر فبإمكانه أن يقوم بذلك؛ وفي حال وجد أن هذا التنازل لن يؤدي إلى هذه النتيجة فالمفترَض به عدم القيام به. وهذا هو التفسير للآيات كمثل "أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم (متى 5: 44)" و"من لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضاً (متى 5: 39)".
     حول راهبات معلولا، وإذا اعتبرنا أن ما جرى معهن كان عملية خطف حقيقية وليست تمثيلية، فأن يصدر عنهن بعد الإفراج، وأمام وسائل الإعلام، مسامحةٌ للخاطفين، أو كلامٌ يكون مقصدهن منه على أنه مسامحة؛ فمن السذاجة الظن أن هذا سيدفع جبهة النصرة وباقي فصائل المعارضة المتطرفة إلى التوبة وعدم التعرّض للمدنيين المسيحيين وغيرهم ولترك السلاح واعتماد الحل السياسي.           
ج - التبرير الثالث، هو يتعلق بنزع الصلبان. مما قالته الراهبات إنهن قمن بنزع الصلبان بإرادتهن أثناء الخطف، وإنه بارتداء الصليب في ذلك المكان "بتلاقي حالك غلط" وإن الخاطفين لم يكونوا يحبون ارتداء الصليب... فحاول بعضهم تبرير ذلك بالقول "إن الصليب موجود أساساً في القلب".
- الرد، الإيمان الأرثوذكسي هو في القلب والتفكير والسلوك، ومن المسلمات فيه هو ضرورة التعبير عنه والمجاهرة به في السلوك، أي في القول والفعل، بهدف الشهادة للمسيح. التعاليم في هذا المجال واضحة ولا لبس فيها، من ضمنها: "من استحى بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسد الخاطئ فإن ابن الإنسان يستحي به متى جاء بمجد أبيه مع الملائكة القديسين (مرقس 8: 38)". مما يترتب على المجاهرة بالإيمان المسيحي، على سبيل المثال، أن مَن كان معتاداً على وضع الصليب على صدره أو في سيارته بشكل ظاهر للعيان، وفي حال توجهه إلى منطقة غير مسيحية فالمفترَض به أن لا يقوم بنزع الصليب حرصاً منه على عدم إغضاب سكان تلك المنطقة وقيامهم بمقاطعته أو تحطيم زجاج سيارته أو حتى قتله... وبطبيعة الوضع، فالكاهن أو الراهب أو الراهبة في حال تعرضه للخطف (لأسباب سياسية أم غيرها) من قبل مَن هم غير مسيحيين فالمفترَض به أن لا يقوم بنزع الصليب طمعاً بالحصول على معاملة أفضل من قبل خاطفيه في المأكل والملبس والنوم وغيره...
     أي لو افترضنا أن عملية الخطف كانت حقيقية وأن الراهبات قمن بإرادتهن بنزع الصلبان، فهذا التصرف أقل ما يقال عنه إنه يدل على قلة الإيمان والتدين عند الأم بلاجيا.
     مع الإشارة، إلى أنه في الفيديو الذي بثته قناة الجزيرة عن الراهبات وهن في الخطف (موجود في يوتيوب)، سُمعَت إحداهن تقول "بدنا نحط الصليب، شالولنا إياه" (لكن بصوت غير واضح) ما يدل على سوء معاملتهن من قبل الخاطفين وأن نزع الصلبان تم بغير إرادتهن؛ في حال كانت هذه العبارة صحيحة فتكون من الأدلة على أن عملية الخطف كانت حقيقية وأنهن تعرضن للابتزاز ليصرحن بذلك الشكل بعد الإفراج. وبالطبع لا تكفي عبارة واحدة سُمعَت للجزم حول أن كانت عملية الخطف حقيقية أم تمثيلية بل لا بد من الأخذ بمجمل الوقائع؛ وكما قلنا، من الضروري التحقيق في هذا الموضوع وكشف كل ملابساته.

4 - حول توجيه الشتائم للراهبات ولمسيحيي سوريا.
 أ - ما أن انتهت تصريحات الراهبات بعد الإفراج حتى ضجت مواقع التواصل الاجتماعي على الأنترنت بكم هائل من الانتقادات وإطلاق الشتائم عليهن من قبل مؤيدي النظام السوري. كمثل: "يا عيب الشوم، تفووو علين، يلعن شرفن، سباط أصغر جندي سوري بيسوى رقبتن..."، وأيضاً شتائم من نوع: "العاهرات، مجاهدات النكاح، الشراميط، يتمنعن وهن راهبات، كن مبسوطات عند الخاطفين لأنهن محرومات من الرجال، هل لا زلن عذراوات ؟...". وكان هناك شتائم وبوستات صوَّرت الراهبات المسيحيات بشكل عام كعاهرات.
