ما يتضمنه كتابي "حول الأزمة اللبنانية ونهاية الزعامة العالمية للولايات المتحدة" دراسات معمقة وغير مسبوقة في السياسة والإستراتيجيا والتنمية والسوسيولوجيا؛ من بينها: أربع نظريات جديدة في الأنتروبولوجيا المجتمعية، وخطة لحلّ الأزمة في لبنان، وإستراتيجيا تعتمد وسائل المحاربة الإعلامية والسياسية والاقتصادية لهزيمة الولايات المتحدة وإنهاء زعامتها العالمية، والتي سيكون من نتائجها الاستقرار الأمني والنمو الاقتصادي والتطور في العالم العربي ومعظم دول الجنوب.

الثلاثاء، 25 مارس 2014

الأرثوذكسية والموقف من الإسلام والمسلمين (2\2)

     
     سنتناول ضمن مقالتين موقف المسيحية الأرثوذكسية من الدين الإسلامي ومن المسلمين، ثم مختلف مواقف الأرثوذكسيين الأنطاكيين من هذا الدين. وسنوضح كيف أن قسماً من هؤلاء (من رجال دين وعلمانيين) لديهم مواقف من هذا الدين تتعارض مع الموقف الأرثوذكسي الصحيح منه وأن منها ما يصل إلى حد كونه هرطقة.

1 - أهم ما ورد في المقالة الأولى كان التالي:
أ - موقف المسيحية الأرثوذكسية من الدين الإسلامي هو أنه لا اعتراف بنبوة محمد وبإنزال القرآن؛ أي إن محمداً هو ليس من أنبياء الله، وإن القرآن ليس مصدره الله، وإن السِيرة والأحاديث، أي مواقف وسلوك محمد في حياته وتصريحاته، ليستا من وحي الله.
ب - موقف المسيحية الأرثوذكسية من المسلمين هو نفسه الموقف من اتباع أي مذهب ديني آخر في العالم، إن كان في المسيحية أم خارجها، والذي يقوم أساساً على أنهم "خراف ضالة" ينبغي نقل البشارة إليهم، ومع الحرص على عدم ممارسة أي شكل من الضغوطات عليهم لحملهم على تغيير دينهم؛ ومع الحرص على عدم وجود فرق في التعامل في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين من هم أرثوذكسيين وغيرهم... ومع ما يعنيه هذا من ضرورة التضامن والتعاطف مع قضاياهم المحقة والصلاة من أجلهم... 
ج - مواقف الأرثوذكسيين الأنطاكيين الإكليروس، والعلمانيين المعنيين بالتربية والإعلام الدينيين؛ من الإسلام هي أن معظمهم ملتزم بالموقف الأرثوذكسي الصحيح منه كما هو مبيَّن أعلاه؛ لكن مع وجود أقلية تحاول التوفيق بين الديانتين المسيحية والإسلامية وإظهارهما كأنهما وجهان لعملة واحدة، من خلال اتجاهين أساسيين:
- الأول، هو الاعتراف بنبوة محمد بشكل غير مباشر، وفي نفس الوقت القول بوجود اعتراف باطني أو غير مباشر بألوهية المسيح وبباقي الأساسيات الأرثوذكسية في القرآن. هذا الاتجاه، هو خطأ كبير في منهجية الدراسات الدينية، ويترتب عليه اعتبار أن الإيمان والتدين عبر أي من المسيحية أو الإسلام هما نفسهما عبر الآخر، ويؤديان إلى نفس الهدف والنتيجة. ومن شأنه أن يؤدي أو يساهم في تشجيع غير مباشر للأرثوذكسيين لكي يتركوا مذهبهم وينتسبوا إلى الإسلام ولكي تتزوج الأرثوذكسيات من مسلمين، وبأن يكون لدى الأرثوذكسيين اعتراف غير مباشر أو ضمني بألوهية المسيح وبباقي العقائد والتعاليم المرتبطة بها واستخفاف كبير بالأسرار الكنسية وغيرها من فروض التدين وغيره... لكل ذلك يصبح هذا الاتجاه بمثابة هرطقة بحسب الأرثوذكسية.    
- الثاني، هو محاولة التركيز على القواسم المشتركة، أو التشابهات الكبيرة، بين الديانتين المسيحية والإسلام (كمثل فيما يتعلق: بعبادة الإله الواحد، والدعوة إلى القيام بالخير والابتعاد عن الشر، والإيمان بيوم القيامة، ووجود الجنة وجهنم، واللاهوت الصوفي المشترك بين الأرثوذكسية والتصوف الإسلامي...) وتضخيمها والمبالغة فيها، وفي نفس الوقت التقليل والتقزيم في الاختلافات الموجودة بينهما وحتى عدم التطرق إليها؛ للوصول إلى نتيجة أن ما يجمع بين الديانتين هو أكثر بكثير مما يفرّق أو ليتم الإيحاء بهذه النتيجة، أي ليتم إظهارهما كأنهما وجهان لعملة واحدة. هذا الاتجاه، هو بدوره خطأ كبير في منهجية الدراسات الدينية، وأيضاً يترتب عليه اعتبار أن الإيمان والتدين عبر أي من المسيحية أو الإسلام هما نفسهما عبر الآخر، ويؤديان إلى نفس الهدف والنتيجة؛ كما من شأنه أن يؤدي تقريباً إلى نفس النتائج الواردة أعلاه المتعلقة بالضرر على الكنيسة... لكن لا يمكن اعتباره بمثابة الهرطقة طالما لا يتضمن أي اعتراف بشكل مباشر أو غير مباشر بنبوة محمد...   

