ما يتضمنه كتابي "حول الأزمة اللبنانية ونهاية الزعامة العالمية للولايات المتحدة" دراسات معمقة وغير مسبوقة في السياسة والإستراتيجيا والتنمية والسوسيولوجيا؛ من بينها: أربع نظريات جديدة في الأنتروبولوجيا المجتمعية، وخطة لحلّ الأزمة في لبنان، وإستراتيجيا تعتمد وسائل المحاربة الإعلامية والسياسية والاقتصادية لهزيمة الولايات المتحدة وإنهاء زعامتها العالمية، والتي سيكون من نتائجها الاستقرار الأمني والنمو الاقتصادي والتطور في العالم العربي ومعظم دول الجنوب.

الأربعاء، 23 ديسمبر 2015

عن "التحالف الإسلامي العسكري"

     أعلنت السعودية في 15/ 12/ 2015 عن قيام حلف إسلامي عسكري يضم 34 دولة إسلامية بهدف محاربة الإرهاب، وقد تمَّ استبعاد سورية والعراق وإيران عنه والتي هي أكثر دول معنيّة في هذا الأمر. والملفت في هذا الحلف أنه جاء:
- بعد التقدم الميداني الملحوظ الذي تحقق في سورية في محاربة التنظيمات الإرهابية بفعل التدخل العسكري الروسي.
- بعد حوالي أسبوعين من دعوة السيناتور جون ماكين، رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأمريكي، والسيناتور ليندسي غراهام، العضو في هذه اللجنة، إلى تشكيل قوة من 100 ألف جندي من دول سنيّة، من بينهم 10 آلاف جندي أمريكي، لقتال تنظيم داعش.
- بعد حوالي ثلاثة أسابيع من دعوة السياسي الأمريكي جون بولتون لإقامة دولة سنيّة، "سُنّستان"، مكان تواجد دولة داعش في سورية والعراق وبعد هزيمة هذه الأخيرة. كون الدولة السنية، بحسب رأيه، ستكون: غنية بالنفط، ومرضية للرأي العام السنيّ الذي يفضِّل الاستقلالية عن حكم الأسد والحكومة العراقية الموالية لإيران، ومتعارضة مع مصالح سورية والعراق وإيران وروسيا، ومتوافقة مع الدولة الكردية المزمع استقلالها مستقبلاً، ومتوافقة مع سياسات أمريكا وإسرائيل والدول العربية الحليفة لهما.
     لتبيان الهدف من "التحالف الإسلامي العسكري" لا بد من التنبيه إلى أن الحرب التي تجري في سورية هي ليست أحداثاً داخلية أو حرباً أهلية، بل حرباً عالمية بين محور أمريكي وآخر معارض له. فالمعارضة السورية المسلحة تتلقى كل أشكال الدعم من الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة وهي بمثابة الأداة لهم. وفي حال تمّ انتصار النظام السوري وبسط سيطرة الدولة على كافة أراضيها فهذا سيشكّل هزيمة تاريخية للولايات المتحدة قد تصل حتى إلى فقدانها زعامتها العالمية.
     وفي تتبع لمسار الأحداث، نرى أن التمدد الميداني الكبير الذي حققه داعش نحو الموصل وإعلان دولة الخلافة الإسلامية، في حزيران 2014، قد تمّ عقب انتصارات سياسية وعسكرية بالغة الأهمية كان قد حققها النظام السوري، خاصة فيما يتعلق بفوز الرئيس الأسد في الانتخابات الرئاسية في 4/ 6/ 2014؛ وحيث كانت الأجواء توحي بقرب انتهاء الأحداث السورية وبسط سلطة الدولة على كافة الأراضي. فيكون قيام دولة داعش قد جاء في مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين الداعمين للمعارضة السورية المسلحة لقطع الطريق على انتصار سورية وحلفائها في محور المقاومة. ولم يعد خافياً دور هؤلاء الحلفاء الإقليميين، خاصة منهم تركيا، في هذا الأمر.
     ثم عندما انفتحت أبواب الهجرة إلى أوروبا بشكل مفاجئ أمام اللاجئين السوريين في صيف 2015، فالسبب لم يكن صحوة ضمير من قبل الأوروبيين بل بهدف إثارة الرأي العام الغربي، ضمن توزيع للأدوار، وتمهيداً لحصول تدخل غربي عسكري كبير في سورية يستهدف كِلا النظام وداعش. حيث يعمل الإعلام الغربي على الترويج لفكرة أن كِلا هذين الطرفين يقمعان الشعب السوري بشكل دموي ويتحملان المسؤولية في مآسيه. لكن ما أجهض هذا المخطط كان التدخل العسكري الروسي بدءًا من 30/ 9/ 2015.
