سنتناول
ضمن مقالتين موقف المسيحية الأرثوذكسية من الدين الإسلامي ومن المسلمين، ثم مختلف
مواقف الأرثوذكسيين الأنطاكيين من هذا الدين. وسنوضح كيف أن قسماً من هؤلاء (من
رجال دين وعلمانيين) لديهم مواقف من هذا الدين تتعارض مع الموقف الأرثوذكسي الصحيح
منه وأن منها ما يصل إلى حد كونه هرطقة.
1
- أهم ما ورد في المقالة الأولى كان التالي:
أ
- موقف المسيحية الأرثوذكسية من الدين الإسلامي هو أنه لا اعتراف بنبوة محمد
وبإنزال القرآن؛ أي إن محمداً هو ليس من أنبياء الله، وإن القرآن ليس مصدره الله،
وإن السِيرة والأحاديث، أي مواقف وسلوك محمد في حياته وتصريحاته، ليستا من وحي
الله.
ب
- موقف المسيحية الأرثوذكسية من المسلمين هو نفسه الموقف من اتباع أي مذهب ديني
آخر في العالم، إن كان في المسيحية أم خارجها، والذي يقوم أساساً على أنهم
"خراف ضالة" ينبغي نقل البشارة إليهم، ومع الحرص على عدم ممارسة أي شكل
من الضغوطات عليهم لحملهم على تغيير دينهم؛ ومع الحرص على عدم وجود فرق في التعامل
في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين من هم أرثوذكسيين وغيرهم... ومع
ما يعنيه هذا من ضرورة التضامن والتعاطف مع قضاياهم المحقة والصلاة من أجلهم...
ج
- مواقف الأرثوذكسيين الأنطاكيين الإكليروس، والعلمانيين المعنيين بالتربية
والإعلام الدينيين؛ من الإسلام هي أن معظمهم ملتزم بالموقف الأرثوذكسي الصحيح منه
كما هو مبيَّن أعلاه؛ لكن مع وجود أقلية تحاول التوفيق بين الديانتين المسيحية
والإسلامية وإظهارهما كأنهما وجهان لعملة واحدة، من خلال اتجاهين أساسيين:
-
الأول، هو الاعتراف بنبوة محمد بشكل غير مباشر، وفي نفس الوقت القول بوجود اعتراف
باطني أو غير مباشر بألوهية المسيح وبباقي الأساسيات الأرثوذكسية في القرآن. هذا
الاتجاه، هو خطأ كبير في منهجية الدراسات الدينية، ويترتب عليه اعتبار أن الإيمان
والتدين عبر أي من المسيحية أو الإسلام هما نفسهما عبر الآخر، ويؤديان إلى نفس
الهدف والنتيجة. ومن شأنه أن يؤدي أو يساهم في تشجيع غير مباشر للأرثوذكسيين لكي
يتركوا مذهبهم وينتسبوا إلى الإسلام ولكي تتزوج الأرثوذكسيات من مسلمين، وبأن يكون
لدى الأرثوذكسيين اعتراف غير مباشر أو ضمني بألوهية المسيح وبباقي العقائد
والتعاليم المرتبطة بها واستخفاف كبير بالأسرار الكنسية وغيرها من فروض التدين
وغيره... لكل ذلك يصبح هذا الاتجاه بمثابة هرطقة بحسب الأرثوذكسية.
-
الثاني، هو محاولة التركيز على القواسم المشتركة، أو التشابهات الكبيرة، بين
الديانتين المسيحية والإسلام (كمثل فيما يتعلق: بعبادة الإله الواحد، والدعوة إلى
القيام بالخير والابتعاد عن الشر، والإيمان بيوم القيامة، ووجود الجنة وجهنم،
واللاهوت الصوفي المشترك بين الأرثوذكسية والتصوف الإسلامي...) وتضخيمها والمبالغة
فيها، وفي نفس الوقت التقليل والتقزيم في الاختلافات الموجودة بينهما وحتى عدم
التطرق إليها؛ للوصول إلى نتيجة أن ما يجمع بين الديانتين هو أكثر بكثير مما يفرّق
أو ليتم الإيحاء بهذه النتيجة، أي ليتم إظهارهما كأنهما وجهان لعملة واحدة. هذا
الاتجاه، هو بدوره خطأ كبير في منهجية الدراسات الدينية، وأيضاً يترتب عليه اعتبار
أن الإيمان والتدين عبر أي من المسيحية أو الإسلام هما نفسهما عبر الآخر، ويؤديان
إلى نفس الهدف والنتيجة؛ كما من شأنه أن يؤدي تقريباً إلى نفس النتائج الواردة
أعلاه المتعلقة بالضرر على الكنيسة... لكن لا يمكن اعتباره بمثابة الهرطقة طالما
لا يتضمن أي اعتراف بشكل مباشر أو غير مباشر بنبوة محمد...