2 - التبريرات عن محاولات التوفيق بين المسيحية والإسلام.
     هذا الفريق الوارد ذكره أعلاه من إكليروس، وعلمانيين معنيين بالتربية والإعلام الدينيين، وغيرهم من مثقفين أرثوذكسيين أنطاكيين الذين يحاولون إيجاد توفيقات بين المسيحية والإسلام؛ إن من خلال أحد الاتجاهين الواردين أعلاه أو من خلال غيرهما (لم يتسع المجال للتطرق إليها في المقالة الأولى)؛ عادة يقدمون تبريرات في سياق ما يقومون به. سنتناول فيما يلي هذه التبريرات والردود عليها:
أ - التبرير الأول، هو أن المسلمين في المنطقة العربية هم بشكل عام متخلفون وهمجيون ولا يستطيعون تقبل الآخر المختلف عنهم فيصبح، وللتعايش معهم، لا بد من استرضائهم من خلال القول بأن القواسم المشتركة بين المسيحية والإسلام هي أكثر من الاختلافات، أو عدم ذكر محمد أمامهم أو في الوسائل الإعلامية المكتوبة وغيرها إلا بذكر معه كلمة النبي أو (صلى الله عليه وسلم) وما شابه، أو عدم إظهار أمامهم ما يشير إلى كثرة التدين أو حتى رسوخ الإيمان بالمسيحية وأساسياتها...
- الرد: أولاً غير صحيح أن المسلمين في المنطقة العربية هم بشكل عام متخلفون وهمجيون، فهذا القول عنهم يصح وصفه بالعنصرية.
     ثانياً، إذا افترضنا أن أي مسيحي وجد نفسه في تعامل مع مجموعة من المسلمين (أو غيرهم من اتباع أي دين آخر) يصح وصفهم بالتخلف والهمجية أو ظنّ أنهم هكذا، أو في تواجد في مناطقهم أو في سكن بينهم؛ فالموقف الأرثوذكسي الصحيح الذي لا خلاف عليه هو المجاهرة بإيمانه المسيحي وتدينه حتى ولو أدى ذلك إلى فقدانه لحياته أو لأي مكسب دنيوي آخر. ويكون من ضمن ما يعنيه هذا هو التالي:
- عدم الكتابة أو التحدث عن أن القواسم المشتركة بين المسيحية والإسلام هي أكثر من الاختلافات وبالشكل الذي يوحي بأن الإيمان والتدين عبر أي واحد منهما هما نفسهما عبر الآخر، ويؤديان إلى نفس الهدف والنتيجة.
- في حال تطرق في أحد كتبه أو مقالاته إلى ذِكر محمد، المفترض به أن يذكره كمثل "نبي الإسلام محمد" أو "نبي المسلمين محمد" أو "رسول الإسلام أو المسلمين محمد" أو حتى "محمد" فقط، وليس أن يذكره كمثل "النبي محمد" أو "الرسول محمد" أو "محمد (صلى الله عليه وسلّم)" أو "محمد (ص)" (انظر ما ذكرناه عن هذه التسميات في المقالة الأولى)؛ حتى ولو أدى هذا الأمر إلى عدم بيع كتبه أو فقدانه لوظيفته أو مورد رزقه أو منصبه. وأيضاً في حال كان الطالب يحضِّر رسالة الدبلوم أو الدكتوراه واضطر إلى ذِكر محمد فعليه أن يذكره بهذا الشكل حتى ولو أدى هذا الأمر إلى عدم تعاون الأستاذ المشرف معه وخسارته لشهادته ومستقبله.
- في حال كان معتاداً في حياته اليومية على وضع الصليب على صدره أو في سيارته بشكل ظاهر للعيان أو وضع الأيقونة بهذا الشكل في السيارة، المفترَض به أن لا يقوم بنزع الصليب أو الأيقونة (في حال توجهه إلى منطقة غير مسيحية) حرصاً منه على عدم إغضاب سكان تلك المنطقة وقيامهم بمقاطعته أو تحطيم زجاج سيارته أو حتى قتله... وبطبيعة الوضع، فالكاهن أو الراهب أو الراهبة في حال تعرضه للخطف (لأسباب سياسية أم غيرها) من قبل من هم غير مسيحيين فالمفترَض به أن لا يقوم بنزع الصليب طمعاً بالحصول على معاملة أفضل من قبل خاطفيه في المأكل والملبس والنوم وغيره...
ب - التبرير الثاني، هو أن كلا المسيحيين المسلمين في لبنان، أو غيره من دول المنطقة، هم متخلفين وغير قادرين على التعايش السلمي من دون الاقتتال مع بعضهم؛ فيصبح لا بد من إيجاد دين جديد، أو ما يشبه الدين الجديد، يوفق بين الديانتين ويظهرهما كأنهما وجهان لعملة واحد؛ من أجل الوصول إلى التعايش السلمي والوحدة الوطنية.
- الرد:
- أولاً، عند وجود عدم تعايش سلمي وضعف في الوحدة الوطنية، في لبنان أو في أي بلد آخر، فالحلّ لا يكون عبر اختراع دين جديد يوحِّد بين أديان المواطنين؛ بل في البحث العلمي عن أسباب هذا الوضع وإيجاد الحلّ السياسي على أساسه، وفي نفس الوقت عبر التربية على حقوق الإنسان التي تقوم على حق الفرد في حريته الشخصية وفي نفس الوقت احترامه لحقوق الآخرين في حرياتهم الشخصية، أي كما يقال "الدين لله والوطن للجميع".     
     هذا الحلّ السياسي المأمول، قد يكون عبر: تمتين دولة المؤسسات أو وضع قراءة جديدة للتاريخ أو تصحيح ممارسات خاطئة في السياسة الداخلية أو تغيير في السياسة الخارجية أو ضمانات في السلطة والإدارة العامة أو الاتحاد الكونفدرالي أو غيره، وذلك حسب الظروف الخاصة بكل بلد. وفي أسوأ الأحوال قد لا يتبقى سوى التقسيم النهائي لإقامة دويلات دينية. ومع التنبه إل أن إيجاد أي من هذه الحلول لا يعني أن تطبيقه أمر ممكن، لأنه قد يتطلب إحداث تغييرات في الأوضاع الإقليمية والعالمية المؤثرة في داخل البلد المعني.
     مثلاً، في لبنان أصل المشكلة هي ليست في التنوع الطائفي بل في انقسام المجتمع اللبناني منذ عشرات السنين بين فريقين أساسيين، الأول يرى أن الأخطار الأساسية التي تهدد لبنان هي المتأتية من الجوار العربي ويحاول الاستعانة والاستقواء بالسياسات الغربية في المنطقة للحماية منها، والثاني يرى أن هذه الأخطار هي المتأتية من السياسات الغربية والصهيونية في المنطقة ويحاول الاستعانة والاستقواء بالقوى العربية والحليفة لها الفاعلة في المنطقة للحماية منها. أي إنه الانقسام المعروف بين اليمين واليسار، ثم الموالاة والمعارضة المسيحية، ثم 14 آذار و8 آذار.
     بالتالي، يكون الحلّ في لبنان هو عبر توحيد رؤية اللبنانيين للأخطار الأساسية التي تهدد لبنان ولكيفية الحماية منها وإيجاد قراءة جديدة للتاريخ ومسار للسياسة الخارجية على هذا الأساس وإزالة أي غبن لاحق بأي من الطوائف، وأيضاً في إيجاد الطرق الكفيلة بتنفيذ كل ذلك؛ وأن يترافق كل ذلك مع التربية على حقوق الإنسان... وفي حال النجاح في التنفيذ، وفي حال تمتين الممارسة الديمقراطية، يصار مستقبلاً إلى إلغاء تدريجي لنظام الطائفية السياسية وإلى إقرار الزواج المدني الاختياري وغيره.
     المقصود من هذا الشرح، أنه من غير المنطقي القول إن حلّ الأزمة في لبنان والوصول إلى التعايش والوحدة الوطنية يتحقق من خلال اختراع دين جديد يوحد من المسيحية والإسلام، أو من خلال غيره من الطروحات الخيالية كمثل البدء حالياً بإلغاء الطائفية السياسية أو إقرار الزواج المدني الاختياري. 
- ثانياً، القول إن حلّ الأزمة في لبنان والوصول إلى التعايش والوحدة الوطنية يتحقق عبر اختراع دين جديد يوحد بين المسيحية والإسلام ويظهرهما كأنهما وجهان لعملة واحدة، هو بكل الأحوال غير قابل للتطبيق؛ لأن المرجعيات الدينية الكبرى في المسيحية والإسلام والموجودة في مناطق مختلفة من العالم عندما لن توافق على هذا الحلّ، فإن معظم اللبنانيين سوف ينقادون إلى رأيها وليس إلى رأي من يروجون لهذا الحلّ في لبنان أو في الدول المجاورة له... أي سيبقى هذا الحلّ محصوراً ضمن فئات شعبية ضيقة في المجتمع اللبناني.
- ثالثاً، هذه الحلّ الوارد أعلاه من شأنه أن يكون معيقاً لمسار التطور والديمقراطية في المجتمع اللبناني؛ لأنه من ضمن ما يعنيه أن اللبناني المنتمي إلى دين غير المسيحية والإسلام أو من كان ملحداً قد أصبح خارج التعايش والوحدة الوطنية، كونه لا يمكن ضمّه إلى ذلك الدين الجديد؛ أي ما يعنيه هذا الحلّ هو جهوزية تهمة ضرب التعايش والوحدة الوطنية ليتم توجيهها إلى كل من يحاول الخروج عن المسيحية أو الإسلام؛ أي تقييد الحرية الدينية والتي منها حق الفرد في أن اختيار الانتماء الديني الذي يرتئيه...
- رابعاً، في حال وجود توترات أمنية ناتجة عن تنوع طائفي في أي منطقة في العالم، وكان المطلوب للخروج من هذا الوضع هو التغيير في النصوص الدينية للمذاهب التي في هذه المنطقة، وجعلها، أي هذه النصوص، متوافقة مع تقبّل الآخر والتعايش السلمي معه واحترام حقوقه وكافة حرياته... فالأرثوذكسية ليست معنية بهذا الحلّ كون نصوصها الدينية هي أصلاً متوافقة إلى أبعد الحدود مع هكذا تقبّل للآخر والتعايش السلمي معه واحترام حقوقه وحرياته... 
     أي باختصار، وبالنظر إلى الردود الواردة أعلاه، يكون القول بضرورة إيجاد دين جديد أو ما يشبه الدين الجديد يوفِّق بين المسيحية والإسلام ويظهرهما كأنهما وجهان لعملة واحدة للوصول إلى التعايش والوحدة الوطنية في لبنان أو غيره من دول المنطقة، أقل ما يصح وصفه هو عدم الصحة وعدم القابلية للتطبيق والإعاقة لمسار التطور والديمقراطية، إضافة إلى تبرؤ الأرثوذكسية منه.  
 ج - التبرير الثالث، هو أن إيجاد قواسم مشتركة بين المسيحية والإسلام (كمثل فيما يتعلق: بعبادة الإله الواحد، والدعوة إلى القيام بالخير والابتعاد عن الشر، والإيمان بيوم القيامة، ووجود الجنة وجهنم، واللاهوت الصوفي المشترك بين الأرثوذكسية والتصوف الإسلامي، وغيره...) أو إظهار أن القواسم المشتركة بينهما هي أكثر من الاختلافات؛ سيكون صالحاً كأساس للانطلاق إلى حوار مسيحي - إسلامي يوصل إلى التعايش والوحدة الوطنية...
- الرد، الحوار هو أمر مطلوب في جميع البلدان التي يوجد فيها تنوع ثقافي، إن كان دينياً أم قومياً أم عرقياً أم غيره. وهو يقوم من منطلق أن يعرض ممثلو مختلف الفئات الثقافية، أو الطوائف، مآخذهم على ما جرى في الماضي من قبل الآخرين بحقهم، ومخاوفهم وتطلعاتهم المستقبلية فيما يتعلق بالعلاقات معهم. وبعد التحاور في كل هذه المواضيع وإجراء الدراسات العلمية والموضوعية حولها، يتم الاتفاق على المآخذ الواقعية فيما جرى في الماضي من قبل كل الفئات وكيفية تصحيحها والاعتذار والتعويض عنها وما شابه، ويقوم كل طرف بطمأنة الآخرين فيما يتعلق بمخاوفهم من مواقفه المستقبلية، كما يتم الاتفاق على التطلعات التي تكون محقة وواقعية وكيفية تحقيقها. وفي حال كان الحوار ناجحاً فمن شأنه أن يساهم ليس فقط في التعايش والوحدة الوطنية بل أيضاً في تعزيز بناء دولة المؤسسات؛ وفي حال وجود أزمة توترات أمنية فمن شأنه أيضاً أن يساهم في إيجاد الحلّ لهذه الأزمة أو في تمتين الحلّ القائم في حال التوافق مع ما يوجد في بنوده...   
     مثلاً، الحوار بين الطوائف في لبنان يفترَض أن يقوم، أساساً، على أن يعرض ممثلو المسيحيين مآخذهم على ما يرونه تجاوزات من قبل قسم من المسلمين بحقهم في زمن السلطنة العثمانية، ومخاوفهم من أن تتكرر بأشكال أخرى في زمن الأصوليات المتطرفة، وأيضاً أن يعرضوا تطلعاتهم في أن لا يتعامل معهم المسلمون كأقلية أو كجسم غريب داخل العالم العربي أو كأدوات للسياسات الغربية وغيره... في المقابل يعرض ممثلو المسلمين مآخذهم على ما يرونه استقواء من قبل قسم من المسيحيين بالأوروبيين والغربيين في زمن الانتداب ومن تعامل من قبلهم بشكل فوقي أو انعزالي تجاههم ومن إصرار إحدى الفئات المسيحية على التمسك الجائر بالامتيازات السياسية، ومخاوفهم من أن تحاول هذه الفئة مستقبلاً الاستقواء مجدداً بالغربيين أو تسعى لإقامة كانتون أو دويلة مسيحية تكون تحت المظلة الغربية، وما إلى ذلك...
     وبعد الدراسات العلمية والموضوعية لكل هذه الطروحات يتم تحديد المآخذ الواقعية التي حصلت في الماضي من قبل كلا الطرفين وكيفية تصحيحها والاعتذار والتعويض عنها، وتحديد المخاوف التي تتطلب الإشارة إليها والطمأنة بخصوصها، وتحديد التطلعات التي تتطلب التعهد بالالتزام بها... وفي حال النجاح في التنفيذ فإن هذا سيساهم ليس فقط في تمتين التعايش والوحدة الوطنية بل أيضاً في إيجاد الحلّ للأزمة اللبنانية أو تمتينه في حال كانت بنوده متوافقة مع نتائج هذا الحوار...
     بحسب هذا المبدأ يكون الحوار بين الأديان في أي بلد، ولا يكون عبر إيجاد قواسم مشتركة بين الأديان ثم الانطلاق منها للحوار. فهذا الأمر وعدا عن كونه غير فاعل أو مجدٍ في هذا السياق، فمن شأنه أيضاً أن يحدث تشويهاً في الرؤية عند المؤمنين نحو اعتبار أنه لا فرق في الإيمان والتدين بين هذا الدين وذاك وأنهما يؤديان إلى نفس النتيجة.    
     هكذا نكون قد انتهينا من عرض التبريرات التي تُقدَّم في سياق محاولات التوفيق بين المسيحية والإسلام وإظهارهما كأنهما وجهان لعملة واحدة، وأظهرنا الخطأ فيها من حيث عدم منطقيتها وتعارضها مع ما هو أساسيات في الأرثوذكسية.
    
3 -
أ - قلنا إن الأرثوذكسيين الأنطاكيين، الإكليروس منهم والعلمانيين المعنيين بالإعلام والتربية الدينيين؛ هم بأكثريتهم ملتزمون بالموقف الأرثوذكسي الصحيح من الإسلام من حيث عدم الاعتراف بنبوة محمد وبإنزال القرآن، ومع وجود أقلية فيهم تحاول التوفيق بين المسيحية والإسلام وإظهارهما كأنهما وجهان لعملة واحدة. المراقِب لهذا الوضع لن يصعب عليه إدراك أن الفئة الأولى مقصِّرة كثيراً في الإعلام والوعظ الدينيين المتعلقين بالتنبيه إلى الموقف الأرثوذكسي الصحيح من الإسلام وإلى الخطأ في مواقف هذه الفئة الثانية.
     إي إنه المفترَض بتلك الفئة الأولى أن يكون لديها تحرك إعلامي ووعظي ناشط لتوضيح ما يلي:
- أن الأرثوذكسية لا تعترف لا بنبوة محمد ولا بإنزال القرآن.
- أن الأرثوذكسية تدعو أبناءها إلى: الانفتاح إلى المنتمين إلى جميع الديانات، المسلمين منهم وغيرهم، والتعايش معهم، وإلى عدم التفريق في التعامل في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين مَن هم أرثوذكسيين وغيرهم، أي إلى رفض أي شكل من التعامل العدائي أو العنصري أو الفوقي أو التهميشي أو الانعزالي تجاه مَن هم غير أرثوذكسيين، وإلى التعاطف والتضامن مع قضاياهم المحقة والصلاة من أجلهم.
- أنه من الخطأ حضور المسلمين للخدم الكنسية لاعتبارات اجتماعية أو سياسية.
- أن الأرثوذكسيات اللواتي يتزوجن من مسلمين يصبحن خارجات عن الأرثوذكسية.    
     أيضاً، وكما ذكرنا في المقالة الأولى، المفترَض التنبيه إلى الخطأ في مواقف تلك الفئة من الأرثوذكسيين في محاولاتها للتوفيق بين المسيحية والإسلام، وخاصة عندما تتضمن اعترافاً غير مباشر بنبوة محمد كونها في هذه الحالة تصبح بمثابة هرطقة. 
ب - حول هذه الفئة الأخير التي قلنا عن موقفها من الإسلام إنه يصح وصفه بالهرطقة، من المهم التنبيه إلى أن أفرادها لا يتحملون لوحدهم مسؤولية ما صدر عنهم، فكل مَن سكت عن خطئهم، إن كان من الإكليروس أم غيرهم، يتحمل بدوره مسؤولية عن هذا الخطأ وإن بمقدار أقل.
     هذا من منطلق أن الأرثوذكسية تشدد كثيراً على أهمية سَعي الفرد لخلاص غيره تماماً كما سَعيه لخلاص نفسه، فمن البديهي أن يكون من واجبه عند رؤيته خطأً كبيراً في المجال الديني التنبيه إليه. بالتالي، لما كان هناك حالة تقصير كبيرة في التنبيه إلى الموقف الأرثوذكسي الصحيح من الإسلام وعن الأخطاء التي صدرت عن تلك الفئة من الأرثوذكسيين في هذا المجال؛ وأيضاً لما كان هناك حالة ملحوظة من الفتور الديني، أي قلة التدين، في الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية عامة (بالرغم من النهضة الدينية التي ابتدأت منذ التسعينات والتي لا تزال خجولة) والتي بحد ذاتها تلجم حركة التربية والإعلام الدينيين في جميع المواضيع؛ فلا يصح أن يتحمل أصحاب ذلك الموقف الخاطئ من الإسلام لوحدهم المسؤولية وأن يتم التعامل معهم وكــأنهم هراطقة... لكن بالطبع يبقى من الضروري تنبيههم إلى خطئهم من ضمن التحرك الإعلامي والوعظي المطلوب لتوضيح الموقف من الإسلام كما هو مبيَّن أعلاه... وفي المستقبل وفي حال استمرارهم على موقفهم عندئذ لا يبقى إلا يتم التعامل معهم كهراطقة.    
ج - اعتماداً على ما تقدم لا يصح التعامل مع الأرثوذكسيات المتزوجات من مسلمين كمن خرجن عن الأرثوذكسية، أي منعهن من دخول الكنائس والمشاركة في الأسرار وغيرها، لأنهن لسن مذنبات بل هن ضحية حالة الفتور الديني السائدة والتقصير في توضيح الموقف الأرثوذكسي الصحيح من الإسلام كما أظهرنا أعلاه.
     أي إنه في المستقبل وبعد أن يكون هناك تحرك جيد في الإعلام والوعظ الدينيين لتوضيح الموقف الأرثوذكسي من الإسلام، والذي من ضمنه التوضيح بشأن أن التي تتزوج من مسلم تكون قد خرجت عن دينها، وأيضاً لتوضيح الخطأ في مواقف تلك الفئة في محاولاتها للتوفيق بين المسيحية والإسلام وإظهارهما كأنهما وجهان لعملة واحدة؛ بعد ذلك يصح التعامل مع التي تتزوج من مسلم بهذا الشكل.