     والآن بعدما تبيَّن أن هذا التدخل الروسي هو جدّي، وليس مسرحية كما هو حال القصف الجوي الذي ينفذه التحالف الأمريكي، وأن من شأنه أن يمهِّد لتقدم ميداني ملحوظ للجيش السوري... يكون التفسير الأصح لقيام ذلك "التحالف الإسلامي العسكري" بقيادة السعودية، أنه تمَّ بناءً على التعليمات الأمريكية، لينفِّذ تحركاً ميدانياً وواسعاً داخل الأراضي السورية والعراقية، وليقطع الطريق على انتصار سورية ومحور المقاومة وحليفهم الروسي، إما عبر إطالة النزاع إلى أمد بعيد وإما في إقامة تلك الدولة السنيّة.
     مع العلم أنه يوجد خيارات أخرى أمام الولايات المتحدة لقطع الطريق أمام هذا الانتصار، كمثل أن يتم تزويد داعش بالسلاح الكيميائي أو البيولوجي لاستخدامه داخل سورية أو ضد حزب الله في لبنان أو داخل إيران أو روسيا... وغَنيّ عن البيان، أن الذين أصدروا الفتاوى لتبرير جهاد النكاح وهدم الآثار لن يكون من الصعب عليهم إصدار الفتاوى لتبرير استخدام هذه الأسلحة.
     إذاً، يصح القول إن الحرب العالمية التي تجري في سورية لا تزال في بدايتها، والاحتمال هو كبير في توسعها، مع كل مآسيها، خارج هذا البلد؛ وأن تصل حتى إلى داخل روسيا، التي 20 % من سكانها هم مسلمون.
     الحلّ الوحيد هو في تغيير جذري في الإستراتيجيا المتَّبعة من قبل روسيا ومحور المقاومة. فالإستراتيجيا الصحيحة يجب أن تعمل في نفس الوقت في الاتجاهات التالية: مواجهة الولايات المتحدة بذاتها، والمحاربة العسكرية للتطرف الإسلامي، وتقويض الإيديولوجيا التي يقوم عليها هذا التطرف. فمن الخطأ الكبير الاكتفاء بمواجهة داعش وأخواتها بالوسائل العسكرية وترك إيديولوجيا التطرف قائمة على امتداد العالم الإسلامي والتي تقوم بمدّ هذه التنظيمات بالعنصر البشري والدعم الإعلامي والمادي.
     هذه الإيديولوجيا، وهي نفسها التي كان ولا يزال يرتكز عليها تنظيم القاعدة، قد نَمَت منذ أواخر القرن الفائت، وتعتبر أن الدِين الإسلامي (وتطبيق الشريعة التي فيه) هو الخيار الوحيد الفاعل والمتبقي لمواجهة جرائم الغربيين بحق العالمين العربي والإسلامي وإلحاق الهزيمة بهم... وبالرغم من أن التنظيمات الإسلامية المتطرفة تتعاون أو تتحالف من وقت لآخر مع الولايات المتحدة أو إسرائيل أو أحد حلفائهما لكن هذا ليس إلا من باب التكتيك، أي لكي تثبت هذه التنظيمات أقدامها في العالمين العربي والإسلامي ثم تقوم لاحقاً بالانقلاب على الغربيين ومحاربتهم.
     بالتالي، إذا أرادت روسيا ومحور المقاومة الانتصار في حربهم على التطرف الإسلامي، فعليهم أن يتَّبِعوا إستراتيجيا تعتبر أن الولايات المتحدة هي العدو الأساسي، وأن يتوقفوا عن أي تعاون عسكري معها أكان ضد داعش أم غيره، وأن يضعوا الخطط العلمية والمدروسة في محاربتها اقتصادياً وسياسياً وإعلامياً... وفي نفس الوقت أن تستمر المحاربة العسكرية ضد داعش وأخواتها...كما على روسيا أن تكفّ عن اعتبار إسرائيل و"الجيش السوري الحر" بمثابة الأصدقاء أو الحلفاء.
     وتكون النتيجة أنه كلما أدَّت هذه الإستراتيجيا إلى عزل الولايات المتحدة سياسياً وانهيار اقتصادها وتقزيم زعامتها العالمية (ومع ما يترتب على ذلك من هزيمة لإسرائيل وكل حلفاء أمريكا)، كلما أدى هذا الوضع إلى تكبيل يدها في تقديم أي دعم مباشر أم غير مباشر إلى التنظيمات المتطرفة، وفي نفس الوقت إلى تقويض إيديولوجيا التطرف عند هذه التنظيمات على امتداد العالم الإسلامي، والتي، كما قلنا، تعتبر أن الدِين الإسلامي وتطبيق الشريعة هو الخيار الوحيد الفاعل والمتبقي لإلحاق الهزيمة بالغربيين.
     وفي نهاية هذه الحرب، أي بعد تحقيق النصر من خلال هذه الإستراتيجيا، سيكون هناك عالمٌ خالٍ من كل من التطرف الإرهابي الإسلامي والزعامة الأمريكية والصهيونية، وسيكون فيه تعددُ أقطاب... مع مناخ أمني مستقر على المستوى العالمي يمهِّد لتسريع النمو الاقتصادي والتطور خاصةً في العالمين العربي والإسلامي وباقي دول الجنوب.