2
- التبريرات عن محاولات التوفيق بين المسيحية والإسلام.
هذا الفريق الوارد ذكره أعلاه من إكليروس،
وعلمانيين معنيين بالتربية والإعلام الدينيين، وغيرهم من مثقفين أرثوذكسيين أنطاكيين
الذين يحاولون إيجاد توفيقات بين المسيحية والإسلام؛ إن من خلال أحد الاتجاهين
الواردين أعلاه أو من خلال غيرهما (لم يتسع المجال للتطرق إليها في المقالة
الأولى)؛ عادة يقدمون تبريرات في سياق ما يقومون به. سنتناول فيما يلي هذه
التبريرات والردود عليها:
أ
- التبرير الأول، هو أن المسلمين في المنطقة العربية هم بشكل عام متخلفون وهمجيون
ولا يستطيعون تقبل الآخر المختلف عنهم فيصبح، وللتعايش معهم، لا بد من استرضائهم
من خلال القول بأن القواسم المشتركة بين المسيحية والإسلام هي أكثر من الاختلافات،
أو عدم ذكر محمد أمامهم أو في الوسائل الإعلامية المكتوبة وغيرها إلا بذكر معه
كلمة النبي أو (صلى الله عليه وسلم) وما شابه، أو عدم إظهار أمامهم ما يشير إلى
كثرة التدين أو حتى رسوخ الإيمان بالمسيحية وأساسياتها...
-
الرد: أولاً غير صحيح أن المسلمين في المنطقة العربية هم بشكل عام متخلفون
وهمجيون، فهذا القول عنهم يصح وصفه بالعنصرية.
ثانياً، إذا افترضنا أن أي مسيحي وجد نفسه
في تعامل مع مجموعة من المسلمين (أو غيرهم من اتباع أي دين آخر) يصح وصفهم بالتخلف
والهمجية أو ظنّ أنهم هكذا، أو في تواجد في مناطقهم أو في سكن بينهم؛ فالموقف
الأرثوذكسي الصحيح الذي لا خلاف عليه هو المجاهرة بإيمانه المسيحي وتدينه حتى ولو
أدى ذلك إلى فقدانه لحياته أو لأي مكسب دنيوي آخر. ويكون من ضمن ما يعنيه هذا هو
التالي:
-
عدم الكتابة أو التحدث عن أن القواسم المشتركة بين المسيحية والإسلام هي أكثر من
الاختلافات وبالشكل الذي يوحي بأن الإيمان والتدين عبر أي واحد منهما هما نفسهما
عبر الآخر، ويؤديان إلى نفس الهدف والنتيجة.
-
في حال تطرق في أحد كتبه أو مقالاته إلى ذِكر محمد، المفترض به أن يذكره كمثل
"نبي الإسلام محمد" أو "نبي المسلمين محمد" أو "رسول
الإسلام أو المسلمين محمد" أو حتى "محمد" فقط، وليس أن يذكره كمثل
"النبي محمد" أو "الرسول محمد" أو "محمد (صلى الله عليه
وسلّم)" أو "محمد (ص)" (انظر ما ذكرناه عن هذه التسميات في المقالة
الأولى)؛ حتى ولو أدى هذا الأمر إلى عدم بيع كتبه أو فقدانه لوظيفته أو مورد رزقه
أو منصبه. وأيضاً في حال كان الطالب يحضِّر رسالة الدبلوم أو الدكتوراه واضطر إلى
ذِكر محمد فعليه أن يذكره بهذا الشكل حتى ولو أدى هذا الأمر إلى عدم تعاون الأستاذ
المشرف معه وخسارته لشهادته ومستقبله.
-
في حال كان معتاداً في حياته اليومية على وضع الصليب
على صدره أو في سيارته بشكل ظاهر للعيان أو وضع الأيقونة بهذا الشكل في السيارة،
المفترَض به أن لا يقوم بنزع الصليب أو الأيقونة (في حال توجهه إلى منطقة غير
مسيحية) حرصاً منه على عدم إغضاب سكان تلك المنطقة وقيامهم بمقاطعته أو تحطيم زجاج
سيارته أو حتى قتله... وبطبيعة الوضع، فالكاهن أو الراهب أو الراهبة في حال تعرضه
للخطف (لأسباب سياسية أم غيرها) من قبل من هم غير مسيحيين فالمفترَض به أن لا يقوم
بنزع الصليب طمعاً بالحصول على معاملة أفضل من قبل خاطفيه في المأكل والملبس
والنوم وغيره...