4 - كنا قد تحدثنا في المقالة الأولى عن أهمية نقل البشارة إلى مَن هم غير أرثوذكسيين، وتحدثنا أعلاه عن أهمية الشهادة للمسيح في الأرثوذكسية؛ لا بد في هاتين النقطتين من توضيح ما يلي:
أ - يعتبِر الأرثوذكسيون أنفسَهم أنهم المؤتمنون على الجوهرة التي لا تثمَّن في هذا الوجود، والتي هي الإيمان الأرثوذكسي المسلَّم من الرسل والذي أسسه السيد المسيح في تجسده وصلبه وقيامته، والذي يتيح للإنسان أن يتقدس بالنعمة الإلهية غير المخلوقة التي يحصل عليها من خلال مشاركته في الأسرار الكنسية.
     هذا التقدس، والذي هو في الواقع "تأله بالنعمة الإلهية غير المخلوقة" بحسب الأرثوذكسية أي اتحاد الإنسان بالطبيعة الإلهية، هو أيضاً تغيير في كيان الإنسان، أي في سلوكه وتفكيره وشعوره، نحو أبعاد إيجابية لا يحققها أي مذهب ديني أو فكري آخر في التاريخ.
     فالمسيحية الأرثوذكسية: تتوافق مع مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والأخلاق البيئية، وتتيح للإنسان التغيير الإيجابي في هذا العالم من خلال أفكاره ومبادراته ومشاريعه، وتتوافق مع طبيعة نفسيته من حيث تغييرها إلى الأفضل، وتتيح له التغلب على مخاوفه وضعفاته وخطاياه، وتؤمِّن السعادة له، وتفتح المجال أمامه للتغيير نحو الشخصية الفاعلة والبنَّاءة والإيجابية، وتظهِر رفعة قيمته... أكثر من أي مذهب ديني أو فكري آخر في التاريخ. أيضاً هي أكثر مذهب ديني في التاريخ يتوافق مع المنطق في المجال الديني، أي مع مسائل: الألوهة ومقاصد الإله من الخليقة والقيم الأخلاقية والإنسانية وحل مشاكل الإنسان وغيرها، أي إن الأرثوذكسية هي الدين الصحيح في الوجود. (سيكون لي في الأسابيع والأشهر القادمة مقالات لتوضيح هذه النقاط أعلاه).
     بالتالي، الأرثوذكسي غير المقتنِع بأن الأرثوذكسية هي هذه الجوهرة التي لا تثمَّن أو في حال اعتبَر نفسَه أنه غير مؤهَّل ليكون من ضمن المؤتمنين عليها، سيكون عنده الاستعداد للقيام بمحاولات للتوفيق بين المسيحية والإسلام، أو غيره من الديانات، ولإظهارهما كأنهما وجهان لعملة واحدة، ولن يكون عنده الاستعداد للشهادة للمسيح، كما ستقلّ عنده الرغبةُ في نقل البشارة إلى مَن هم غير أرثوذكسيين.
     والعكس صحيح، أي إن الأرثوذكسي المقتنِع بأن الأرثوذكسية هي هذه الجوهرة التي لا تثمَّن والذي يَعتبِر نفسَه أنه من ضمن المؤتمنين عليها، فهو لن يفرِّط بها من خلال محاولات للتوفيق بين المسيحية والإسلام، أو غيره، لإظهارهما وكأنهما وجهان لعملة واحدة، وسيكون عنده الاستعداد للشهادة لهذه الجوهرة والتضحية بالغالي والرخيص لأجلها، والرغبة في نقل البشارة بها إلى مَن هم أرثوذكسيين بدءًا من الكاثوليك والبروتستانت وصولاً إلى المسلمين وغيرهم...
     وهو في قيامه بهذا الأمر الأخير، أي عندما يقول لمن هم غير أرثوذكسيين: "إن المسيحية الأرثوذكسية هي الدين الصحيح في الوجود"، فإنه لا يقول هذا الأمر من منطلق التباهي أو الاستعلاء بل من منطلق المحبة لهم ( "تحبُّ قريبَك كنفسك" متى 22: 39) ولكي يتمتعوا هم بدورهم بتلك الجوهرة التي لا تثمَّن تماماً كتمتعه بها. 
ب - عادة عندما يصرّح الأرثوذكسي بأن الأرثوذكسية هي الدين الصحيح في الوجود، تكون التهمة جاهزة من قبل الكاثوليك والبروتستانت والمسلمين وغيرهم وحتى من قبل الأرثوذكسيين القليلي أو غير الراسخين في الإيمان والتدين، ليتهموه بأنه يقول هذا الأمر من منطلق العصبية الطائفية أو الأصولية المتطرفة. وفي حال كان ذلك الأرثوذكسي مقيماً في بلد يوجد فيه النزعة القومية كمثل اليونان وروسيا فإنه يُتهَم أيضاً بأنه يقول ذلك الكلام من منطلق العصبية القومية - الدينية.    
     إلا أنه في واقع الأمر، الأرثوذكسيون في تصريحهم بأن الأرثوذكسية هي الدين الصحيح في الوجود، هم أبعد الناس عن العصبية الطائفية والأصولية المتطرفة والعصبية القومية - الدينية؛ كما سيتبين لنا فيما يلي:
     عندما يصرِّح أيُّ مؤمِن منتمٍ إلى أي مذهب ديني بأن مذهبه الديني هو الدين الصحيح في الوجود، وفي نفس الوقت يعطي الحق لنفسه بممارسة ضغوطات على المنتمين إلى المذاهب الدينية الأخرى لحملهم على الانتساب إلى مذهبه، أو التعامل معهم في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكل مختلف عن تعامله مع أبناء مذهبه، أي التعامل معهم بشكل عدائي أو عنصري أو فوقي أو تهميشي أو انعزالي، أو يعطي الحق لنفسه بممارسة ضغوطات على المنتمين إلى مذهبه الديني لمنعهم من مغادرته أو لإلزامه بزيادة تدينهم؛ عندئذ يصح وصف موقفه بالعصبية الطائفية أو الأصولية المتطرفة أو العصبية القومية - الدينية.
     أما عندما يصرِّح بأن مذهبه الديني هو الدين الصحيح في الوجود، وفي نفس الوقت لا يحاول ممارسة أية ضغوطات على المنتمين إلى المذاهب الدينية الأخرى لحملهم على الانتساب إلى مذهبه، أو التعامل معهم في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكل مختلف عن تعامله مع أبناء مذهبه، أي لا يحاول التعامل معهم بشكل عدائي أو عنصري أو فوقي أو تهميشي أو انعزالي، وأيضاً لا يعطي الحق لنفسه بممارسة ضغوطات على المنتمين إلى مذهبه الديني لمنعهم من مغادرته أو لإلزامه بزيادة تدينهم؛ وهذا هو ما تدعو إليه الأرثوذكسية؛ عندئذ لا يصح وصف موقفه بالعصبية الطائفية أو الأصولية المتطرفة أو العصبية القومية - الدينية؛ بل يصح وصفه بأنه أحد أرقى أشكال الديمقراطية والاحترام لحقوق الإنسان.      
     الكلام لا ينتهي هنا.
     في الأرثوذكسية هناك تشديد كبير على ما يُعرَف بمحاربة الأهواء، والمقصود بها أن المطلوب من المؤمن ليس فقط أن لا يقوم بالشر بالفعل والقول، بل أيضاً أن يبقى بحالة يقظة دائمة ومراقبة للأفكار أو المشاعر الشريرة (أي الأهواء) لكي يقوم بتقزيمها وإبعادها والتوبة عنها ما أن تخطر بباله، في مسيرة تستمر حتى لآخر لحظات حياته ("من القلب تخرج أفكار شريرة... هذه هي التي تنجّس الإنسان" متى 15: 19 - 20). مثلاً حول "كل من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه" (متى 5: 28) تعني أنه ليس فقط المطلوب من المؤمن أن لا يقوم بالزنا، بالفعل والقول، بل أيضاً أن يبقى بحالة يقظة ومراقبة لأفكار أو مشاعر الزنا التي في حال خطرت بباله أن لا يتفاعل معها في خيالات أو أحلام يقظة بل أن يقوم بتقزيمها أو طردها والتوبة عنها. إضافة، وفي حال النجاح في هذه المسيرة، وإذا خطرت بباله أفكار أو مشاعر من نوع أنه قد أصبح مبرراً أو قديساً أكثر من غيره، فالمطلوب منه هنا أيضاً أن يرفض هذه الأفكار أو المشاعر ويتوب عنها في مسيرة من التواضع تستمر بدورها طيلة حياته؛ (انظر مثل الفريسي والعشار، لوقا 18: 9 - 14).     
     بالعودة إلى الموقف الأرثوذكسي من اتباع باقي المذاهب الدينية فيكون المطلوب من المؤمن ليس فقط أن يمتنع، بالفعل والقول، عن ممارسة أية ضغوطات على هؤلاء لإلزامهم تغيير دينهم، وعن أي التعامل معهم بشكل عدائي أو عنصري أو فوقي أو تهميشي أو انعزالي؛ بل عليه أيضاً أن يبقى في حالة يقظة ومراقبة لأي تفكير أو شعور في هذا الإطار نحو هؤلاء لكي يقوم بتقزيمه وطرده والتوبة عنه ما أن يخطر بباله. والأمر نفسه في تعامله مع اتباع مذهبه الديني فيما يتعلق بعدم ممارسة أية ضغوطات عليهم لإلزامهم البقاء على مذهبهم أو زيادة تدينهم. إضافة وفي حال نجاحه في هذه المسيرة وإذا خطرت بباله أفكار أو مشاعر من نوع أنه قد أصبح مبرراً أو قديساً أكثر من غيره، فالمطلوب منه هنا أيضاً أن يرفض هذه الأفكار أو المشاعر ويتوب عنها في مسيرة من التواضع تستمر طيلة حياته...
     بالتالي، عندما تصل الأمور إلى هذه المستويات، فلا يعود يصح التحدث عن أحد أرقى أشكال الديمقراطية، بل ما تصبح عليه الأرثوذكسية في الواقع هو أنها أكثر مذهب ديني أو فكري في التاريخ يتوافق مع مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
     وكما أشرنا في المقالة الأولى، أنه إذا كان هناك أرثوذكسيون في مناطق مختلفة من العالم لا يتصرفون بهذا الشكل فهذا أمر طبيعي لأنه في كل دِين يوجد فرق بين النص والتطبيق، ومن البديهي أن لا يكون جميعُ المنتمين إلى أي دِين قديسِين ويطبقون نصوصَه، أو مبادئه، كما هي. فالنصوص الدينية، أو المبادئ، هي المثال الذي يُفترَض بالمؤمنين في أي دِين أن يسعوا إليه.         

حول المقالة الأولى انظر "الأرثوذكسية والموقف من الإسلام والمسلمين (2\1)":


عامر سمعان ، باحث وكاتب

25/ 3/ 2014 ، تم آخر تنقيح لهذه المقالة في 11/ 4/ 2014 

الأرثوذكسية والموقف من الإسلام والمسلمين (1\2)


     سنتناول ضمن مقالتين موقف المسيحية الأرثوذكسية من الدين الإسلامي ومن المسلمين، ثم مختلف مواقف الأرثوذكسيين الأنطاكيين من هذا الدين. وسنوضح كيف أن قسماً من هؤلاء (من رجال دين وعلمانيين) لديهم مواقف من هذا الدين تتعارض مع الموقف الأرثوذكسي الصحيح منه وأن منها ما يصل إلى حد كونه هرطقة.     