     والعكس صحيح، أي إنه من دون هذه الإستراتيجيا، فحرب روسيا ومحور المقاومة ضد الإرهاب ستكون بلا نهاية، مع الاحتمال الكبير لتوسعها خارج سوريا والعراق ولأن تصل حتى إلى الداخل الروسي وأن يتم فيها استعمال أسلحة دمار شامل من قبل داعش كما مر معنا... ومع استمرار الانحدار الفكري والتخلف وعصر الظلمات في العالمين العربي والإسلامي وباقي الدول النامية والصراعات الطائفية والتطهير الطائفي وغيره...



 عامر سمعان، كاتب وباحث
23/ 12/ 2015      

الجمعة، 11 ديسمبر 2015

الأرثوذكسية، وحق استعمال القوة في الدفاع عن النفس ( 1 )


     ما سنوضحه هنا، في دراسة لاهوتية مبسَّطة، هو أنه في المسيحية الأرثوذكسية يجوز تماماً استعمال القوة في الدفاع عن النفس، على الصعيدين الفردي والجماعي (رداً على بعض الأصوات التي تنكر هذا الأمر)، وأن الرؤية الأرثوذكسية لهذا الموضوع تبقى الأكثر منطقية وأخلاقية وإنسانية بين جميع المذاهب الدينية والمدارس الفكرية في التاريخ.

1 - خلاص النفس.
     في الأرثوذكسية، ما هو مطلوب من الإنسان لخلاص نفسه (أي ليحقق رِضى الله أي ليحظى في القيامة العامة بالملكوت السماوي أي المشاركة في المجد الإلهي أي الجَنَّة) هو أن ينجح في السَير في القداسة ("إرادةُ الله قداستُكم"، 1تسالونيكي 4: 3؛ "كونوا قديسين لأني أنا قدوسٌ"، 1بطرس 1: 16).
     والقداسة لا تعني أن يكون الهدف هو امتلاك القدرة على صنع العجائب أو الأمور الخارقة للطبيعة، بل هي أساساً السَير في طريق التنقية اللانهائية للسلوك والتفكير والشعور. هي العمل أو السلوك الصالح مقترنٌ بالنقاء الداخلي، وأن يتم هذا بالتآزر بين جهد الإنسان الشخصي والنعمة الإلهية التي يحصل عليها من خلال مشاركته في الأسرار الكنسية. 
     هذه النعمة الإلهية هي نعمة مؤلِّهة غير مخلوقة، هي الطبيعة الإلهية بذاتها والتي أُعطيَت للبشر بفعل تجسد المسيح وصلبه وقيامته. فتكون القداسة هي الاتحاد بالله، أي المشاركة في الطبيعة الإلهية أي في الحياة الإلهية، هي "التألّه بالنعمة الإلهية غير المخلوقة"... "قد وَهَبَ لنا المواعيدَ العظمى والثمينة لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية"، 2بطرس 1: 4؛ "ليكون الجميعُ واحداً كما أنكَ أنتَ أيها الآب فيَّ وأنا فيكَ ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا"، يوحنا 17: 21. 
     الشرط الأساسي للنجاح في السَير في القداسة هو السَعي المستمر لتحجيم وتقزيم الأنانية، أي محبة الذات (أي النزعة اللاواعية لتحقيق المكانة الفوقية تجاه الآخرين والمتحكِّمة بهم، أي السَعي "لتأليه الذات بالقوى الذاتية")، المتجذِّرة في النفس البشرية (في اللاوعي النفسي) والتي هي أصل كل الشرور، لصالح نمو المحبة لله وللآخرين... "تحبُّ الربَّ إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك، هذه هي الوصية الأولى والعظمى، والثانية مثلها، تحبُّ قريبَك كنفسك"، متى 22: 37 - 39؛ والقريب هنا هو أي شخص في العالم مهما كانت فئته أو دِينه أو انتماؤه بناءً على ما ورد في لوقا 10: 29 - 37.
     لما كانت القداسة هي التغيير الشامل في كيان الإنسان، في سلوكه وتفكيره وشعوره، فكان لا بد من إعطاء النقاء الداخلي أهميته المستحقة. ويُسمى أيضاً "محاربة الأهواء" ("من القلب تخرج أفكارٌ شريرة... هذه هي التي تنجِّس الإنسانَ"، متى 15: 19 - 20؛ "طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله"، متى 5: 8). وقد كتب آباءُ الكنيسة الكثيرَ عن هذا الموضوع وعن كونه شرطاً لازماً للخلاص. بمعنى أنه حتى ولو كانت أعمالُ الإنسان صالحةً ويكثر جداً من صلواته وأصوامه، لكن كان داخله غير نقي ويعيش في مشاعر الغرور أو التكبُّر أو الحسد أو الزنا أو الكره وما شابه؛ فهو لن يحصل على الخلاص. والعكس صحيح، أي حتى ولو كانت أعمالُه سيئةً لكنه استطاع قبيل مماته من إنجاز توبة صادقة، فسيحصل على الخلاص (كمثل توبة اللص على الصليب، لوقا 23: 43).