ب
- التبرير الثاني، هو أن كلا المسيحيين المسلمين في لبنان، أو غيره من دول
المنطقة، هم متخلفين وغير قادرين على التعايش السلمي من دون الاقتتال مع بعضهم؛
فيصبح لا بد من إيجاد دين جديد، أو ما يشبه الدين الجديد، يوفق بين الديانتين
ويظهرهما كأنهما وجهان لعملة واحد؛ من أجل الوصول إلى التعايش السلمي والوحدة
الوطنية.
-
الرد:
-
أولاً، عند وجود عدم تعايش سلمي وضعف في الوحدة الوطنية، في لبنان أو في أي بلد
آخر، فالحلّ لا يكون عبر اختراع دين جديد يوحِّد بين أديان المواطنين؛ بل في البحث
العلمي عن أسباب هذا الوضع وإيجاد الحلّ السياسي على أساسه، وفي نفس الوقت عبر
التربية على حقوق الإنسان التي تقوم على حق الفرد في حريته الشخصية وفي نفس الوقت
احترامه لحقوق الآخرين في حرياتهم الشخصية، أي كما يقال "الدين لله والوطن
للجميع".
هذا الحلّ السياسي المأمول، قد يكون عبر:
تمتين دولة المؤسسات أو وضع قراءة جديدة للتاريخ أو تصحيح ممارسات خاطئة في
السياسة الداخلية أو تغيير في السياسة الخارجية أو ضمانات في السلطة والإدارة
العامة أو الاتحاد الكونفدرالي أو غيره، وذلك حسب الظروف الخاصة بكل بلد. وفي أسوأ
الأحوال قد لا يتبقى سوى التقسيم النهائي لإقامة دويلات دينية. ومع التنبه إل أن
إيجاد أي من هذه الحلول لا يعني أن تطبيقه أمر ممكن، لأنه قد يتطلب إحداث تغييرات
في الأوضاع الإقليمية والعالمية المؤثرة في داخل البلد المعني.
مثلاً، في لبنان أصل المشكلة هي ليست في
التنوع الطائفي بل في انقسام المجتمع اللبناني منذ عشرات السنين بين فريقين
أساسيين، الأول يرى أن الأخطار الأساسية التي تهدد لبنان هي المتأتية من الجوار
العربي ويحاول الاستعانة والاستقواء بالسياسات الغربية في المنطقة للحماية منها،
والثاني يرى أن هذه الأخطار هي المتأتية من السياسات الغربية والصهيونية في
المنطقة ويحاول الاستعانة والاستقواء بالقوى العربية والحليفة لها الفاعلة في
المنطقة للحماية منها. أي إنه الانقسام المعروف بين اليمين واليسار، ثم الموالاة
والمعارضة المسيحية، ثم 14 آذار و8 آذار.
بالتالي، يكون الحلّ في لبنان هو عبر توحيد
رؤية اللبنانيين للأخطار الأساسية التي تهدد لبنان ولكيفية الحماية منها وإيجاد
قراءة جديدة للتاريخ ومسار للسياسة الخارجية على هذا الأساس وإزالة أي غبن لاحق
بأي من الطوائف، وأيضاً في إيجاد الطرق الكفيلة بتنفيذ كل ذلك؛ وأن يترافق كل ذلك
مع التربية على حقوق الإنسان... وفي حال النجاح في التنفيذ، وفي حال تمتين
الممارسة الديمقراطية، يصار مستقبلاً إلى إلغاء تدريجي لنظام الطائفية السياسية وإلى
إقرار الزواج المدني الاختياري وغيره.
المقصود من هذا الشرح، أنه من غير المنطقي
القول إن حلّ الأزمة في لبنان والوصول إلى التعايش والوحدة الوطنية يتحقق من خلال
اختراع دين جديد يوحد من المسيحية والإسلام، أو من خلال غيره من الطروحات الخيالية
كمثل البدء حالياً بإلغاء الطائفية السياسية أو إقرار الزواج المدني
الاختياري.
-
ثانياً، القول إن حلّ الأزمة في لبنان والوصول إلى التعايش والوحدة الوطنية يتحقق
عبر اختراع دين جديد يوحد بين المسيحية والإسلام ويظهرهما كأنهما وجهان لعملة
واحدة، هو بكل الأحوال غير قابل للتطبيق؛ لأن المرجعيات الدينية الكبرى في
المسيحية والإسلام والموجودة في مناطق مختلفة من العالم عندما لن توافق على هذا
الحلّ، فإن معظم اللبنانيين سوف ينقادون إلى رأيها وليس إلى رأي من يروجون لهذا
الحلّ في لبنان أو في الدول المجاورة له... أي سيبقى هذا الحلّ محصوراً ضمن فئات
شعبية ضيقة في المجتمع اللبناني.
-
ثالثاً، هذه الحلّ الوارد أعلاه من شأنه أن يكون معيقاً لمسار التطور والديمقراطية
في المجتمع اللبناني؛ لأنه من ضمن ما يعنيه أن اللبناني المنتمي إلى دين غير
المسيحية والإسلام أو من كان ملحداً قد أصبح خارج التعايش والوحدة الوطنية، كونه
لا يمكن ضمّه إلى ذلك الدين الجديد؛ أي ما يعنيه هذا الحلّ هو جهوزية تهمة ضرب
التعايش والوحدة الوطنية ليتم توجيهها إلى كل من يحاول الخروج عن المسيحية أو
الإسلام؛ أي تقييد الحرية الدينية والتي منها حق الفرد في أن اختيار الانتماء
الديني الذي يرتئيه...
-
رابعاً، في حال وجود توترات أمنية ناتجة عن تنوع طائفي في أي منطقة في العالم،
وكان المطلوب للخروج من هذا الوضع هو التغيير في النصوص الدينية للمذاهب التي في
هذه المنطقة، وجعلها، أي هذه النصوص، متوافقة مع تقبّل الآخر والتعايش السلمي معه
واحترام حقوقه وكافة حرياته... فالأرثوذكسية ليست معنية بهذا الحلّ كون نصوصها
الدينية هي أصلاً متوافقة إلى أبعد الحدود مع هكذا تقبّل للآخر والتعايش السلمي
معه واحترام حقوقه وحرياته...
أي باختصار، وبالنظر إلى الردود الواردة
أعلاه، يكون القول بضرورة إيجاد دين جديد أو ما يشبه الدين الجديد يوفِّق بين
المسيحية والإسلام ويظهرهما كأنهما وجهان لعملة واحدة للوصول إلى التعايش والوحدة
الوطنية في لبنان أو غيره من دول المنطقة، أقل ما يصح وصفه هو عدم الصحة وعدم
القابلية للتطبيق والإعاقة لمسار التطور والديمقراطية، إضافة إلى تبرؤ الأرثوذكسية
منه.
ج - التبرير الثالث، هو أن إيجاد قواسم مشتركة
بين المسيحية والإسلام (كمثل فيما يتعلق: بعبادة الإله الواحد، والدعوة إلى القيام
بالخير والابتعاد عن الشر، والإيمان بيوم القيامة، ووجود الجنة وجهنم، واللاهوت
الصوفي المشترك بين الأرثوذكسية والتصوف الإسلامي، وغيره...) أو إظهار أن القواسم
المشتركة بينهما هي أكثر من الاختلافات؛ سيكون صالحاً كأساس للانطلاق إلى حوار مسيحي
- إسلامي يوصل إلى التعايش والوحدة الوطنية...
-
الرد، الحوار هو أمر مطلوب في جميع البلدان التي يوجد فيها تنوع ثقافي، إن كان
دينياً أم قومياً أم عرقياً أم غيره. وهو يقوم من منطلق أن يعرض ممثلو مختلف الفئات
الثقافية، أو الطوائف، مآخذهم على ما جرى في الماضي من قبل الآخرين بحقهم،
ومخاوفهم وتطلعاتهم المستقبلية فيما يتعلق بالعلاقات معهم. وبعد التحاور في كل هذه
المواضيع وإجراء الدراسات العلمية والموضوعية حولها، يتم الاتفاق على المآخذ
الواقعية فيما جرى في الماضي من قبل كل الفئات وكيفية تصحيحها والاعتذار والتعويض
عنها وما شابه، ويقوم كل طرف بطمأنة الآخرين فيما يتعلق بمخاوفهم من مواقفه
المستقبلية، كما يتم الاتفاق على التطلعات التي تكون محقة وواقعية وكيفية تحقيقها.
وفي حال كان الحوار ناجحاً فمن شأنه أن يساهم ليس فقط في التعايش والوحدة الوطنية
بل أيضاً في تعزيز بناء دولة المؤسسات؛ وفي حال وجود أزمة توترات أمنية فمن شأنه
أيضاً أن يساهم في إيجاد الحلّ لهذه الأزمة أو في تمتين الحلّ القائم في حال
التوافق مع ما يوجد في بنوده...
مثلاً، الحوار بين الطوائف في لبنان يفترَض
أن يقوم، أساساً، على أن يعرض ممثلو المسيحيين مآخذهم على ما يرونه تجاوزات من قبل
قسم من المسلمين بحقهم في زمن السلطنة العثمانية، ومخاوفهم من أن تتكرر بأشكال
أخرى في زمن الأصوليات المتطرفة، وأيضاً أن يعرضوا تطلعاتهم في أن لا يتعامل معهم
المسلمون كأقلية أو كجسم غريب داخل العالم العربي أو كأدوات للسياسات الغربية
وغيره... في المقابل يعرض ممثلو المسلمين مآخذهم على ما يرونه استقواء من قبل قسم
من المسيحيين بالأوروبيين والغربيين في زمن الانتداب ومن تعامل من قبلهم بشكل فوقي
أو انعزالي تجاههم ومن إصرار إحدى الفئات المسيحية على التمسك الجائر بالامتيازات
السياسية، ومخاوفهم من أن تحاول هذه الفئة مستقبلاً الاستقواء مجدداً بالغربيين أو
تسعى لإقامة كانتون أو دويلة مسيحية تكون تحت المظلة الغربية، وما إلى ذلك...
وبعد الدراسات العلمية والموضوعية لكل هذه
الطروحات يتم تحديد المآخذ الواقعية التي حصلت في الماضي من قبل كلا الطرفين
وكيفية تصحيحها والاعتذار والتعويض عنها، وتحديد المخاوف التي تتطلب الإشارة إليها
والطمأنة بخصوصها، وتحديد التطلعات التي تتطلب التعهد بالالتزام بها... وفي حال
النجاح في التنفيذ فإن هذا سيساهم ليس فقط في تمتين التعايش والوحدة الوطنية بل
أيضاً في إيجاد الحلّ للأزمة اللبنانية أو تمتينه في حال كانت بنوده متوافقة مع
نتائج هذا الحوار...
بحسب هذا المبدأ يكون الحوار بين الأديان في
أي بلد، ولا يكون عبر إيجاد قواسم مشتركة بين الأديان ثم الانطلاق منها للحوار.
فهذا الأمر وعدا عن كونه غير فاعل أو مجدٍ في هذا السياق، فمن شأنه أيضاً أن يحدث
تشويهاً في الرؤية عند المؤمنين نحو اعتبار أنه لا فرق في الإيمان والتدين بين هذا
الدين وذاك وأنهما يؤديان إلى نفس النتيجة.
هكذا نكون قد انتهينا من عرض التبريرات التي
تُقدَّم في سياق محاولات التوفيق بين المسيحية والإسلام وإظهارهما كأنهما وجهان
لعملة واحدة، وأظهرنا الخطأ فيها من حيث عدم منطقيتها وتعارضها مع ما هو أساسيات
في الأرثوذكسية.
3
-
أ
- قلنا إن الأرثوذكسيين الأنطاكيين، الإكليروس منهم والعلمانيين المعنيين بالإعلام
والتربية الدينيين؛ هم بأكثريتهم ملتزمون بالموقف الأرثوذكسي الصحيح من الإسلام من
حيث عدم الاعتراف بنبوة محمد وبإنزال القرآن، ومع وجود أقلية فيهم تحاول التوفيق
بين المسيحية والإسلام وإظهارهما كأنهما وجهان لعملة واحدة. المراقِب لهذا الوضع
لن يصعب عليه إدراك أن الفئة الأولى مقصِّرة كثيراً في الإعلام والوعظ الدينيين
المتعلقين بالتنبيه إلى الموقف الأرثوذكسي الصحيح من الإسلام وإلى الخطأ في مواقف
هذه الفئة الثانية.
إي إنه المفترَض بتلك الفئة الأولى أن يكون
لديها تحرك إعلامي ووعظي ناشط لتوضيح ما يلي:
-
أن الأرثوذكسية لا تعترف لا بنبوة محمد ولا بإنزال القرآن.
-
أن الأرثوذكسية تدعو أبناءها إلى: الانفتاح إلى المنتمين إلى جميع الديانات،
المسلمين منهم وغيرهم، والتعايش معهم، وإلى عدم التفريق في التعامل في النواحي
السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين مَن هم أرثوذكسيين وغيرهم، أي إلى رفض أي
شكل من التعامل العدائي أو العنصري أو الفوقي أو التهميشي أو الانعزالي تجاه مَن
هم غير أرثوذكسيين، وإلى التعاطف والتضامن مع قضاياهم المحقة والصلاة من أجلهم.
-
أنه من الخطأ حضور المسلمين للخدم الكنسية لاعتبارات اجتماعية أو سياسية.
-
أن الأرثوذكسيات اللواتي يتزوجن من مسلمين يصبحن خارجات عن الأرثوذكسية.
أيضاً،
وكما ذكرنا في المقالة الأولى، المفترَض التنبيه إلى الخطأ في مواقف تلك الفئة من
الأرثوذكسيين في محاولاتها للتوفيق بين المسيحية والإسلام، وخاصة عندما تتضمن
اعترافاً غير مباشر بنبوة محمد كونها في هذه الحالة تصبح بمثابة هرطقة.
ب
- حول هذه الفئة الأخير التي قلنا عن موقفها من الإسلام إنه يصح وصفه بالهرطقة، من
المهم التنبيه إلى أن أفرادها لا يتحملون لوحدهم مسؤولية ما صدر عنهم، فكل مَن سكت
عن خطئهم، إن كان من الإكليروس أم غيرهم، يتحمل بدوره مسؤولية عن هذا الخطأ وإن
بمقدار أقل.
هذا من منطلق أن الأرثوذكسية تشدد كثيراً
على أهمية سَعي الفرد لخلاص غيره تماماً كما سَعيه لخلاص نفسه، فمن البديهي أن يكون
من واجبه عند رؤيته خطأً كبيراً في المجال الديني التنبيه إليه. بالتالي، لما كان
هناك حالة تقصير كبيرة في التنبيه إلى الموقف الأرثوذكسي الصحيح من الإسلام وعن
الأخطاء التي صدرت عن تلك الفئة من الأرثوذكسيين في هذا المجال؛ وأيضاً لما كان
هناك حالة ملحوظة من الفتور الديني، أي قلة التدين، في الكنيسة الأرثوذكسية
الأنطاكية عامة (بالرغم من النهضة الدينية التي ابتدأت منذ التسعينات والتي لا
تزال خجولة) والتي بحد ذاتها تلجم حركة التربية والإعلام الدينيين في جميع
المواضيع؛ فلا يصح أن يتحمل أصحاب ذلك الموقف الخاطئ من الإسلام لوحدهم المسؤولية
وأن يتم التعامل معهم وكــأنهم هراطقة... لكن بالطبع يبقى من الضروري تنبيههم إلى
خطئهم من ضمن التحرك الإعلامي والوعظي المطلوب لتوضيح الموقف من الإسلام كما هو
مبيَّن أعلاه... وفي المستقبل وفي حال استمرارهم على موقفهم عندئذ لا يبقى إلا يتم
التعامل معهم كهراطقة.
ج
- اعتماداً على ما تقدم لا يصح التعامل مع الأرثوذكسيات المتزوجات من مسلمين كمن
خرجن عن الأرثوذكسية، أي منعهن من دخول الكنائس والمشاركة في الأسرار وغيرها،
لأنهن لسن مذنبات بل هن ضحية حالة الفتور الديني السائدة والتقصير في توضيح الموقف
الأرثوذكسي الصحيح من الإسلام كما أظهرنا أعلاه.
أي إنه في المستقبل وبعد أن يكون هناك تحرك
جيد في الإعلام والوعظ الدينيين لتوضيح الموقف الأرثوذكسي من الإسلام، والذي من
ضمنه التوضيح بشأن أن التي تتزوج من مسلم تكون قد خرجت عن دينها، وأيضاً لتوضيح
الخطأ في مواقف تلك الفئة في محاولاتها للتوفيق بين المسيحية والإسلام وإظهارهما
كأنهما وجهان لعملة واحدة؛ بعد ذلك يصح التعامل مع التي تتزوج من مسلم بهذا الشكل.
4
- كنا قد تحدثنا في المقالة الأولى عن أهمية نقل البشارة إلى مَن هم غير
أرثوذكسيين، وتحدثنا أعلاه عن أهمية الشهادة للمسيح في الأرثوذكسية؛ لا بد في هاتين
النقطتين من توضيح ما يلي:
أ
- يعتبِر الأرثوذكسيون أنفسَهم أنهم المؤتمنون على الجوهرة التي لا تثمَّن في هذا
الوجود، والتي هي الإيمان الأرثوذكسي المسلَّم من الرسل والذي أسسه السيد المسيح
في تجسده وصلبه وقيامته، والذي يتيح للإنسان أن يتقدس بالنعمة الإلهية غير
المخلوقة التي يحصل عليها من خلال مشاركته في الأسرار الكنسية.
هذا التقدس، والذي هو في الواقع "تأله
بالنعمة الإلهية غير المخلوقة" بحسب الأرثوذكسية أي اتحاد الإنسان بالطبيعة
الإلهية، هو أيضاً تغيير في كيان الإنسان، أي في سلوكه وتفكيره وشعوره، نحو أبعاد
إيجابية لا يحققها أي مذهب ديني أو فكري آخر في التاريخ.
فالمسيحية الأرثوذكسية: تتوافق مع مفاهيم
الديمقراطية وحقوق الإنسان والأخلاق البيئية، وتتيح للإنسان التغيير الإيجابي في هذا العالم من خلال
أفكاره ومبادراته ومشاريعه، وتتوافق مع طبيعة نفسيته من حيث تغييرها إلى الأفضل، وتتيح له التغلب على مخاوفه وضعفاته
وخطاياه، وتؤمِّن السعادة له، وتفتح المجال أمامه للتغيير نحو الشخصية الفاعلة
والبنَّاءة والإيجابية، وتظهِر رفعة قيمته... أكثر من أي مذهب ديني أو فكري آخر في التاريخ. أيضاً
هي أكثر مذهب ديني في التاريخ يتوافق مع المنطق في المجال الديني، أي مع مسائل:
الألوهة ومقاصد الإله من الخليقة والقيم الأخلاقية والإنسانية وحل مشاكل الإنسان وغيرها، أي إن الأرثوذكسية هي الدين الصحيح في الوجود. (سيكون
لي في الأسابيع والأشهر القادمة مقالات لتوضيح هذه النقاط أعلاه).
بالتالي، الأرثوذكسي غير المقتنِع بأن
الأرثوذكسية هي هذه الجوهرة التي لا تثمَّن أو في حال اعتبَر نفسَه أنه غير مؤهَّل
ليكون من ضمن المؤتمنين عليها، سيكون عنده الاستعداد للقيام بمحاولات للتوفيق بين
المسيحية والإسلام، أو غيره من الديانات، ولإظهارهما كأنهما وجهان لعملة واحدة، ولن
يكون عنده الاستعداد للشهادة للمسيح، كما ستقلّ عنده الرغبةُ في نقل البشارة إلى
مَن هم غير أرثوذكسيين.
والعكس صحيح، أي إن الأرثوذكسي المقتنِع بأن
الأرثوذكسية هي هذه الجوهرة التي لا تثمَّن والذي يَعتبِر نفسَه أنه من ضمن
المؤتمنين عليها، فهو لن يفرِّط بها من خلال محاولات للتوفيق بين المسيحية
والإسلام، أو غيره، لإظهارهما وكأنهما وجهان لعملة واحدة، وسيكون عنده الاستعداد
للشهادة لهذه الجوهرة والتضحية بالغالي والرخيص لأجلها، والرغبة في نقل البشارة بها
إلى مَن هم أرثوذكسيين بدءًا من الكاثوليك والبروتستانت وصولاً إلى المسلمين
وغيرهم...
وهو في قيامه بهذا الأمر الأخير، أي عندما
يقول لمن هم غير أرثوذكسيين: "إن المسيحية الأرثوذكسية هي الدين الصحيح في
الوجود"، فإنه لا يقول هذا الأمر من منطلق التباهي أو الاستعلاء بل من منطلق المحبة
لهم ( "تحبُّ قريبَك كنفسك" متى 22: 39) ولكي يتمتعوا هم بدورهم بتلك
الجوهرة التي لا تثمَّن تماماً كتمتعه بها.
ب
- عادة عندما يصرّح الأرثوذكسي بأن الأرثوذكسية هي الدين الصحيح في الوجود، تكون
التهمة جاهزة من قبل الكاثوليك والبروتستانت والمسلمين وغيرهم وحتى من قبل
الأرثوذكسيين القليلي أو غير الراسخين في الإيمان والتدين، ليتهموه بأنه يقول هذا
الأمر من منطلق العصبية الطائفية أو الأصولية المتطرفة. وفي حال كان ذلك
الأرثوذكسي مقيماً في بلد يوجد فيه النزعة القومية كمثل اليونان وروسيا فإنه
يُتهَم أيضاً بأنه يقول ذلك الكلام من منطلق العصبية القومية - الدينية.
إلا أنه في واقع الأمر، الأرثوذكسيون في
تصريحهم بأن الأرثوذكسية هي الدين الصحيح في الوجود، هم أبعد الناس عن العصبية
الطائفية والأصولية المتطرفة والعصبية القومية - الدينية؛ كما سيتبين لنا فيما
يلي:
عندما يصرِّح أيُّ مؤمِن منتمٍ إلى أي مذهب ديني
بأن مذهبه الديني هو الدين الصحيح في الوجود، وفي نفس الوقت يعطي الحق لنفسه
بممارسة ضغوطات على المنتمين إلى المذاهب الدينية الأخرى لحملهم على الانتساب إلى
مذهبه، أو التعامل معهم في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكل مختلف
عن تعامله مع أبناء مذهبه، أي التعامل معهم بشكل عدائي أو عنصري أو فوقي أو تهميشي
أو انعزالي، أو يعطي الحق لنفسه بممارسة ضغوطات على المنتمين إلى مذهبه الديني
لمنعهم من مغادرته أو لإلزامه بزيادة تدينهم؛ عندئذ يصح وصف موقفه بالعصبية
الطائفية أو الأصولية المتطرفة أو العصبية القومية - الدينية.
أما عندما يصرِّح بأن مذهبه الديني هو الدين
الصحيح في الوجود، وفي نفس الوقت لا يحاول ممارسة أية ضغوطات على المنتمين إلى
المذاهب الدينية الأخرى لحملهم على الانتساب إلى مذهبه، أو التعامل معهم في
النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكل مختلف عن تعامله مع أبناء مذهبه،
أي لا يحاول التعامل معهم بشكل عدائي أو عنصري أو فوقي أو تهميشي أو انعزالي، وأيضاً
لا يعطي الحق لنفسه بممارسة ضغوطات على المنتمين إلى مذهبه الديني لمنعهم من
مغادرته أو لإلزامه بزيادة تدينهم؛ وهذا هو ما تدعو إليه الأرثوذكسية؛ عندئذ لا
يصح وصف موقفه بالعصبية الطائفية أو الأصولية المتطرفة أو العصبية القومية -
الدينية؛ بل يصح وصفه بأنه أحد أرقى أشكال الديمقراطية والاحترام لحقوق الإنسان.
الكلام لا ينتهي هنا.
في الأرثوذكسية هناك تشديد كبير على ما
يُعرَف بمحاربة الأهواء، والمقصود بها أن المطلوب من المؤمن ليس فقط أن لا يقوم
بالشر بالفعل والقول، بل أيضاً أن يبقى بحالة يقظة دائمة ومراقبة للأفكار أو
المشاعر الشريرة (أي الأهواء) لكي يقوم بتقزيمها وإبعادها والتوبة عنها ما أن تخطر
بباله، في مسيرة تستمر حتى لآخر لحظات حياته
("من القلب تخرج أفكار شريرة... هذه هي التي تنجّس الإنسان" متى 15: 19
- 20).
مثلاً حول "كل من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه" (متى 5:
28) تعني أنه ليس فقط المطلوب من المؤمن أن لا يقوم بالزنا، بالفعل والقول، بل
أيضاً أن يبقى بحالة يقظة ومراقبة لأفكار أو مشاعر الزنا التي في حال خطرت بباله
أن لا يتفاعل معها في خيالات أو أحلام يقظة بل أن يقوم بتقزيمها أو طردها والتوبة
عنها. إضافة، وفي حال النجاح في هذه المسيرة، وإذا خطرت بباله أفكار أو مشاعر من
نوع أنه قد أصبح مبرراً أو قديساً أكثر من غيره، فالمطلوب منه هنا أيضاً أن يرفض
هذه الأفكار أو المشاعر ويتوب عنها في مسيرة من التواضع تستمر بدورها طيلة حياته؛ (انظر
مثل الفريسي والعشار، لوقا 18: 9 - 14).
بالعودة
إلى الموقف الأرثوذكسي من اتباع باقي المذاهب الدينية فيكون المطلوب من المؤمن ليس
فقط أن يمتنع، بالفعل والقول، عن ممارسة أية ضغوطات على هؤلاء لإلزامهم تغيير
دينهم، وعن أي التعامل معهم بشكل عدائي أو عنصري أو فوقي أو تهميشي أو انعزالي؛ بل
عليه أيضاً أن يبقى في حالة يقظة ومراقبة لأي تفكير أو شعور في هذا الإطار نحو
هؤلاء لكي يقوم بتقزيمه وطرده والتوبة عنه ما أن يخطر بباله. والأمر نفسه في تعامله
مع اتباع مذهبه الديني فيما يتعلق بعدم ممارسة أية ضغوطات عليهم لإلزامهم البقاء
على مذهبهم أو زيادة تدينهم. إضافة وفي حال نجاحه في هذه المسيرة وإذا خطرت بباله
أفكار أو مشاعر من نوع أنه قد أصبح مبرراً أو قديساً أكثر من غيره، فالمطلوب منه
هنا أيضاً أن يرفض هذه الأفكار أو المشاعر ويتوب عنها في مسيرة من التواضع تستمر
طيلة حياته...
بالتالي، عندما تصل الأمور إلى هذه
المستويات، فلا يعود يصح التحدث عن أحد أرقى أشكال الديمقراطية، بل ما تصبح عليه
الأرثوذكسية في الواقع هو أنها أكثر مذهب ديني أو فكري في التاريخ يتوافق مع
مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وكما أشرنا في المقالة الأولى، أنه إذا كان
هناك أرثوذكسيون في مناطق مختلفة من العالم لا يتصرفون بهذا الشكل فهذا أمر طبيعي
لأنه في كل دِين يوجد فرق بين النص والتطبيق، ومن البديهي أن لا يكون جميعُ
المنتمين إلى أي دِين قديسِين ويطبقون نصوصَه، أو مبادئه، كما هي. فالنصوص
الدينية، أو المبادئ، هي المثال الذي يُفترَض بالمؤمنين في أي دِين أن يسعوا إليه.
حول المقالة الأولى انظر
"الأرثوذكسية والموقف من الإسلام والمسلمين (2\1)":
عامر
سمعان ، باحث وكاتب
25/ 3/ 2014 ، تم آخر تنقيح لهذه المقالة في 11/ 4/ 2014