1 - الموقف الأرثوذكسي من الإسلام.
     موقف المسيحية الأرثوذكسية من الدين الإسلامي هو أنه لا اعتراف لا بنبوة محمد ولا بإنزال القرآن؛ أي إن محمداً هو ليس من أنبياء الله، وإن القرآن ليس مصدره الله، وإن السِيرة والأحاديث، أي مواقف وسلوك محمد في حياته وتصريحاته، ليستا من وحي الله.
     لكي تعترف الأرثوذكسية بأية نبوة لا بد من توفر شرطين أساسيين؛ الأول، هو أن يكون مسلكُ من يدَّعي النبوة مسلكَ الأنبياء، أي مسلكَ القداسة؛ الثاني، هو أن يكون مضمون نبوته متوافقاً تماماً مع العقائد والتعاليم الأرثوذكسية.
     فيما يتعلق بمسلك محمد، لا يمكن القول عنه إنه، بالمفاهيم المسيحية، مسلك الأنبياء، أقلّه لسبب زواجه باثنتي عشرة امرأة؛ قد يكون هذا المسلك مقبولاً في مفاهيم الإسلام أو غيره من الديانات لكن ليس في المفاهيم المسيحية.
   وفيما يتعلق بمضمون النبوة، يوجد تعارض فاضح بين ما هو وارد في الإسلام وما هو وارد في الأرثوذكسية. ففي الإسلام لا يوجد اعتراف بأي من: عقيدة التثليث، ألوهية المسيح، صلب المسيح وقيامته، النعمة الإلهية غير المخلوقة الفاعلة في الكون المخلوق، تأله الإنسان بالنعمة المؤلهة غير المخلوقة التي ينالها من خلال مشاركته في الأسرار الكنسية، الإكليروس المخولين إقامة هذه الأسرار، حياة الرهبنة، وغيره...
     أيضاً في الإسلام يجوز نشر الدين بالقوة العسكرية، في حين أن الأرثوذكسية ترفض مطلقاً نشر الدين بالقوة العسكرية أو بغيرها من أشكال الترهيب والترغيب والتي منها نشره تحت مظلة الاستعمار (كما فعل قسم من الكاثوليك والبروتستانت). وفي الإسلام يجوز تعدد الزوجات، في حين أن الأرثوذكسية تمنع الارتباط بأكثر من زوجة واحدة. وفي الإسلام يوجد ملذات جسدية في الجنة تقوم على مضاجعة الرجل لزوجاته المخلَّصات ولعدد كبير من الحوريات وعلى الأكل والشرب وغيره، في حين أنه في الأرثوذكسية يتمتع المخلَّصون في الجنة بالمشاركة في المجد الإلهي غير المخلوق حيث ستشع النعمةُ الإلهية غير المخلوقة من داخل أجسادهم ومن الطبيعة الجديدة المحيطة بهم (كما كان الحال في تجلي المسيح، متى 17: 1 - 8) وحيث لا وجود للملذات الجسدية، بل إن هذه النعمة هي التي ستمنح الإنسان أقصى درجات السعادة والمعرفة والحكمة وغيره... 
     أيضاً يدعو الإسلام إلى إقامة الدولة الدينية التي يكون فيها المسلمون مواطنين درجة أولى، ثم يكون فيها المسيحيون واليهود مواطنين درجة ثانية (أهل الذمة)، ثم يكون أتباع باقي الديانات والملحدون في مراتب أدنى؛ في حين أنه في الأرثوذكسية لا وجود لدولة دينية ولا وجود لأي فرق بين الأرثوذكسيين وغيرهم في المعاملات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويوجد في الإسلام شريعةٌ تحدد الكثيرَ من المسائل الدنيوية للفرد والمجتمع، في حين أنه في الأرثوذكسية لا وجود لهكذا شريعة ويُترَك تدبير المسائل الدنيوية بما يتناسب مع الظروف الخاصة لأي فرد ولأي مجتمع.       
     أيضاً يوجد تناقض كبير بين المرويات الواردة في القرآن وتلك الواردة في الإنجيل. ومن وجهة النظر الإسلامية فإن الإنجيل الموجود عند المسيحيين هو مزوَّر وإن الإنجيل الحقيقي الذي يُخبِر بصدق عن حياة وتعاليم السيد المسيح قد فُقِد.
     وغير ذلك....    
     لكل هذه الأسباب لا يوجد في الأرثوذكسية اعتراف بنبوة محمد وبإنزال القرآن.

2 - الموقف الأرثوذكسي من المسلمين.
     موقف المسيحية الأرثوذكسية من المسلمين هو نفسه الموقف من اتباع أي مذهب ديني آخر؛ أي إنه الموقف نفسه من اتباع اليهودية والبوذية والهندوسية والزرادشتية وما يُعرَف بالأديان الوثنية والإرواحية وغيرها، وهو نفسه الموقف من المنتمين إلى المذاهب الأخرى في المسيحية أي الكاثوليكية والبروتستانتية والمذاهب المنشقة عنها كشهود يهوه والسبتيين وغيرهم، هو نفسه الموقف من الملحدين؛ فكل هؤلاء هم "خراف ضالة" ينبغي نقل البشارة إليهم فإذا قبلوها وأصبحوا أرثوذكسيين فهم أحرار وإن لم يقبلوها فهم أيضاً أحرار؛ ومع الحرص على عدم ممارسة أي شكل من أشكال الضغوطات عليهم ومن وسائل التهديد والترغيب لكي يصبحوا أرثوذكسيين.
     مع التنبيه إلى أن المقصود أعلاه بالمنتمين إلى الدِين اليهودي، هم اليهود غير الصهاينة وليس اليهود الصهاينة. فاليهود في أماكن كثيرة من العالم هم من ضمن فئتين: الأولى، هم اليهود الصهاينة الذين يعترفون بالدولة الإسرائيلية ويقدمون لها كافة أشكال الدعم؛ والثانية هم اليهود غير الصهاينة الذين يعتبِرون هذه الدولة كياناً مغتصباً ويحاربونها بأية وسائل متوفرة لديهم... فهذه الفئة الثانية هي المقصودة أعلاه من حيث موقف المسيحية الأرثوذكسي من اليهود. أما الفئة الأولى، فالموقف منها هو المحاربة لها بالوسائل المشروعة إلى أن يتم إيجاد حلّ عادل للقضية الفلسطينية، على أن لا يتم استخدام هذه المحاربة كوسيلة ضغط لإلزام أفرادها بتغيير دينهم. تماماً كما هو الموقف من كل الذين يدعمون المشروع الصهيوني في المنطقة، سواء أكانوا مسيحيين أم مسلمين أم غيرهم. تماماً كما هو الموقف من أية فئة في العالم تقوم أو تساهم بما هو شر مستفحل في أي مجال من المجالات؛ أي المحاربة لها بالوسائل المشروعة دفاعاً عما هو حق وعدل، وعلى أن لا يتم استخدام هذه المحاربة كوسيلة ضغط لإلزام أفرادها بتغيير دينهم.     
     ومما يترتب أيضاً على ذلك الموقف الأرثوذكسي من كل تلك "الخراف الضالة" هو ضرورة عدم وجود أي فرق في التعامل في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين مَن هم أرثوذكسيين وغيرهم، أي ضرورة عدم جواز أي شكل من التعامل العدائي أو العنصري أو الفوقي أو التهميشي أو الانعزالي تجاه مَن هم غير أرثوذكسيين؛ وهذا من ضمنه عدم جواز القول بأن دِين الدولة هو الأرثوذكسية في الدول التي يوجد فيها أغلبية أرثوذكسية.
     أيضاً مما يترتب على هذا الموقف الأرثوذكسي هو إلزامية التضامن والتعاطف مع القضايا المحقة لمن هم غير أرثوذكسيين وتقديم أية مساعدة ممكنة في هذا المجال، تماماً كما يتم التضامن والتعاطف مع قضايا الأرثوذكسيين المحقة. مثلاً، حول قضايا المسلمين، من البديهي أن يتم التضامن مع القضية الفلسطينية واعتبار الكيان الصهيوني كياناً مغتصباً والقيام بكل محاربة ممكنة ضد مَن يدعمون هذا الكيان خاصة منهم المسيحيين الغربيين؛ كما أشرنا أعلاه...
     أيضاً مما يترتب عليه هو ضرورة الصلاة من أجل كل هؤلاء "الخراف الضالة"، الأحياء منهم والأموات، لكي يشملهم الله برحمته...     
     المسيحية الأرثوذكسية، وبموجب ما فيها من عقائد وتعاليم، هي أكثر مذهب ديني، أو فكري، في التاريخ يتوافق مع مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان (أي التعامل مع الآخرين من منطلق الحرية والأخوة والمساواة)؛ فما هو وارد أعلاه عن مبادئ التعامل مع مَن هم غير أرثوذكسيين هو من هذا المنطلَق.
     وبالطبع هناك قسم غير قليل من الأرثوذكسيين وفي مختلف مناطق العالم، لا يتعامل المنتمون إليه وفق ما هو وارد أعلاه تجاه مَن هم غير أرثوذكسيين... وهذا أمر طبيعي لأنه في كل دِين يوجد فرق بين النص والتطبيق، ومن البديهي أن لا يكون جميعُ المنتمين إلى أي دِين قديسِين ويطبقون نصوصَه، أو مبادئه، كما هي. فالنصوص الدينية، أو المبادئ، هي المثال الذي يُفترَض بالمؤمنين في أي دِين أن يسعوا إليه.
     