     هذا السَير في النقاء الداخلي هو ليس بالأمر السهل بل يحتاج إلى جهاد كبير ("مَن يجاهد يضبط نفسَه في كل شيء... هكذا أُضارِبُ كأني لا أضربُ الهواءَ، بل أقمعُ جسدي واستعبده"، 1كورنثوس 9: 25- 27)، إلى تيقظ دائم وتوبة مستمرة عن أية أفكار سيئة وتقزيمها وإبعادها حتى إلى آخر لحظات العمر، وإلى الكثير من الصلوات والأصوام للنجاح في هذا المضمار... فالمؤمِنُ الأرثوذكسيُ يَتعَبُ أكثر من غيره، لكن في المقابل يكون أكثرَ في القوة النفسية والإرادة والسعادة والتغلب على كل أنواع الخوف والشخصية الإيجابية والبنَّاءة...
     واعتماداً، يجب أن تكون صلاةُ الإنسان موجَّهةً أساساً لتحقيق خلاص نفسه، أي لكي يتقبَّل اللهُ توبتَه عن خطاياه (حتى التي في التفكير والشعور) ويساعده في التنبّه عليها وعدم عودة إليها وأيضاً في أي أمر آخر يكون مساهماً في إنجاح مسيرته في القداسة. ويمكن تلخيص هذه الصلاة بالقول: "يا رب ارحمني، أو أيها الرب يسوع المسيح ابن الله ارحمني"...
     وبخصوص الصلاة من أجل ردّ المصائب وغيرها من تحسين الأحوال الدنيوية فبالطبع هي واردة، لكن شرط أن تكون مكمِّلةً لهذه الصلاة الأساسية ("اطلبوا أولاً ملكوتَ الله وبرَّه وهذه كلها تزادُ لكم"، متى 6: 33). أي أن تتلى بذهنية أن الأمر متروك لإرادة الله الذي سيحسِّن من الأحوال الدنيوية للإنسان، فقط، في حال كان هذا الأمر مساعداً له في خلاص نفسه... فإرادة الله هي أساساً أن يكون الإنسان مخلَّصاً أي مشاركاً له في مجده الإلهي، لذلك، هو قد يبقي على بعض مصائبه أو خسائره الدنيوية في حال رأى أن هذا الأمر سيساعده على خلاص نفسه ("الذي يحبُّه الربُّ يؤدِّبُه، ويجلدُ كلَّ ابن يقبَله"، العبرانيين 12: 6؛ أيضاً انظر كيف أن القديس الرسول بولس لم يستطع أن يُشفى من إحدى مشاكله الصحية بالرغم من كثرة صلواته لله بشأنها، 2 كورنثوس 12: 7 - 9).

2- العلاقة مع الآخر.
     العلاقة ، أي الموقف، من الآخر، "أحبب قريبَك كنفسك"، تأخذ الأهمية القصوى في خلاص الإنسان إلى جانب محبته الكلية لله، كما هو وارد في الوصية أعلاه.
     هذه المحبة للآخر لا يمكن أن تكون قائمة أولاً وأساساً على القيام بأعمال الخير نحوه، كالتعاطف الإنساني معه ومساعدته في مصائبه ومشاكله، بل على مساعدته في خلاص نفسه... أي في إنجاح سَعيه للتقدّس بالنعمة الإلهية، والتي هي الجوهرة الأثمن والعطية الأكبر في الوجود كونها تجعل من الإنسان شريكاً في الطبيعة الإلهية. فالحصول على هذه النعمة والنجاح في التقدّس بها (أي تألّه بها) هو كان السبب في تجسد المسيح وصلبه وقيامته.
     فمهما تمَّ تقديم مكاسب دنيوية للآخر في إطار الأعمال الخيرية نحوه، كالغذاء والدواء والمال والعمل والأمن وما شابه، كل هذا لا يُقارَن بحصوله على هذه "الجوهرة الأثمن".
     فيكون الموقف من الآخر (سواء أكان: الزوجة أم الحبيبة أم الأبناء أم الأهل أم الأقرباء أم الأصدقاء أم الحلفاء أم الأعداء أم الزملاء في الدراسة أو العمل أم الرب العمل أم أبناء المنطقة أم أبناء باقي الأديان أو أبناء الدول الأخرى أو غيرهم...) هو أساساً في العمل على خلاص نفسه. أي إرشاده إلى الإيمان الأرثوذكسي، هذا في حال كان منتمياً إلى مذهب دِيني آخر ("اذهبوا وتلمِذوا جميعَ الأمم"، متى 28: 19)، أو في مساعدته في إنجاح سَيره في القداسة في حال كان أرثوذكسياً... وعلى هذا الأساس تأتي أية أعمال خيرية نحوه لتكون مكمِّلةً في هذا الإطار.