     وأيضاً كان هناك شتائم وتخوينات طالت مسيحيي سوريا عامة كمثل: "العاهرة بيلاجي سياف رمز لعهر المسيحيين في سوريا اجري باحسن صليب خاين"، "العلويي بالتابوت والمسيحيي مرتاحين بالبيوت"، "شوفو أخلاق وثقافة مسيحيي سوريا عملاء إسرائيل اتباع الراهبات العاهرات"، "هَي تضحياتنا نحن العلويين وين تضحيات المسيحيين الخوني"...
     كل هذه الشتائم كانت، بشكل عام، من قبل مسلمين موالين للنظام؛ أما المسلمون المعارضون له فكان من الطبيعي أن يمتدحوا كثيراً راهبات معلولا على مواقع التواصل الاجتماعي ويرفِّعونهن إلى مرتبة القديسات.
ب - إذا تساءلنا عن السبب في الشتائم التي وجِّهت إلى مجمل مسيحيي سوريا من قبل مسلمين موالين للنظام فلا يمكن القول عنها إنها مجرد تصرفات فردية أو صبيانية، لأنها لو كانت هكذا لكان من الممكن، وبسهولة، التبليغ عن مواقع التواصل الاجتماعي التي تضعها لإسقاطها. لكن بما أنها لا تزال قائمة، فهذا يدل على أن هناك تشويهاً في صورة مجمل مسيحيي سوريا لدى قسم مهم من المسلمين الموالين للنظام نحو تخوينهم.
     السبب في هذا يعود إلى كثرة تلك الشتائم التي وجِّهت إلى راهبات معلولا؛ فهؤلاء لسن مجرد فئة هامشية في المجتمع المسيحي السوري بل هن من الرموز الدينية والفئات المهمة فيه؛ وعندما يتم تصويرهن عبر كمّ كبير من الشتائم بأبشع درجات السوء فهذا يعني، بشكل غير مباشر، أن المجتمع المسيحي هو بشكل عام سيء وإلا لما كان رضي أو سكت عن وجودهن ومواقفهن؛ كما يعني أن مجمل الرهبنة النسائية في سوريا هي سيئة.   
     فهذا التشويه لصورة مجمل مسيحيي سوريا لدى قسم مهم من المسلمين السوريين الموالين للنظام نحو تخوينهم، والتشويه لصورة مجمل الرهبنة النسائية في هذا البلد لدى هذا القسم؛ كان من الطبيعي أن يؤديان إلى جرح بالغ لدى هؤلاء المسيحيين. وفي حال استمرار ذلك الفلتان من الشتائم على مواقع التواصل الاجتماعي فستصل الأمور إلى حد تهديد العيش المشترك داخل الصف الواحد الموالي للنظام.
     وكان قسم من الذين وجَّهوا الشتائم إلى راهبات معلولا برروا فعلتهم بالقول إنه كما يتم توجيه الشتائم إلى شيوخ المسلمين الداعمين للمعارضة نحو وصفهم بشيوخ العهر وشيوخ جهاد النكاح، كذلك يحق توجيه الشتائم إلى راهبات معلولا أو غيرهن من الرموز المسيحية التي تعمل لصالح المعارضة.
     بالطبع، هذه المقارنة لا تصح، إذ يوجد انقسام لدى المسلمين في سوريا والعالمين العربي والإسلامي بين الموالين للنظام السوري والمعارضين له ومن الطبيعي تبادل الاتهامات والشتائم للسياسيين ولرجال الدين الذين لديهم نشاط سياسي بارز في الطرفين. لكن عندما يتم توجيه الشتائم من قبل أكثرية عددية إلى رموز دينية لدى أقلية عددية فهذا من شأنه أن يؤدي إلى تشويه لصورة مجمل هذه الأقلية عند هذه الأكثرية.