3 - مواقف الأرثوذكسيين الأنطاكيين من الإسلام.
أ - حول مواقف الإكليروس، والعلمانيين الأرثوذكسيين المعنيين بالتربية والإعلام الدينيين؛ من الإسلام.  
     موقف معظم هؤلاء من الإسلام يتوافق مع ما هو وارد أعلاه، أي من حيث عدم الاعتراف بنبوة محمد وبإنزال القرآن، ومن حيث عدم إغفال أهمية الاختلافات بين الديانتين.
     لكن كان ولا يزال يوجد قسم قليل منهم يصدر عنه كتاباتٌ وتصريحاتٌ تتعارض مع ما هو وارد أعلاه وتحاول التوفيق بين الديانتين المسيحية والإسلامية وإظهارهما كأنهما وجهان لعملة واحدة، من خلال اتجاهين أساسيين؛ سنتناول أدناه كل من هذين الاتجاهين ونحاول الرد عليه:
- الاتجاه الأول، هو الاعتراف بنبوة محمد بشكل غير مباشر، كمثل القول "بأن مسلكه هو مسلك الأنبياء"، أو كمثل: "يُعترَف لهذا الرجل بكونه رجلاً كريماً مستقيماً صالحاً، وإنه لم يخترع هذا "الأمر" (أي مضمون نبوته) اختراعاً، وإنه قد تعرض لظواهر شبيهة للظواهر التي حصلت لأنبياء بني إسرائيل"...
     وفي نفس الوقت القول بوجود اعتراف باطني أو غير مباشر بألوهية المسيح في القرآن؛ كمثل من خلال القول بأن الآيات القرآنية التي تعترف بألوهية المسيح قد تم حذفها أو التلاعب بها، أو من خلال محاولة تفسير بعض الآيات القرآنية بشكل باطني تشير فيه إلى ألوهية المسيح وصلبه وقيامته، أو من خلال القول بأن عيسى الوارد ذكره في القرآن هو ليس المسيح وأن ما هو وارد في القرآن عن عقيدة التثليث وألوهية الابن والتجسد والصلب ليس المقصود بها ما هو في المسيحية الصحيحة بل إحدى البدع التي كانت يومها في الجزيرة العربية...
     لزيادة التوضيح، القول بنبوة محمد بشكل مباشر أو غير مباشر يعني أن مضمون نبوته هو صحيح وأن القرآن منزل من الله. والقول بأن ما تطرق إليه القرآن عن عيسى والتثليث وغيره يتناول إحدى البدع التي كانت في الجزيرة وليس ما هو في المسيحية الصحيحة يعني اعترافاً غير مباشر في القرآن بألوهية المسيح والتثليث وغيره كما هي في المسيحية الصحيحة. وهذا يعود إلى أن المسيحية هي أحد الأديان الإبراهيمية (في المنظور الإسلامي) إلى جانب اليهودية والإسلام، وإلى أن مسألة ألوهية المسيح هي المسألة الأكثر الأهمية عند المسيحيين؛ بالتالي، لا يمكن للإسلام أن يتجاهل ببساطة هذه المسألة، بل لا بد له إلى أن يتطرق إليها إما بالموافقة أو الرفض؛ بالتالي، القول إنه قد رفضها كما هي عند إحدى البدع التي كانت في الجزيرة، ونقطة على السطر؛ هذا يعني بديهياً أنه يوافق عليها كما هي في المسيحية الحقيقية. 
الرد على هذا الشكل في التوفيق:
- أولاً، من وجهة نظر الدراسات الدينية، أي العلمية، القول باعتراف باطني أو غير مباشر بألوهية المسيح في القرآن هو خطأ كلي ويتعارض مع أبسط قواعد المنطق ومع أية منهجية صحيحة في الدراسات الدينية. السبب هو أن تفسير الآيات الدينية في القرآن أو الإنجيل أو أي كتاب ديني آخر المفترَض أن يتم بشكل يتوافق مع السياق العام وليس بمعزل عنه. لأنه عندما يتم التفسير بمعزل عنه فيكون بالإمكان توليد عدد لا نهائي من الأديان انطلاقاً من الكتاب الديني الواحد. والسياق العام في الإسلام لا يتوافق إطلاقاً مع فكرة إلوهية المسيح، ولو كان الأمر هكذا لكان من المفترَض أن تصبَّ معظم الآيات القرآنية ومعظم ما هو في الأحاديث والسِيرة، وبشكل علني وواضح، في هذه الفكرة الجوهرية والمحورية والبالغة الأهمية؛ وهذا الأمر، بالطبع، لا وجود له... فما يصح القول عن هذا الطرح إنه من وجهة النظر العلمية ليس سوى سخافة و"ضحك على الذقون".
- ثانياً، حول وجهة النظر الدينية العامة. عندما يتم التوفيق بين الديانتين المسيحية والإسلامية، أو أي مذهبين دينيين آخرين، وإظهارهم كأنهما وجهان لعملة واحدة؛ فما يعنيه هذا هو أن الإيمان والتدين عبر أي واحد منهما هما نفسهما عبر الآخر، ويؤديان إلى نفس الهدف والنتيجة. "كل الطرق تؤدي إلى الطاحون".
     من وجهة النظر الدينية العامة، مبدأ "كل الطرق تؤدي إلى الطاحون"، هو مرفوض تماماً؛ كونه المطلوب من الحياة الدينية أن تحدث تغييراً جذرياً في حياة الإنسان (في فروض التدين والعلاقة مع الإله ومع الذات ومع الآخرين ومع العالم المخلوق) وليس أن تحدث تغييراً سطحياً.
     الأفراد الذين يسخِّفون ويقزِّمون العاملَ الديني في حياتهم، هؤلاء بإمكانهم أن يتبِّعوا مبدأ "كل الطرق تؤدي إلى الطاحون" وأن لا تفرق معهم كثيراً في حال كانوا منتمين إلى دين ما أو آخر. أما الذين هم متدينون بالشكل الجيد فلا يستطيعون الأخذ بهذا المبدأ.
     الأمر هو كمثل مَن يسخِّف ويقزِّم المبادئ السياسية في حياته، فلن تفرق معه إذا انتسب إلى حزب سياسي ما أو غيره. أما الذي تلعب هذه المبادئ دوراً أساسياً في حياته فلا يمكنه التنقل بسهولة من حزب إلى الآخر.
     أي إنه في الحياة الدينية العامة، ليس هناك شيء اسمه التوفيق بين مذهبين دينيين أو أكثر، بل يكون هناك إما دينيين مختلفين وإما دين واحد.  
- ثالثاً، من وجهة نظر المسيحية الأرثوذكسية، هذا الشكل في التوفيق بين المسيحية والإسلام، والذي يُظهِر أنه لا فرق في الإيمان والتدين عبر أي منهما، هو مرفوض كلياً كونه يؤدي أو يساهم فيما يلي:
أ ) تشجيع غير مباشر للأرثوذكسيين لكي يتركوا مذهبهم وينتسبوا إلى الإسلام، ولكي تتزوج الأرثوذكسيات من مسلمين؛ من منطلق أنه لا فرق في الإيمان والتدين عبر أي من المسيحية والإسلام وأن كل منهما يؤدي إلى نفس الهدف والنتيجة.
ب ) تشجيع غير مباشر للأرثوذكسيين لأن يكون عندهم اعتراف ضمني أو غير مباشر بألوهية المسيح مع باقي العقائد والتعاليم المرتبطة بها؛ من منطلق أنه لا ضرر في وجود اعتراف ضمني أو غير مباشر بألوهية المسيح في القرآن (والذي هو منزل من الله حسب ما يُفهَم من هذا التوفيق)... في حين أن الأرثوذكسية تشدد على أن الاعتراف بهذه الأمور يجب أن يكون علنياً وصريحاً ومباشراً و"على راس السطح"...
ج ) الاستخفاف الكبير بالنعمة الإلهية غير المخلوقة التي يحصل عليها الإنسان من خلال مشاركته في الأسرار الكنسية في المسيحية والتغيير الجذري الذي سيطرأ على حياته نتيجة تقدسه بها وما سيناله من مشاركته في مجدها في الفردوس، وغير ذلك من التعاليم في المسيحية الأرثوذكسية؛ التي ستبدو وكأنها شكليات أو أحد أنواع الأدب أو الفن التي لا تقدِّم أو تؤخر في حال التزم المؤمن بها أو التزم بما هو في الشريعة الإسلامية.
د ) زيادة حالة الفتور الديني عند الأرثوذكسيين، أي زيادة قلة التدين والاهتمام بالشأن الديني، عندما سيرون أنه لا فرق في الالتزام بفروض التدين بين ما هو في المسيحية والإسلام.  
هـ ) تقليل أعداد الذين هم غير مسيحيين وعندهم إعجاب بالمسيحية وعلى استعداد لأن ينتسبوا إليها؛ عندما سيرون أنه لا فرق يذكر بين أن يكون المؤمنُ مسيحياً أم مسلماً.
     مع التنبيه إلى أن الأرثوذكسيين الأنطاكيين الذين يقومون بهذا الشكل من التوفيق بين المسيحية والإسلام ليس بالضرورة أن يكون قصدهم إظهار أنه لا فرق في الإيمان والتدين عبر أي منهما؛ لكن هذا الأمر سوف يُفهَم تلقائياً عند مجمل مَن سيطلعون على هذا التوفيق، وسواء أكانوا مسيحيين أم لا؛ وسيترتب عليه ما هو وارد أعلاه من ضرر على الكنيسة.
     ثم إن هذا التوفيق من شأنه أن يفتح المجال لعمليات توفيق أخرى بين الأرثوذكسية وغيرها من المذاهب المسيحية، أو بين المسيحية واليهودية، أو بين المسيحية وأديان أخرى؛ وأن يتم كل ذلك تحت شعار أنه يوجد في النصوص الدينية في تلك الأديان أو المذاهب اعترافٌ ضمني أو غير مباشر بألوهية المسيح أو غيرها من المسلمات التي في الأرثوذكسية؛ وسيترتب على ذلك اعتبار أنه لا فرق في الإيمان والتدين عبر الأرثوذكسية أو أي من تلك المذاهب أو الأديان مع كل ما هو وارد أعلاه...
     واعتماداً، فإن الطرح الوارد أعلاه حول التوفيق بين المسيحية والإسلام، والذي كان ولا يزال يتبناه قسم غير قليل من الأكليروس والعلمانيين الأرثوذكسيين في الكرسي الأنطاكي؛ يمكن أن يقال عنه إنه هرطقة. وبالتالي، المفترَض بالمجمع المقدس (مجمع الأساقفة الأرثوذكس) أن يقوم بتنبيه الرأي العام (الأرثوذكسي وغيره) إلى الخطأ الكبير في هذا الطرح، وأن يقوم بتوجيه تنبيه رسمي إلى مَن يروجون لهذا الطرح لتنبيههم إلى خطئهم، وأن يتخذ الإجراءات المناسبة بحقهم في حال استمروا عليه. حيث سيكون أول هذه الإجراءات عزل أي أسقف أو كاهن من هؤلاء عن منصبه وتجريده من كهنوته وغيره من الإجراءات في حال عدم تراجعه عن خطئه...
- الاتجاه الثاني، هو محاولة التركيز على القواسم المشتركة، أو التشابهات الكبيرة، بين الديانتين المسيحية والإسلام (كمثل فيما يتعلق: بعبادة الإله الواحد، والدعوة إلى القيام بالخير والابتعاد عن الشر، والإيمان بيوم القيامة، ووجود الجنة وجهنم، واللاهوت الصوفي المشترك بين الأرثوذكسية والتصوف الإسلامي...) وتضخيمها والمبالغة فيها، وفي نفس الوقت التقليل والتقزيم في الاختلافات الموجودة بينهما وحتى عدم التطرق إليها؛ للوصول إلى نتيجة أن ما يجمع بين الديانتين هو أكثر بكثير مما يفرّق أو ليتم الإيحاء بهذه النتيجة، أي ليتم إظهارهما كأنهما وجهان لعملة واحدة.
الرد على هذا الشكل في التوفيق:
- أولاً، من وجهة نظر الدراسات الدينية، أي العلمية، هذا الشكل في التوفيق بين الديانتين هو خطأ كلي؛ كون إجراء دراسة مقارنة بين مذهبين دينين يتطلب التركيز على القواسم المشتركة كما على الاختلافات. ومن الخطأ وغير الموضوعية التركيز على القواسم المشتركة وتقليل وتقزيم الاختلافات وحتى عدم التطرق إليها. فهذا النهج وعدا عن كونه خطأً علمياً، يصح وصفه "بالتضليل الإعلامي".
- ثانياً، من وجهة النظر الدينية العامة، هذا الشكل في التوفيق بين هاتين الديانتين وإظهارهما كأنهما وجهان لعملة واحدة يعني بدوره أن الإيمان والتدين هما نفسهما عبر أي منهما ويؤديان إلى نفس الهدف والنتيجة، وهذا خطأ للأسباب نفسها المبيَّنة أعلاه، أي المتعلقة بخطأ اعتماد مبدأ "كل الطرق تؤدي إلى الطاحون" في الحياة الدينية.
- ثالثاً، من وجهة النظر المسيحية الأرثوذكسية، وفي السياق نفسه الوارد أعلاه، فإن هذا الشكل في التوفيق بين هاتين الديانتين، والذي يُظهِر أنه لا فرق في الإيمان والتدين عبر أي منهما، هو بدوره مرفوض كلياً كونه يؤدي أو يساهم فيما يلي:
أ ) تشجيع غير مباشر للأرثوذكسيين لكي يتركوا مذهبهم وينتسبوا إلى الإسلام، ولكي تتزوج الأرثوذكسيات من مسلمين؛ من منطلق أن الإيمان والتدين هما نفسهما عبر أي من المسيحية والإسلام ويؤديان إلى نفس الهدف والنتيجة.
ب ) تشجيع غير مباشر للأرثوذكسيين لأن لا يكون عندهم اعتراف بألوهية المسيح مع باقي العقائد والتعاليم المرتبطة بها؛ من منطلق أنه لا يوجد اعتراف بهذه الأمور في القرآن (والذي هو منزل من الله حسب ما يُفهَم من هذا التوفيق)... 
ج ) الاستخفاف الكبير بالنعمة الإلهية غير المخلوقة التي يحصل عليها الإنسان من خلال مشاركته في الأسرار الكنسية، وغير ذلك من التعاليم في المسيحية الأرثوذكسية التي ستبدو وكأنها شكليات أو أحد أنواع الأدب أو الفن التي لا تقدِّم أو تؤخر في حال التزم المؤمن بها أو التزم بما هو في الشريعة الإسلامية.
د ) زيادة حالة الفتور الديني عند الأرثوذكسيين، عندما سيرون أنه لا فرق في الالتزام بفروض التدين بين ما هو في المسيحية والإسلام. 
هـ ) تقليل أعداد الذين هم غير مسيحيين وعندهم إعجاب بالمسيحية وعلى استعداد لأن ينتسبوا إليها، عندما سيرون أنه لا فرق يذكر بين أن يكون المؤمن مسيحياً أم مسلماً.
     أيضاً في السياق نفسه الوارد أعلاه يصح هنا القول بأن الأرثوذكسيين الأنطاكيين الذين يقومون بهذا الشكل من التوفيق بين المسيحية والإسلام ليس بالضرورة أن يكون قصدهم إظهار أنه لا فرق في الإيمان والتدين عبر أي منهما؛ لكن هذا الأمر سوف يُفهَم تلقائياً عند مجمل مَن سيطلعون على هذا التوفيق، وسواء أكانوا مسيحيين أم لا؛ وسيترتب عليه ما هو وارد أعلاه من ضرر على الكنيسة.
     وأيضاً يصح القول إن هذا الشكل في التوفيق من شأنه أن يفتح المجال لعمليات توفيق أخرى بين الأرثوذكسية وغيرها من مذاهب تعتمد نفس هذا النهج (أي التركيز على القواسم المشتركة وتضخيمها والمبالغة فيها، وفي نفس الوقت التقليل والتقزيم في الاختلافات وحتى عدم التطرق إليها)، مع ما سيترتب على ذلك من نتائج كما أشرنا أعلاه...
     لكن مع التنبيه إلى أنه هنا لا يصح القول إن هذا الشكل في التوفيق بين المسيحية والإسلام هو هرطقة أو ما شابه، طالما ليس هناك اعتراف مباشر أو غير مباشر بنبوة محمد. أي يبقى الاحتمال قائماً أن بعض مَن يعتمدونه يرتكبون مجرد خطأ منهجي في الدراسات الدينية... لكن يبقى من الضروري تنبيه الرأي العام إلى خطئه، وكذلك توجيه تنبيه إلى من يروجون له لإظهار الخطأ فيما يقومون به والضرر الذي يلحق بالكنيسة بسببه.
ب - حول مواقف المثقفين الأرثوذكسيين الأنطاكيين من الإسلام.
     ما نقصده هنا "بالمثقفين" هم حملة الشهادات الجامعية والباحثين والكتّاب والمفكرين والأدباء والفنانين، غير المعنيين بالتربية والإعلام الدينيين، والذين يتطرقون إلى الدِين الإسلامي ونبيِّه لدواعٍ بحثية أو سياسية أو فكرية أو بشكل عَرَضي؛ كما المقصود بهم هم الموجودين في لبنان وسوريا وليس في المغتربات. وما نقصده "بالمواقف" هي ما يعبرون عنه بشكل رسمي، كمثل من خلال كتاب أو مقالة أو في مقابلة أو تصريح عبر إحدى الوسائل الإعلامية. 
     مواقف هؤلاء من الإسلام هي الانقسام بين: الذين لا يتطرقون إليه، والذين يلتزمون بالموقف الأرثوذكسي منه من حيث عدم الاعتراف بنبوة محمد وبإنزال القرآن، والذين يحاولون التوفيق بين الديانتين وإظهارهما كأنهما وجهان لعملة واحدة.
     حول أشكال هذا التوفيق، منها ما هو من ضمن الاتجاهين الواردين أعلاه، ومنها ما هو من ضمن اتجاهات أخرى لا يتسع المجال لها هنا للتطرق إليها؛ لكن سنعود إليها بإذن الله مستقبلاً في مؤلفات أخرى.
     ما يهمنا هنا هو التطرق إلى مسألة بالغة الأهمية كثيراً ما يتم تجاهلها. وهي أن قسماً كبيراً من هؤلاء المثقفين وعند تطرقهم إلى ذِكر محمد، سواء في دراسات دينية تتناول الإسلام أم في دراسات مختلفة (سياسية أو تاريخية أو أدبية أو غيره)؛ فإنهم يذكرون اسمَه بإحدى هذه الأشكال: "النبي محمد" أو "الرسول محمد" أو "محمد (صلى الله عليه وسلّم)" أو "محمد (ص)". هذه التسميات، ومن وجهة نظر المسيحية الأرثوذكسية، هي خطأ كبير كونها تدل على اعتراف مباشر من قبل الكاتب بنبوة محمد وعلى خروج فاضح منه عن المسيحية.
     المفترَض أن تكون هذه التسميات من دون "أل التعريف" ومن دون ذكر صلاة الله عليه. أي كمثل أن يقال "نبي الإسلام محمد" أو "نبي المسلمين محمد" أو "رسول الإسلام أو المسلمين محمد" أو حتى "محمد" فقط...
     لتوضيح الأمور أكثر. فلنفترض أن أحد المسلمين أراد أن يمر على ذكر المسيح في إحدى كتاباته، وقال عنه "عيس بن مريم" أو "النبي عيسى" أو "الإله المتجسد عند المسيحيين"، فهكذا تسميات ليس لديها أية مشكلة من وجهة النظر الإسلامية... لكن إذا قال "الرب يسوع المسيح" فسيفسر كلامه بأنه اعتراف منه بألوهية المسيح وبخروج عن الإسلام.       
     مثلاً آخر، حول بوذا الذي هو إله عند البوذيين. فإذا افترضنا أن أحد المسيحيين أو المسلمين أراد أن يمر على ذكره، وذكره "بالرب بوذا"؛ فسيفسر كلامه هنا بدوره على أنه اعتراف منه بألوهية بوذا وخروج منه عن مسيحيته أو إسلامه...      
     واعتماداً، ومن وجهة النظر الأرثوذكسية، المفترَض بالمثقفين الأرثوذكسيين وعند تطرقهم إلى ذكر محمد في كتاباتهم أو في مقابلات أو تصريحات عبر إحدى الوسائل الإعلامية، أن لا يذكرونه كمثل "النبي أو الرسول محمد" أو أن يضعوا بعد اسمه ذكر صلاة الله عليه.
ج - حول مواقف القاعدة الشعبية للأرثوذكسيين الأنطاكيين من الإسلام.
     ما نقصده هنا بهذه القاعدة هي الموجودة في لبنان وسوريا وليس في المغتربات.
     المنتمون إلى هذه القاعدة، وعند الاختلاط بهم والتحدث إليهم، يمكن الملاحظة، وبكل سهولة، أنهم من ضمن قسمين أساسيين: الأول، يعترف وبكل مجاهرة بنبوة محمد وبإنزال القرآن إلى جانب الاعتراف بألوهية المسيح، وهم بشكل عام لا يكلفون أنفسهم عناء التوفيق بين الديانتين بل يكتفون بالقول إنهم لا يتعمقون بالأمور الدينية؛ الثاني، يجاهر بإيمانه بألوهية المسيح وبعدم الاعتراف بنبوة محمد وبإنزال القرآن. وهناك قسم صغير آخر يذهب إلى أن المسيح هو أحد الأنبياء وليس إلهاً، ومن ضمنه مَن يعترفون بنبوة محمد ومَن لا يعترفون بها. 

4 - حجج إضافية تقدَّم في سياق التوفيق بين الديانتين.
     الأرثوذكسيون الأنطاكيون الذين يقومون بالتوفيق بين المسيحية والإسلام، وسواء أكانوا رجال دين أم علمانيين معنيين بالتربية والإعلام الدينيين أم مثقفين أم من ضمن القاعدة الشعبية، نراهم يقدِّمون واحدة أو أكثر من الثلاث الحجج الواردة أدناه لتأكيد وجهة نظرهم حول صحة الدين الإسلامي وجواز إظهاره كأنه والمسيحية وجهان لعملة واحدة. سنستعرض هذه الحجج والردود عليها:
- الحجة الأولى، هي أن الإسلام يكرِّم كثيراً المسيحَ وأمه مريم العذراء، في حين أن المسيحية لا تعرف أصلاً بنبوة محمد.
الرد: الإسلام يكرِّم المسيح بصفته أحد الأنبياء وليس بصفته الإله المتجسد، والقول عن المسيح إنه أحد الأنبياء من شأنه أن ينسف الدين المسيحي من أسسه.    
     ثم إن الإسلام يكرِّم مريم العذراء على أنها أم ليسوع النبي وليس أماً ليسوع الإله؛ وتكريمها على أنها أم ليسوع النبي هو إهانة لها في المفاهيم المسيحية... إضافة من ضمن ما هو وارد في الأحاديث (المتفَق على صحتها) أنها ستكون إحدى زوجات محمد في الجنة (من الأقوال المنسوبة له: "إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى")؛ بالتالي، لا يمكن القول إطلاقاً إنه، في المفاهيم المسيحية، يوجد تكريم في الإسلام للعذراء.
     أي إن القول بوجود تكريم في الإسلام للمسيح ولمريم العذراء هذا لا يصح إلا عبر إحداث تغيير جذري في المسيحية يلغي ألوهية المسيح.
 - الحجة الثانية، هي أنه يوجد انتشار واسع للدين الإسلامي، فكثرة الذين ينتمون إليه (أكثر من مليار وثلاثمائة مليون نسمة) هم دليل على صحته.
الرد: في المنطق الديني العام لا يصح القول إنه كلما زاد عدد المنتمين إلى أي دين زادت صحته؛ كونه يوجد عدة عوامل قد تكون مؤثرة في زيادة أعداد هؤلاء منها: كثرة الولادات عندهم، استخدام القوة العسكرية ووسائل الترهيب والترغيب لنشر الدين عند الآخرين أو لمنع المنتمين إلى الدين من مغادرته، النظام السياسي القادر على حماية هؤلاء من أية اضطهادات أو ضغوطات تهدف إلى حملهم على تغيير دينهم، وغيره...
    كذلك هو الحال عند البحث في صحة أية عقيدة أو مدرسة في العلم أو السياسة أو الفلسفة أو الأدب أو الفن أو غيره، فمن غير المنطقي القول إنه كلما زاد عدد المنتمين إليها أو الموافقين عليها زادت صحتها...
- الحجة الثالثة، هي أنه يوجد معجزات علمية وتاريخية واردة في القرآن وحتى في الأحاديث، وهي دليل على صحة دين الإسلام.
الرد: المعجزات هي موجودة في جميع الأديان عبر التاريخ (حتى عند السحرة وعبدة الشيطان). تقريباً ليس هناك من دين، كان، أو لا يزال، له وجود فاعل في مكان ما، إلا ويوجد معجزاتٌ فيه؛ والتي قد تكون عجائب وآيات يقوم بها مَن يوصفون بالقديسين أو الأنبياء أو ما شابه، أو قد تكون ظهورات خارقة للطبيعة، أو قد تكون حقائق علمية (أو تاريخية أو نبوءات) واردة في النصوص الدينية... مثلاً، في تمارين اليوجا (والعلم الخاص بها) والموجودة في الديانتين البوذية والهندوسية، والتي كانت موجودة حتى قبل وجود الدين اليهودي بآلاف السنين، يوجد فيها معجزات علمية قادرة على تطويح أكبر العقول وعلى تحدي أحدث الإنجازات العلمية...
     المقصود هنا هو أن وجود المعجزات في أي دين ليس دليلاً على صحته، بل إن صحته تعتمد أساساً على البنيان الكلي له خاصة في النواحي الأخلاقية والإنسانية، ويكون وجود المعجزات مسألة مكمِّلة لهذا البنيان. لأنه كلما زادت القيم الأخلاقية والإنسانية في أي دِين زاد تحوله إلى أداة لما هو خير. والعكس صحيح، أي كلما نقصت هذه القيم فيه زاد تحوله إلى أداة لما هو شر أو ضرر؛ كمثل التعامل العنصري أو الفوقي أو التهميشي أو الانعزالي مع أبناء باقي الديانات، أو تحليل الاعتداء عليهم أو على حرياتهم وباقي حقوقهم، أو نشر الدين بالقوة عندهم، أو تحليل العبودية أو الطبقية بين الرجال والنساء وما شابه...
     حول السبب في وجود المعجزات في جميع الأديان وعن مصدرها وعن كيف يُفترَض التعامل معها، فسنتطرق إلى هذا الموضوع بإذن الله مستقبلاً في مقالة خاصة به.
     بعد استعراضنا لهذه الحجج الثلاث، لا بد من التنبيه إلى أننا هنا نتطرق فقط إلى الحجج الإضافية التي تقدَّم من قبل ذلك الفريق الأرثوذكسي في سياق توفيقه بين المسيحية والإسلام؛ ولا نقوم بإجراء تقييم عام للدين الإسلامي لإظهار ما له وما عليه... فهذا موضوع آخر سنتطرق إليه بإذن الله مستقبلاً في مؤلفات أخرى.
  
5 - في النهاية لا بد من القول إن من كان أرثوذكسياً (إكليريكياً أو علمانياً) وفي نفس الوقت مقتنعاً بنبوة محمد وبإنزال القرآن، فالمنطقي أن يترك مسيحيته ويعلن إسلامه. أما أن يبقي "إجِر في البور وإجِر في الفلاحة" وأن يحاول أن يخترع ديناً جديداً معوجاً للجمع بين المسيحية والإسلام فهذا غير منطقي.


حول المقالة الثانية انظر "الأرثوذكسية والموقف من الإسلام والمسلمين (2\2)":
http://www.amersemaan.com/2014/03/22.html



عامر سمعان ، باحث وكاتب
25/ 3/ 2014

السبت، 22 مارس 2014

انتكاسة الإفراج عن الراهبات

1 - شكَّل الإفراج عن راهبات دير القديسة تقلا في معلولا، في 10 آذار، اللواتي كن مختطفات عند جبهة النصرة في المعارضة السورية المسلحة أحد أهم الهزائم السياسية للنظام السوري وفي نفس الوقت كان أحد أهم الانتصارات السياسية لهذه الجبهة ولهذه المعارضة عموماً. حيث السبب يعود إلى تصريحات من قبل الراهبات بعد الإفراج والتي تمت الإشادة فيها كثيراً بحسن المعاملة من قبل الخاطفين، والشكر لمن ساهم في الإفراج: البطريرك الأرثوذكسي والرئيس السوري وأمير قطر ومدير عام الأمن العام اللبناني، من دون أن يشمل هذا الشكر الجيش السوري أو الإشادة بتضحياته؛ ومن دون أن تتضمن هذه التصريحات أي تنديد بعملية الخطف أو بالهجوم على معلولا التي هي من أهم رموز الوجود المسيحي في الشرق أو بغيره من الجرائم التي طالت المدنيين المسيحيين وغيرهم من قبل المعارضة.
     وقد كان النظام وحلفاؤه قد اهتموا بهؤلاء الراهبات المختطفات وبالمطرانين أكثر من جميع المخطوفين والمفقودين، والسبب كان الرغبة في استثمار هذه المسألة سياسياً عبر إظهار جرائم المعارضة بحق المدنيين أمام الرأي العام العالمي؛ كون التعرّض للمسيحيين في سوريا ودول الجوار بجرائم ضد الإنسانية من شأنه أن يثير ضجة عالمياً أكثر من التعرّض لغيرهم، لأن هذه المنطقة هي مهد المسيحية وهناك شبه رغبة عالمية في المحافظة على الوجود المسيحي فيها. إلا أن هذا الاستثمار الذي كان النظام يأمله إثر الإفراج عن الراهبات تحول إلى انتكاسة مفاجئة وكبيرة، كما ذكرنا.  
     سنتناول فيما يلي الاحتمالات في أسباب تصريحات الراهبات بعد الإفراج، ثم التبريرات التي أعطيت لهذه التصريحات، ثم الشتائم التي وُجِّهت إلى هؤلاء الراهبات وإلى مسيحيي سوريا عموماً عبر مواقع التواصل الاجتماعي. 

2 - يوجد ثلاثة احتمالات في أسباب تصريحات الراهبات بعد الإفراج.
أ - الاحتمال الأول، أن تكون رئيسة الراهبات الأم بلاجيا سياف متفقة أو متآمرة مع الخاطفين لأداء تمثيلية الخطف ثم الإشادة بهم بعد الإفراج لمنحهم نصراً سياسياً عبر إظهار مقاتلي جبهة النصرة على أنهم شرفاء لا يتعرضون للمدنيين ولا يسيؤون معاملة الأسرى، وأيضاً لأن تنتهي عملية الخطف بالتبادل والإفراج عن محتجزات لدى النظام. ما يعزز هذا الاحتمال هو ما يلي:
- أولاً، التصريحات بعد الإفراج التي تمت الإشادة بها بجبهة النصرة.
- ثانياً، عدم إخلاء الدير بعد بدء المعارك في معلولا.
     فقد قام مسلحو جبهة النصرة ومَن معهم بمهاجمة بلدة معلولا ذات الأغلبية المسيحية والأهمية المسيحية الكبيرة والتي لا يوجد فيها قواعد عسكرية للنظام وقالوا أمام وسائل الإعلام إنهم جاؤوا "لفتح عاصمة الصليبيين"، وارتكبوا جرائم بحق مدنيين مسيحيين على أساس طائفي واعتدوا على كنائس ومزارات مسيحية وبيوت، وتم تبادل السيطرة العسكرية على البلدة بين الجيش والمسلحين أكثر من مرة، وكان هناك ثلاثة أشهر بين بدء الهجوم على البلدة في أوائل أيلول وتاريخ خطف الراهبات في أوائل كانون الأول، وقد غادر معظم السكان البلدة ما عدا الراهبات وعدد آخر قليل. فيكون السؤال هنا هو لماذا رفضن المغادرة ؟
     النذور في الرهبنة المسيحية الأرثوذكسية هي: الطاعة والفقر والعفة. المقصود بالعفة ليس فقط الامتناع عن الزواج، بل أيضاً أنه في حال تواجد دير للراهبات في مكان شديد الخطورة أمنياً كمثل أن يكون بالقرب من خطوط النار في الجبهة، المفترَض بالراهبات إخلاء الدير حرصاً على عدم تعرّض إحداهن لاعتداء جنسي من قبل عناصر غير منضبطة. فحصول هكذا أمر من شأنه أن يشكل ليس فقط جرحاً كبيراً عند الراهبات بل أيضاً عند باقي المسيحيين في المنطقة المجاورة. أي إنه كان يُفترَض بالأم بلاجيا حرصاً منها على عدم تعرّض الراهبات لهكذا تجاوزات (أو غيرها كالخطف) وعلى عدم حصول جرح عند مسيحيي سوريا ونعرات طائفية بينهم وبين غيرهم بسببها، أن تقوم بإخلاء الدير منذ بدء المعارك. فيكون التفسير المرجَّح لعدم الإخلاء هو وجود ثقة وعلاقات جيدة واتفاقات بين الأم بلاجيا ومسلحي جبهة النصرة... والذي منها الاتفاق على تمثيلية الخطف.       
     أيضاً، هناك من يقول إن الأم بلاجيا كانت قد تكتمت على وجود المسلحين قرب معلولا قبل بدء المعارك ثم قامت بإخفائهم في الدير ثم تعمدت تضليل الجيش لتسهيل سيطرتهم على البلدة... أنا ليس عندي بعد معلومات مؤكدة حول هذا الأمور وفي حال حصولي عليها سأقوم بنشرها.
- ثالثاً، الأم بلاجيا هي لبنانية، والمسيحيون في لبنان هم من ضمن فئتين أساسيتين؛ الأولى هي حليفة لحزب الله و8 آذار والنظام السوري، الثانية هي اليمين المسيحي والتي تُعرَف بمسيحيي 14 آذار. هذه الفئة الأخيرة تعمدت منذ بدء الأحداث السورية ليس فقط على تقديم كل دعم إعلامي وسياسي للمعارضة بل أيضاً على التغطية على جرائم المعارضة التكفيرية بحق مسيحيي سوريا واعتداءاتهم على الكنائس وغيرها، بل وكانت تتهِم النظامَ بارتكاب هذه الجرائم ليتم نسبها إلى المعارضة وتشويه صورتها... هدف هذه الفئة من تقديم هذا الدعم للمعارضة بالرغم من معرفتها أن سقوط النظام سيؤدي إلى إنهاء الوجود المسيحي في سوريا، هو الأمل بتحقيق حلمها القديم بتقسيم لبنان وإقامة الكانتون أو الدويلة المسيحية التي ستكون تحت المظلة الغربية، لأن إنهاء الوجود المسيحي في سوريا وانتقال الحرب إلى لبنان سيعزز الفرص أكثر من أي وقت مضى للاستعانة بالتدخل العسكري الغربي والوصول إلى التقسيم...
     فالاحتمال وارد أن تكون الأم بلاجيا من ضمن هذا اليمين المسيحي في لبنان الذي يعمل على تقديم كل دعم إعلامي وسياسي ممكن إلى المعارضة، بالرغم من كون انتصارها سيؤدي إلى إنهاء الوجود المسيحي في سوريا، وذلك بهدف الوصول إلى الدويلة المسيحية في لبنان.
ب - الاحتمال الثاني، أن تكون الراهبات قد تعرضن للابتزاز من قبل الخاطفين بأنه سيصار إلى قتل الكثير من المخطوفين المسيحيين أو أعداد كبيرة من مسيحيي الرقة، ومن ضمنهم المطرانين، في حال لم يتكلمن بذلك الشكل بعد الإفراج عنهن؛ وهناك من يقول بأنه قد حصل اعتداء جنسي على بعضهن وتم تصويرهن وهددن بعرض شرائط الفيديو.
     هذا الاحتمال وارد، وهكذا قذارة ليست مستبعدة من جرائم المعارضة... لكن إذا تم الأخذ بهذا الاحتمال يبقى من الضروري تقديم تفسير مقنِع لعدم مغادرة الراهبات للدير.
ج - الاحتمال الثالث، أن تكون الأم بلاجيا قد تعرضت لاضطراب نفسي أو عقلي شديد نتيجة الخطف وأنها أعطت التعليمات للراهبات أن يتصرفن أو يصرحن بهذا الشكل... هذا الاحتمال وارد لكن هنا أيضاً يبقى من الضروري تقديم تفسير مقنِع لعدم مغادرة الدير. ولا بد من التنبيه هنا إلى أنه بموجب قانون الطاعة في الأديرة الرهبانية، فإن رئيسة الراهبات (كما هو الحال مع من يكون أباً ورئيساً للرهبان في أي دير) هي التي تعطي التعليمات للراهبات في ديرها في المسائل الدينية وغيرها ليسلكن بموجبها، وهي التي تتحمل المسؤولية أولاً وأساساً عما يصدر عنهن.      
     إلى هنا يبدو الاحتمال الأول حول وجود تآمر أو اتفاق بين الأم بلاجيا والمسلحين هو الأكثر ترجيحاً.
     ولا بد من الإشارة إلى أنه بعد أن كان زعيم جبهة النصرة أبو محمد الجولاني الرقم ستة بين عشرة أسماء وضعتها الإدارة الأمريكية على قائمة أخطر "إرهابيين في العالم"، على رأسهم الظواهري، نشرتها قناة "سي ان ان" في تشرين الأول الماضي؛ اختفى اسمه عن القائمة الجديدة للإرهابيين التي أصدرتها وزارة العدل الأمريكية في النصف الثاني من شهر شباط الماضي (عن السفير).
     أن يحصل هذا الأمر قبل حوالي ثلاثة أسابيع من تحقيق جبهة النصرة أهم نصر سياسي لها في الأزمة السورية من خلال تصريحات الراهبات، فهذا ليس مصادفة. المرجَّح دخول أمريكا وقطر على الصفقة بين جبهة النصرة والأم بلاجيا لأداء تمثيلية الخطف، أو للاشتراك مع هذه الجبهة في ممارسة الضغوطات على الراهبات وابتزازهن لكي يقلن تلك التصريحات بعد الإفراج.
     هذه المسألة لا ترجِّح أيّاً من الاحتمالات أعلاه. إذ عندما تعطي أمريكا الوعود في صفقات ما إلى اليمين المسيحي في لبنان أو غيره من الفئات المتأمرك فبالطبع هذه الوعود تكون أكثر فعالية من عندما تعطيها جبهة النصرة أو غيرها. كذلك عندما تدخل هذه الدولة في تهديدات باستهداف المسيحيين أيضاً تكون أكثر فعالية من عندما تهدد هذه الجبهة بها.
     فيكون المطلوب من الدولة السورية إجراء تحقيق حول هذا الموضوع، مع الراهبات وكل المعنيين في الموضوع، وعرض النتائج أمام الرأي العام. كما المطلوب من البطريركية الأرثوذكسية بدورها، من ضمن إمكانياتها، إجراء هكذا تحقيق وعرض نتائجه؛ وكان قد صدر بيان عنها مما ورد فيه هو رفض لتصريحات الراهبات.

3 - جرت محاولات من قبل بعض المسيحيين لإعطاء تبريرات، من وجهة النظر المسيحية، لتصريحات الراهبات بعد الإفراج؛ سنستعرض هذه التبريرات والردود عليها لإظهار خطئها.
أ - التبرير الأول، هو أن هذه التصريحات تأتي من ضمن الدعوة المسيحية لإحلال السلام بشكل عام في سوريا وأي مكان آخر.
- الرد: المفترَض بالمؤمن الأرثوذكسي، سواء أكان إكليريكياً أم راهباً أم علمانياً، هو محاربة الشر في المجتمع بالوسائل المتوفرة لديه: الإعلامية أو السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية، أو على الأقل الإشارة إلى وجود الشر والتنديد به؛ ولا يُعفى من هذا الواجب إلا في حال عدم توفر المعلومات الموثوقة لديه... وتاريخ الأرثوذكسية يشهد على عدد كبير من القديسين، ومنهم رهبان ونساك، كانوا يواجهون الشر الموجود عند الحكام أو أصحاب النفوذ والثروات، ومنهم من كان يلقى الشهادة أو الاضطهادات نتيجة موقفه.
     ولما كانت الأحداث السورية تتضمن شراً مستفحلاً قلّ نظيره في العالم، خاصة لما يجري من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فواجب كل مؤمن أرثوذكسي في سوريا، أمام ربه، على الأقل أن يعلن، بحسب قناعته وضميره، موقفاً واضحاً عمن يتحمل المسؤولية الأساسية في هذه الجرائم وفي التوترات الأمنية القائمة. أي إما أن يعلن أن المعارضة هي من تتحمل المسؤولية الأساسية (أو بإمكانه أن يعلن عما يتضمن إشارة غير مباشرة إلى هذا الأمر كمثل من خلال الإشادة بالرئيس الأسد أو تضحيات الجيش السوري)، أو أن يعلن أن النظام هو مَن يتحملها، أو أن يعلن أن كليهما يتحملانها. وإذا كانت ظروفه تسمح له بمواجهة هذا الشر بأكثر مما هو إعلان موقف، كمثل من خلال العمل العسكري، فواجبه أيضاً القيام به.
     أي إنه إذا كان هدف الراهبات من التصريحات هو من ضمن الدعوة المسيحية لإحلال السلام، فكان يفترَض بهن الإعلان عن الطرف الذي يتحمل المسؤولية الأساسية عن تلك الجرائم والتوترات الأمنية القائمة؛ وهذا ما لم يحدث.
ب - التبرير الثاني، هو أن ما صدر عن الراهبات هو من ضمن التعاليم المسيحية في مسامحة الأعداء.
- الرد، ما تعنيه المسامحة في الأرثوذكسية هو أنه يُفترَض بالمؤمِن أن يحبّ ويصلي من أجل جميع البشر، الأحياء والأموات؛ وفي حال حصل له أذية من أحدهم فالمفترَض به أولاً هو المسامحة القلبية معه، أي أن يسامحه في قلبه ويصلي له لكي يرشده الله إلى ما هو خير ولخلاص نفسه؛ وبعد ذلك تأتي المسامحة السلوكية في القول والفعل، والظاهرة للعيان، وهذه الأخيرة هي مشروطة بخلاص نفسه للآخر. أي في حال وجد ذلك المؤمنُ - الضحيةُ أن التنازل عن بعض أو كل حقه من شأنه أن يدفع المعتديَ إلى التوبة والابتعاد عن الشر فبإمكانه أن يقوم بذلك؛ وفي حال وجد أن هذا التنازل لن يؤدي إلى هذه النتيجة فالمفترَض به عدم القيام به. وهذا هو التفسير للآيات كمثل "أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم (متى 5: 44)" و"من لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضاً (متى 5: 39)".
     حول راهبات معلولا، وإذا اعتبرنا أن ما جرى معهن كان عملية خطف حقيقية وليست تمثيلية، فأن يصدر عنهن بعد الإفراج، وأمام وسائل الإعلام، مسامحةٌ للخاطفين، أو كلامٌ يكون مقصدهن منه على أنه مسامحة؛ فمن السذاجة الظن أن هذا سيدفع جبهة النصرة وباقي فصائل المعارضة المتطرفة إلى التوبة وعدم التعرّض للمدنيين المسيحيين وغيرهم ولترك السلاح واعتماد الحل السياسي.           
ج - التبرير الثالث، هو يتعلق بنزع الصلبان. مما قالته الراهبات إنهن قمن بنزع الصلبان بإرادتهن أثناء الخطف، وإنه بارتداء الصليب في ذلك المكان "بتلاقي حالك غلط" وإن الخاطفين لم يكونوا يحبون ارتداء الصليب... فحاول بعضهم تبرير ذلك بالقول "إن الصليب موجود أساساً في القلب".
- الرد، الإيمان الأرثوذكسي هو في القلب والتفكير والسلوك، ومن المسلمات فيه هو ضرورة التعبير عنه والمجاهرة به في السلوك، أي في القول والفعل، بهدف الشهادة للمسيح. التعاليم في هذا المجال واضحة ولا لبس فيها، من ضمنها: "من استحى بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسد الخاطئ فإن ابن الإنسان يستحي به متى جاء بمجد أبيه مع الملائكة القديسين (مرقس 8: 38)". مما يترتب على المجاهرة بالإيمان المسيحي، على سبيل المثال، أن مَن كان معتاداً على وضع الصليب على صدره أو في سيارته بشكل ظاهر للعيان، وفي حال توجهه إلى منطقة غير مسيحية فالمفترَض به أن لا يقوم بنزع الصليب حرصاً منه على عدم إغضاب سكان تلك المنطقة وقيامهم بمقاطعته أو تحطيم زجاج سيارته أو حتى قتله... وبطبيعة الوضع، فالكاهن أو الراهب أو الراهبة في حال تعرضه للخطف (لأسباب سياسية أم غيرها) من قبل مَن هم غير مسيحيين فالمفترَض به أن لا يقوم بنزع الصليب طمعاً بالحصول على معاملة أفضل من قبل خاطفيه في المأكل والملبس والنوم وغيره...
     أي لو افترضنا أن عملية الخطف كانت حقيقية وأن الراهبات قمن بإرادتهن بنزع الصلبان، فهذا التصرف أقل ما يقال عنه إنه يدل على قلة الإيمان والتدين عند الأم بلاجيا.
     مع الإشارة، إلى أنه في الفيديو الذي بثته قناة الجزيرة عن الراهبات وهن في الخطف (موجود في يوتيوب)، سُمعَت إحداهن تقول "بدنا نحط الصليب، شالولنا إياه" (لكن بصوت غير واضح) ما يدل على سوء معاملتهن من قبل الخاطفين وأن نزع الصلبان تم بغير إرادتهن؛ في حال كانت هذه العبارة صحيحة فتكون من الأدلة على أن عملية الخطف كانت حقيقية وأنهن تعرضن للابتزاز ليصرحن بذلك الشكل بعد الإفراج. وبالطبع لا تكفي عبارة واحدة سُمعَت للجزم حول أن كانت عملية الخطف حقيقية أم تمثيلية بل لا بد من الأخذ بمجمل الوقائع؛ وكما قلنا، من الضروري التحقيق في هذا الموضوع وكشف كل ملابساته.

4 - حول توجيه الشتائم للراهبات ولمسيحيي سوريا.
 أ - ما أن انتهت تصريحات الراهبات بعد الإفراج حتى ضجت مواقع التواصل الاجتماعي على الأنترنت بكم هائل من الانتقادات وإطلاق الشتائم عليهن من قبل مؤيدي النظام السوري. كمثل: "يا عيب الشوم، تفووو علين، يلعن شرفن، سباط أصغر جندي سوري بيسوى رقبتن..."، وأيضاً شتائم من نوع: "العاهرات، مجاهدات النكاح، الشراميط، يتمنعن وهن راهبات، كن مبسوطات عند الخاطفين لأنهن محرومات من الرجال، هل لا زلن عذراوات ؟...". وكان هناك شتائم وبوستات صوَّرت الراهبات المسيحيات بشكل عام كعاهرات.
     وأيضاً كان هناك شتائم وتخوينات طالت مسيحيي سوريا عامة كمثل: "العاهرة بيلاجي سياف رمز لعهر المسيحيين في سوريا اجري باحسن صليب خاين"، "العلويي بالتابوت والمسيحيي مرتاحين بالبيوت"، "شوفو أخلاق وثقافة مسيحيي سوريا عملاء إسرائيل اتباع الراهبات العاهرات"، "هَي تضحياتنا نحن العلويين وين تضحيات المسيحيين الخوني"...
     كل هذه الشتائم كانت، بشكل عام، من قبل مسلمين موالين للنظام؛ أما المسلمون المعارضون له فكان من الطبيعي أن يمتدحوا كثيراً راهبات معلولا على مواقع التواصل الاجتماعي ويرفِّعونهن إلى مرتبة القديسات.
ب - إذا تساءلنا عن السبب في الشتائم التي وجِّهت إلى مجمل مسيحيي سوريا من قبل مسلمين موالين للنظام فلا يمكن القول عنها إنها مجرد تصرفات فردية أو صبيانية، لأنها لو كانت هكذا لكان من الممكن، وبسهولة، التبليغ عن مواقع التواصل الاجتماعي التي تضعها لإسقاطها. لكن بما أنها لا تزال قائمة، فهذا يدل على أن هناك تشويهاً في صورة مجمل مسيحيي سوريا لدى قسم مهم من المسلمين الموالين للنظام نحو تخوينهم.
     السبب في هذا يعود إلى كثرة تلك الشتائم التي وجِّهت إلى راهبات معلولا؛ فهؤلاء لسن مجرد فئة هامشية في المجتمع المسيحي السوري بل هن من الرموز الدينية والفئات المهمة فيه؛ وعندما يتم تصويرهن عبر كمّ كبير من الشتائم بأبشع درجات السوء فهذا يعني، بشكل غير مباشر، أن المجتمع المسيحي هو بشكل عام سيء وإلا لما كان رضي أو سكت عن وجودهن ومواقفهن؛ كما يعني أن مجمل الرهبنة النسائية في سوريا هي سيئة.   
     فهذا التشويه لصورة مجمل مسيحيي سوريا لدى قسم مهم من المسلمين السوريين الموالين للنظام نحو تخوينهم، والتشويه لصورة مجمل الرهبنة النسائية في هذا البلد لدى هذا القسم؛ كان من الطبيعي أن يؤديان إلى جرح بالغ لدى هؤلاء المسيحيين. وفي حال استمرار ذلك الفلتان من الشتائم على مواقع التواصل الاجتماعي فستصل الأمور إلى حد تهديد العيش المشترك داخل الصف الواحد الموالي للنظام.
     وكان قسم من الذين وجَّهوا الشتائم إلى راهبات معلولا برروا فعلتهم بالقول إنه كما يتم توجيه الشتائم إلى شيوخ المسلمين الداعمين للمعارضة نحو وصفهم بشيوخ العهر وشيوخ جهاد النكاح، كذلك يحق توجيه الشتائم إلى راهبات معلولا أو غيرهن من الرموز المسيحية التي تعمل لصالح المعارضة.
     بالطبع، هذه المقارنة لا تصح، إذ يوجد انقسام لدى المسلمين في سوريا والعالمين العربي والإسلامي بين الموالين للنظام السوري والمعارضين له ومن الطبيعي تبادل الاتهامات والشتائم للسياسيين ولرجال الدين الذين لديهم نشاط سياسي بارز في الطرفين. لكن عندما يتم توجيه الشتائم من قبل أكثرية عددية إلى رموز دينية لدى أقلية عددية فهذا من شأنه أن يؤدي إلى تشويه لصورة مجمل هذه الأقلية عند هذه الأكثرية.
     لتسهيل الشرح، إذا أخذنا أقلية مسلمة توجد في دولة مسيحية في إحدى القارتين الأوروبية أو الأمريكية، وإذا افترضنا أنه تم توجيه كمّ كبير من الشتائم من قبل قسم من الأكثرية المسيحية في إحدى هذه الدول عبر الوسائل الإعلامية إلى مجموعة من رجال الدين المسلمين فيها على خلفية اتهامهم بأمر خطير، فهذا سيؤدي إلى تشويه صورة مجمل رجال الدين المسلمين في هذه الدولة عند هذه الأكثرية المسيحية، كما إلى تشويه صورة مجمل الطائفة الإسلامية في هذه الدولة عندها؛ وقد تصل الأمور إلى حد تهديد العيش المشترك والوحدة الوطنية بين الطرفين. وهذا ما قد حصل مع الطائفة المسيحية في سوريا مع قسم كبير من المسلمين الموالين للنظام. 
     من الواضح أن قسماً كبيراً من الذين وجَّهوا الشتائم إلى راهبات معلولا فعلوا هذا من قهرهم وصدمتهم بسبب تصريحاتهن وبسبب اهتمام الدولة الزائد بهؤلاء الراهبات على حساب باقي المخطوفين. لكن هذا لا يمنع أن هناك قسماً آخر تعمَّد، ولا يزال يتعمد، صب الزيت على النار وضرب العيش المشترك والوحدة الوطنية داخل الصف الواحد الموالي للنظام من خلال عدم التوقف عن الشتائم منذ الإفراج، ومنها الشتائم التي تطال مسيحيي سوريا بجملتهم.
ج - من الضروري القيام بما يلزم لإصلاح صورة مسيحيي سوريا التي تشوهت عند تلك الفئة من المسلمين السوريين، والذي من ضمنه إصلاح صورة الرهبنة النسائية في هذا البلد التي تشوهت عند هذه الفئة، ولسد ذلك الجرح الذي حصل عند هؤلاء المسيحيين ولتمتين العيش المشترك والوحدة الوطنية في سوريا. الحلّ هو سهل، ويكمن في محو ذلك الكمّ الكبير من الشتائم التي وُجهَت إلى راهبات معلولا وإلى الرهبنة النسائية المسيحية عامة وإلى مجمل مسيحيي سوريا في مواقع التواصل الاجتماعي ، وخاصة منها في الفايسبوك الذي هو الوسيلة الإعلامية الأكثر انتشاراً لدى السوريين.
     فيكون المطلوب من كلا المسلمين والمسيحيين، في سوريا وخارجها، الحريصين على حسن العيش المشترك في سوريا أن ينبهوا أي حساب شخصي أو صفحة أو غروب على الفايسبوك كتب تعليقات، أو سمح بوجود تعليقات كتبها آخرون عنده، تتناول شتماً لراهبات معلولا، خاصة عندما تكون من نوع وصفهن بالعاهرات، أو شتماً للرهبنة النسائية عامة أو لمجمل مسيحيي سوريا إلى الخطأ في وجود هذه الشتائم عنده وأن يطالبوه بمحوها. وفي حال الرفض فيصبح لا بد من مقاطعته، مهما كان موالياً للنظام، والتبليغ عن التعليق أو البوست أو الحساب أو الصفحة أو الغروب لإسقاطه.
     وكذلك الأمر في التعامل مع أية وسيلة إعلامية أخرى تقوم بوضع تلك الشتائم أو تسمح للآخرين بوضعها عندها.
     المعروف عن الجيش السوري الإلكتروني أنه من أقوى الجيوش في العالم في هذا المجال؛ فالمطلوب منه أن يتحرك بدوره للمساهمة في إسقاط أي موقع ألكتروني يضع تلك الشتائم أو يسمح بوضعها عنده. فإذا لم يتحرك هذا الجيش في مواجهة هذه المسألة التي تهدد العيش المشترك والوحدة الوطنية فأين سيتحرك ؟   

5 - حول أن السبب في اهتمام النظام السوري بالراهبات المختطفات وبالمطرانين أكثر من باقي المخطوفين يعود إلى الرغبة في استثمار هذه المسألة سياسياً ضد المعارضة، انظر المقالة "عن الراهبات المختطفات ومسيحيي سوريا":
     حول أن السبب في قيام اليمين المسيحي في لبنان بتقديم الدعم الإعلامي والسياسي إلى المعارضة السورية يعود إلى الرغبة بالوصول إلى تقسيم لبنان وإقامة الدويلة المسيحية حتى على حساب إنهاء الوجود المسيحي في سوريا، انظر المقالة "الداعشيون المسيحيون":
     حول الخطة لإنهاء الأحداث السورية وإحلال السلام فيها وتمكين النظام من النصر وبسط سيادة الدولة في فترة قصيرة، انظر المقالة "نحو الانتصار في سوريا وهزيمة أمريكا":
    

عامر سمعان ، باحث وكاتب

22/ 3/ 2014