     والعمل على خلاص نفسه للآخر، لا يمكن أن يكون من خلال استعمال القوة أو الترهيب أو الإذلال الجماعي (كما فعل المسلمون) ولا يمكن أن يكون تحت مظلة وضغوطات الاستعمار (كما فعل الكاثوليك والبروتستانت)؛ بل يجب أن يكون في إطار الاحترام الكلي لحريته والتعامل معه ووفق أقصى المعايير الأخلاقية والإنسانية، انطلاقاً من اعتبارات عدة وهي أن فَرض الدِين بالقوة:
- هو مُهين للنعمة الإلهية (أي للذات الإلهية) التي يجب أن تُعطى فقط لمن يرغب بها ويستحقها وليس لمن يرفضها أو يحتقرها أو غير مقتنع بها .
- هو متعارِض مع كرامة الإنسان التي تمَّ رفعها إلى أقصى الحدود من خلال التجسد، أي ضمّ الطبيعة البشرية إلى الطبيعة الإلهية في شخص المسيح، ودعوة الإنسان "للتأله بالنعمة" أي المشاركة في المجد الإلهي.
- هو متعارِض مع حرية الإنسان في أن يكون راغباً بإرادته بالحياة المسيحية ولكي يجاهد باذلاً أقصى جهده لإحداث التغيير الشامل في كيانه للنجاح في السَير في القداسة.
- هو متعارض مع سَعي المؤمِن في الابتعاد عن التعامل الاستعلائي والفوقي نحو الآخرين والمتحكِّم بهم.
- وغير ذلك.....
     فالأرثوذكسية هي المذهب الأكثر توافقاً مع مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، من بين كل المذاهب الدينية والمدارس الفكرية في التاريخ، والأكثر ابتعاداً عن أي تعامل فَوقي أو استعلائي أو عدائي أو عنصري وانعزالي تجاه الآخرين، أكان في مجال الحرية الدينية أم غيره.
     إضافة، ليس بالضرورة أن يتم الاهتمام بخلاص نفسه للآخر من خلال الوعظ أو الحديث معه أو المحاضرات أو الكتابات. ففي الكثير من الأحيان تكون السِيرة الصالحة لوحدها كافية. فعندما يرى الآخرُ المسيحَ في شخصك (في سلوكك وتفكيرك ونفسيتك) قد يكون هذا أكثر فاعلية من أن تحدثه ألف مرة عن المسيح. فالسِيرة الصالحة للمؤمِن تحقق هدفَين: الخلاص الشخصي له، والمساهمة في خلاص أنفس الآخرين... ("فليضئ نورُكم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالَكم الحسنة ويمجِّدوا أباكم الذي في السموات"، متى 5: 13 - 16). 
     بالتالي، وانطلاقاً من هذا الموقف من الآخرين (الأرثوذكسيين وغيرهم)، فالصلاة من أجلهم يجب أيضاً أن تكون أساساً من أجل خلاص أنفسهم. وعادة يتم التعبير عنها بالقول: يا رب ارحم عبدك فلان، أو ارحم عبيدك الموجودين في المكان الفلاني، أو العاملين في المهنة الفلانية، أو المنتمين إلى الدِين الفلاني، أو الذين هم في مرض أو سفر أو فقر أو ثراء أو رَخاء أو لهو، وغيره...
     وبخصوص الصلاة بقصد ردّ المصائب عنهم وغيرها من تحسين أحوال الدنيوية فبالطبع هي واردة لكن في السياق نفسه الوارد أعلاه، أي أن تكون مكمِّلةً لهذه الصلاة الأساسية، وأن تتلى بذهنية أن الأمر متروك لإرادة الله الذي سيحسِّن من الأحوال الدنيوية لمن يُصلّى له، فقط، في حال كان هذا الأمر مساعداً له في توبته أو تحسين سِيرته أو خلاص نفسه، كما كنا قد أوضحنا...
     إضافة، علاقة المؤمِن بالآخرين تشمل ليس فقط الأحياء بل أيضاً الأموات. فيفترَض به أن يكون عنده المحبة نحو جميع المتوفين، سواء أكانوا أرثوذكسيين أم غيرهم، وأن يصلِّي من أجل أن يرحمهم الله ( أيضاً يتم عادةً التعبير عن هذه الصلاة بالقول: يا رب ارحم عبدك فلان أو عبيدك المتوفين في المكان الفلاني أو الظرف الفلاني أو غيره).  

3 - العلاقة مع الآخر حين حصول نزاع معه.   
     للوهلة الأولى تبدو تلك القاعدة الموجودة في الإنجيل حول كيفية التصرف عند حصول النزاعات هي غير منطقية بتاتاً: "أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصَلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم"، متى 5: 44؛ "لا تقاوموا الشرَّ، بل مَن لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخرَ أيضاً"، متى 5: 39...
     فتطبيق هذه القاعدة، ووفق التفسير الظاهري لها، وبشكل منفصل عن السياق العام، والذي يعني أن يَعرُضَ الإنسانُ عن الدفاع عن نفسه في مطلق الأحوال، من شأنه أن يدخل المجتمعَ البشري في الفوضى وتصبح أية حياة مجتمعية مستحيلة...
     لكن هذا التفسير الظاهري والمنعزل عن السياق العام هو منهج خطأ... فالمنهج العلمي والصحيح في تفسير أيةِ آيةٍ أو نصٍ دِيني في أيِّ مذهب دِيني يجب أن يكون متوافقاً مع السياق العام (أي النظام العام) للعقائد والتعاليم في هذا المذهب وليس بشكل منفصل أو متناقض معه، وإلا لدَخَلَ هذا المذهبُ في التناقضات الداخلية أو أصبح بالإمكان توليد عدد كبير من المذاهب الدينية من ضمنه.       
     والسياق العام في المذهب الأرثوذكسي، وكما أوضحنا أعلاه، من حيث العلاقة مع الآخرين هو العمل على خلاص أنفسهم (إرشادهم إلى الأرثوذكسية في حال كانوا من أديان أخرى أو مساعدتهم في إنجاح سَيرهم في القداسة في حال كانوا أرثوذكسيين).
     واعتماداً، إذا ما أعرَضَ الإنسانُ عن الدفاع عن نفسه فهذا من الممكن، في حالات معيَّنة، أن يشجِّع المعتديَ على الاستمرار في شروره ويبقى خاسراً لخلاص نفسه... والعكس صحيح، أي إنه من الممكن، في حالات أخرى، أن يدفعَ هذا المعتدي إلى التوبة والابتعاد عن الشرور ويحصل على الخلاص... وذلك بحسب خصوصية كل حالة...
     إذاً، يكون التفسير للآيات الواردة أعلاه، وبالشكل الذي يتوافق مع السياق العام في الأرثوذكسية، هو كما يلي:
     بدايةً، يُفترَض بالمؤمِن أن يحبَّ جميعَ الناس ويصلِّي من أجلهم، كما أوردنا أعلاه... وفي حال حصل له أذيةٌ من شخص ما فالمفترَض به، في المرحلة الأولى، المسامحة القلبية معه، أي أن يتغلب على أية مشاعر سلبية تجاهه كالكره أو الحقد أو العدوانية أو الخوف، وهذا بالطبع ليس بالأمر السهل (وحتى قد يجد نفسه مضطراً إلى أن يبتعد عن الاشتراك في المناولة لفترة غير قصيرة بسبب عجزه عن التخلص من هذه المشاعر السلبية)، كما عليه أن يستبدل هذه المشاعر بأخرى إيجابية والتي أهمها المحبة، وأن يصلّي له. وبالطبع، ليس الهدف من الصلاة هو زيادة التحسن في الأحوال المادية لهذا المعتدي وليصبح أكثر قدرة على الأذية، بل لأجل توبته وابتعاده عن الشر ومغفرة خطاياه وكل ما هو مساهم في خلاص نفسه (يمكن أيضاً التعبير عن هذه الصلاة بالقول: يا رب ارحم عبدك فلان)...
     وبعد ذلك، في المرحلة الثانية، تأتي المسامحة السلوكية في القول والفعل، والظاهرة للعيان. لكن هذه الأخيرة هي مشروطة بأن تكون مساهمةً بخلاص نفسه للآخر. أي في حال وَجَدَ ذلك المؤمنُ - الضحيةُ أن التنازل عن بعض أو كل حقِّه (كمثل في الملاحقة القضائية أو التعويض أو الاعتذار أو الدفاع عن نفسه في وجه أية اعتداءات جسدية أو لفظية أو معنوية أو غيره) من شأنه أن يدفع  المعتديَ إلى التوبة والابتعاد عن الشر وغيره مما قد يكون مساهماً في خلاص نفسه فبإمكانه أن يقوم بذلك، وفي حال وجد أن هذا التنازل لن يؤدي إلى هذه النتيجة فالمفترَض به عدم القيام به...
     وبطبيعة الوضع، في حال كان هذا المعتدي يحاول الاعتداء بالقتل فيجوز ردعُهُ من خلال قتله دفاعاً عن النفس وفي حال عدم توفر أي خيار آخر، لأنه من البديهي أن السكوت عن هذا الأمر (وبشكل عام) لن يكون مساعداً له في خلاص نفسه.
     إضافة، هذا المؤمِنُ - الضحيةُ هو ليس فقط معنياً بخلاص نفس ذلك الطرف المعتدي، بل أيضاً بخلاص نفس أي طرف ثالث قد يكون معنيَّاً بشكل أو بآخر بهذا النزاع. أي إنه إذا وجد أن التنازل عن بعض أو كل حقِّه سيدفع هذا الطرفَ الثالثَ إلى الشر أو يزيد من شروره، فبالطبع عليه أخذ هذا الوضع بعين الاعتبار... أيضاً في هذا السياق نفسه، فإن هذا المؤمِن هو معنيٌ بخلاص نفسه شخصياً، أي إنه إذا وجد أن التنازل عن بعض أو كل حقه سيزيد بشكل كبير من مشاكل الشخصية ويجعل حياتَه مأساوية إلى حدّ يعيق مسيرته في خلاص نفسه، فعليه هنا أيضاً أن يأخذ هذا الوضع بعين الاعتبار... وبالتالي، سيكون عليه أن يقرر، فيما يتعلق بالتنازل عن بعض أو كل حقه، ما هو المناسب لأن يكون مساهماً في خلاص أنفس كل هذه الأطراف المعنيَّة. 
     باختصار، المرحلة الأولى، أي المسامحة القلبية مع المحبة والصلاة لأجل الآخر، هي دائماً ضرورية مهما كانت شِدَّة تلك الأذية التي قد تلقاها المؤمِنُ، وإلا لعجز عن السَير في النقاء الداخلي وخسر خلاصَ نفسه. أي، على سبيل المثال، حتى ولو شاهد أفرادَ عائلته يُقتَلون أمامه فالمفترَض به هنا أيضاً أن يَصِلَ إلى هذه المسامحة وإلى المحبة للقتلة والصلاة من أجلهم ... أما المرحلة الثانية، أي المسامحة السلوكية، فهي استنسابية، فتخضع الأمور لتقدير هذا المؤمِن - الضحية بأن يتنازل عن بعض أو كل حقه أو أن لا يتنازل عن أي شيء، وبما يكون مساهماً في خلاص أنفس كل الأطرف المعنيَّة، وحيث لكل حالة ظروفها وأحكامها؛ كما كنا قد أوضحنا.
     وبخصوص الأعداء المتوفين، يُفترَض بالمؤمِن اتخاذ الموقف نفسه تجاههم، أي المسامحة القلبية نحوهم والمحبة والصلاة من أجل أن يرحمهم الله، والتنازل عن بعض أو كل الحق فيما يتعلق بالنزاع معهم في حال وجد أن هذا الأمر سيكون مساهماً في خلاص أنفس باقي الأطراف (الأحياء) المعنيَّة في هذا النزاع.

4- فيما يتعلق بالحروب بين الدول.    
     المبدأ أعلاه في التعامل مع الآخرين هو يسري فقط على العلاقات بين الأفراد، حيث يكون المؤمِنُ على اطّلاع على أوضاعه الشخصية وأوضاع الطرف الآخر المعتدي وعلى أوضاع أي شخص آخر يكون معنياً بشكل أو بآخر بهذا الخلاف ويستطيع أن يقرر ما هو المناسب ليكون مساهماً في خلاص أنفس الجميع... ولا يسري هذا المبدأ على النزعات بين الدول، حيث من البديهي أن الحاكم أو المسؤول ليس بإمكانه أن يكون على اطّلاع على الأوضاع الشخصية لكل فرد في دولته وفي الدولة الأخرى المعتدية وفي أي دولة أخرى معنيَّة وليقرر ما هو المناسب ليكون مساهماً في خلاص أنفس الجميع. فكل ما بإمكان هذا الحاكم أن يقوم به هو إنشاء الجيش وتدريبه وتسليحه للدفاع عن الوطن، وبما هو حق وعدل...
     ولهذا أجازت الأرثوذكسية أن يتم إنشاء الجيش وتدريبه وتسليحه بهدف الدفاع عن الوطن. وفي الخِدَم الكنسية (الصلوات الكنسية) هناك طلبات مخصصة إلى هذا الجيش وللملوك في الحروب (كون هذه الخِدَم قد كُتِبت فيما مضى حين كانت أنظمة الحكم لا تزال ملكية). كمثل: "لنصلِّ من أجل توفيق وتأييد الجند المحبّ المسيح" (أي المباركة للجنود الذين يقومون بواجبهم بالشكل الذي يرضي الله)؛ وفي "قداس القديس يوحنا الذهبي الفم" (النص الأصلي): "من أجل ملوكنا الحسني العبادة المحفوظين من الله وجميع بلاطهم وجنودهم إلى الرب نطلب، من أجل مؤازرتهم في الحروب وإخضاع كل عدو ومحارب تحت أقدامهم إلى الرب نطلب"؛ ومما هو وارد في "قداس القديس باسيليوس الكبير": "اذكر يا رب ملوكَنا المؤمنين الحسني العبادة... توّجهم بسلاح الحق، كلّلهم بسلاح رضوانك، ظلّل على رؤوسهم في يوم القتال... أخضِع لهم كلَّ الأمم البربرية القاصدة الحروب، هَبهُم سلاماً وطيداً لا يُنتزَع"؛ وفي "كتاب الأفخولوجي الكبير" (أي كتاب الصلوات الخاص بذوي الكهنوت) يوجد صلاة تحت عنوان: "خِدمة تقال حين محاربة الأعداء ودفع هجوم الأمم الغريبة"، وعلى سبيل المثال مما هو وارد في أحد الأفاشين: "أما أنت (أيها الرب) فقادر أن تخلصنا من أعدائنا المحارِبين الكافرين، فقوِّ شعبَك وشدِّد جُندَنا وعَزِّزه في ساحة القتال، وأقهِر أعداءنا البرابرة الكافرين وأسحقهم وأبدهم"...
     مع العلم أن إحدى القواعد المتعارف عليها في اللاهوت الأرثوذكسي هي أن الليتورجيا موضوعةٌ وفق خبرة الكنيسة وأنه يمكن الرجوع إليها لمعرفة أو التأكد من العقائد والتعاليم... بمعنى أن هذه النصوص أعلاه حول مباركة الملوك والجنود أثناء القتال هي كافية بحدّ ذاتها للدلالة على موافقة الكنيسة على إنشاء الجيش وتدريبه وتسليحه بهدف الدفاع عن الوطن.
     كما من المهم الإشارة في هذا الصدد إلى وجود عدد من القديسين في الأرثوذكسية كانت مهنتهم هي الجندية.
     وفي السياق نفسه الوارد أعلاه حول أن يكون من أولويات المؤمِن الاهتمام بخلاص أنفس الآخرين والسَير في النقاء الداخلي، يكون المطلوب منه (وسواء أكان من الجنود المطلوب منهم المشاركة في القتال في الحرب أم لا) أن يقوم بالمسامحة القلبية والمحبة للحكام والجنود والمواطنين الموجودين في الدولة المعادية والصلاة لهم، أي الصلاة من أجل توبتهم وابتعادهم عن الشر ومغفرة خطاياهم وكل ما هو مساهم في خلاص نفوسهم (يمكن أيضاً التعبير عن هذه الصلاة بالقول: يا رب ارحم عبيدك)، سواء قبل حالة الحرب أم أثناءها أم بعدها؛ وفي حال وقوع قتلى نتيجة الحرب فالمفترض به اتخاذ الموقف نفسه نحو العسكريين والمدنيين القتلى من الدولة المعادية (أي المسامحة القلبية والمحبة لهم والصلاة من أجل رحمة الله لهم)؛ وفي حال كان مسؤولاً عسكرياً ووقع بين يديه أسرى حرب فالمفترض به اتخاذ الموقف نفسه نحوهم (أي بما يترتب على هذا من معاملتهم وفق أعلى المعايير الأخلاقية والإنسانية)؛ وفي حال أصبح أسيرَ حرب لدى الأعداء فالمفترض به أيضاً اتخاذ الموقف نفسه نحو سجانيه حتى ولو كان يتعرض لسوء المعاملة من قبلهم؛ وفي حال تم احتلال وطنه فالمفترض به أيضاً اتخاذ الموقف نفسه من المحتلّين، هذا، وبالطبع، مع وجود الحق الكامل له في اعتماد المقاومة المسلَّحة لتحرير وطنه...  

5 - في النهاية، قلنا أعلاه أن الرؤية الأرثوذكسية لموضوع حق استعمال القوة في الدفاع عن النفس تبقى الأكثر منطقية وأخلاقية وإنسانية.
     بمعنى أن أيَّ إنسان، وبغض النظر عن دِينه، في حال كان المطلوب منه أن يبذل أقصى جهده للوصول إلى المسامحة القلبية لمن يتلقى الأذية منهم وأن يحبهم ويصلِّي من أجل توبتهم وابتعادهم عن الشر ومغفرة خطاياهم، أي أن لا يبقى غارقاً في المشاعر السلبية تجاههم والتي قد تدمِّر حياتَه أو تدفعه إلى اتخاذ مواقف خاطئة بحقهم؛ وأيضاً أن يقوم بالتنازل عن بعض أو كل حقه في النزاع في حال وجدَ أن هكذا خطوة ستساهم في توبة وحُسن سِيرة هؤلاء المعتدين وأية أطراف أخرى معنيَّة بالنزاع؛ وأيضاً أن يقوم بالمسامحة القلبية نحو أعدائه المتوفين والمحبة والصلاة من أجل رحمة الإله لهم، وبالتنازل عن بعض أو كل الحق فيما يتعلق بالنزاع معهم في حال وجد أن هذا الأمر سيكون مساهماً في توبة وحُسن سِيرة باقي الأطراف المعنية بهذا النزاع... في هذا الوضع لا يمكن تصوّر وجود أية رؤية أخرى أو مبدأ أو قاعدة أو شريعة في كيفية التصرف أثناء حصول النزاعات تكون أكثر منطقية وأخلاقية وإنسانية من هذه الرؤية الأرثوذكسية، مقارنةً مع ما يوجد في أية مذاهب دينية أو مدارس فكرية أخرى في التاريخ.
    

عامر سمعان، كاتب وباحث
11/ 12/ 2015