     لتسهيل الشرح، إذا أخذنا أقلية مسلمة توجد في دولة مسيحية في إحدى القارتين الأوروبية أو الأمريكية، وإذا افترضنا أنه تم توجيه كمّ كبير من الشتائم من قبل قسم من الأكثرية المسيحية في إحدى هذه الدول عبر الوسائل الإعلامية إلى مجموعة من رجال الدين المسلمين فيها على خلفية اتهامهم بأمر خطير، فهذا سيؤدي إلى تشويه صورة مجمل رجال الدين المسلمين في هذه الدولة عند هذه الأكثرية المسيحية، كما إلى تشويه صورة مجمل الطائفة الإسلامية في هذه الدولة عندها؛ وقد تصل الأمور إلى حد تهديد العيش المشترك والوحدة الوطنية بين الطرفين. وهذا ما قد حصل مع الطائفة المسيحية في سوريا مع قسم كبير من المسلمين الموالين للنظام. 
     من الواضح أن قسماً كبيراً من الذين وجَّهوا الشتائم إلى راهبات معلولا فعلوا هذا من قهرهم وصدمتهم بسبب تصريحاتهن وبسبب اهتمام الدولة الزائد بهؤلاء الراهبات على حساب باقي المخطوفين. لكن هذا لا يمنع أن هناك قسماً آخر تعمَّد، ولا يزال يتعمد، صب الزيت على النار وضرب العيش المشترك والوحدة الوطنية داخل الصف الواحد الموالي للنظام من خلال عدم التوقف عن الشتائم منذ الإفراج، ومنها الشتائم التي تطال مسيحيي سوريا بجملتهم.
ج - من الضروري القيام بما يلزم لإصلاح صورة مسيحيي سوريا التي تشوهت عند تلك الفئة من المسلمين السوريين، والذي من ضمنه إصلاح صورة الرهبنة النسائية في هذا البلد التي تشوهت عند هذه الفئة، ولسد ذلك الجرح الذي حصل عند هؤلاء المسيحيين ولتمتين العيش المشترك والوحدة الوطنية في سوريا. الحلّ هو سهل، ويكمن في محو ذلك الكمّ الكبير من الشتائم التي وُجهَت إلى راهبات معلولا وإلى الرهبنة النسائية المسيحية عامة وإلى مجمل مسيحيي سوريا في مواقع التواصل الاجتماعي ، وخاصة منها في الفايسبوك الذي هو الوسيلة الإعلامية الأكثر انتشاراً لدى السوريين.
     فيكون المطلوب من كلا المسلمين والمسيحيين، في سوريا وخارجها، الحريصين على حسن العيش المشترك في سوريا أن ينبهوا أي حساب شخصي أو صفحة أو غروب على الفايسبوك كتب تعليقات، أو سمح بوجود تعليقات كتبها آخرون عنده، تتناول شتماً لراهبات معلولا، خاصة عندما تكون من نوع وصفهن بالعاهرات، أو شتماً للرهبنة النسائية عامة أو لمجمل مسيحيي سوريا إلى الخطأ في وجود هذه الشتائم عنده وأن يطالبوه بمحوها. وفي حال الرفض فيصبح لا بد من مقاطعته، مهما كان موالياً للنظام، والتبليغ عن التعليق أو البوست أو الحساب أو الصفحة أو الغروب لإسقاطه.
     وكذلك الأمر في التعامل مع أية وسيلة إعلامية أخرى تقوم بوضع تلك الشتائم أو تسمح للآخرين بوضعها عندها.
     المعروف عن الجيش السوري الإلكتروني أنه من أقوى الجيوش في العالم في هذا المجال؛ فالمطلوب منه أن يتحرك بدوره للمساهمة في إسقاط أي موقع ألكتروني يضع تلك الشتائم أو يسمح بوضعها عنده. فإذا لم يتحرك هذا الجيش في مواجهة هذه المسألة التي تهدد العيش المشترك والوحدة الوطنية فأين سيتحرك ؟   

5 - حول أن السبب في اهتمام النظام السوري بالراهبات المختطفات وبالمطرانين أكثر من باقي المخطوفين يعود إلى الرغبة في استثمار هذه المسألة سياسياً ضد المعارضة، انظر المقالة "عن الراهبات المختطفات ومسيحيي سوريا":
     حول أن السبب في قيام اليمين المسيحي في لبنان بتقديم الدعم الإعلامي والسياسي إلى المعارضة السورية يعود إلى الرغبة بالوصول إلى تقسيم لبنان وإقامة الدويلة المسيحية حتى على حساب إنهاء الوجود المسيحي في سوريا، انظر المقالة "الداعشيون المسيحيون":
     حول الخطة لإنهاء الأحداث السورية وإحلال السلام فيها وتمكين النظام من النصر وبسط سيادة الدولة في فترة قصيرة، انظر المقالة "نحو الانتصار في سوريا وهزيمة أمريكا":
    

عامر سمعان ، باحث وكاتب

22/ 3/ 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق