ما يتضمنه كتابي "حول الأزمة اللبنانية ونهاية الزعامة العالمية للولايات المتحدة" دراسات معمقة وغير مسبوقة في السياسة والإستراتيجيا والتنمية والسوسيولوجيا؛ من بينها: أربع نظريات جديدة في الأنتروبولوجيا المجتمعية، وخطة لحلّ الأزمة في لبنان، وإستراتيجيا تعتمد وسائل المحاربة الإعلامية والسياسية والاقتصادية لهزيمة الولايات المتحدة وإنهاء زعامتها العالمية، والتي سيكون من نتائجها الاستقرار الأمني والنمو الاقتصادي والتطور في العالم العربي ومعظم دول الجنوب.

الخميس، 29 أكتوبر 2015

رداً على المطران الياس عودة

1 - مما قاله المطران الياس عودة في عظة قداس الأحد في 18/ 10/ 2015: "الكنيسة لا تبارك البتّة مَن يقاتل الآخر، أو مَن يسيء إلى الآخر.  الكنيسة لا تبارك مَن يقتل الآخر لأن حياة الإنسان هي ملك الرب، ومَن يقتل الإنسان كأنه يشاء أن يقتل الله. وفي الحقيقة يذهب المقتول إلى الرب، أما القاتل فقلبه ظالمٌ ومظلمٌ يسكنه الشيطان، والشيطان لا يدخل ملكوت الله. لذلك أيضاً الكنيسة لا تبارك الحروب ولا تقول عنها إنها مقدسة، أي لا تقدّس الحروب ولا تقبل بهذا القول. كل كنيسة يجب أن تكون هكذا إذا كانت تعلّم تعاليم الرب أو إذا كانت تسمع كلامه. لهذا السبب، نحن الأرثوذكسيين، وبالأخص في إنطاكية، فيما نتألم ونُطرد من بيوتنا ويُشنَّع بنا، لا نقاتل أعداءنا. وكما نرى، إن شعبنا في كل هذه المنطقة يترك بيوته ويهجرها ويعيش عيشة تعسة، ومنهم مَن يسافر لكنهم لا يردّون الإساءة بالمثل. لذلك، فليكن واضحاً إن كنيستنا الأرثوذكسية التي نحن أعضاء فيها، لا تبارك ولا تقدِّس الحروب ولا تقول عن أي حرب إنها مقدَّسة. ومَن يقول هذا القول، أشك في أنه سمع كلام الرب يسوع: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم".
     هذا الكلام الذي صدر عن سيادته، والذي يُفهَم منه أن المسيحية الأرثوذكسية تعارض الدخولَ في أي نزاع مسلح حتى بهدف الدفاع عن النفس وتعارض وجود جيش للدفاع عن الوطن في مواجهة أي اعتداء عسكري قد يتعرض له... أقلّ ما يقال عنه هو إنه خطأ وتشويه للمذهب الأرثوذكسي. هذا المذهب الذي هو الأكثر منطقية وأخلاقية وإنسانية بين جميع المذاهب الدينية التي عرفها التاريخ.
     فالأرثوذكسية تجيز تماماً إنشاء الجيش وتدريبه وتسليحه والتصنيع العسكري والأبحاث والدراسات العسكرية وما شابه، بهدف الدفاع عن الوطن، وتبارك هذا الجيش وتصلّي له من خلال الكنيسة... كما أنها حتى لا تعارض قيام المؤمِن بقتل شخص آخر كان يحاول الاعتداء عليه بالقتل، في حال عدم توفر خيار آخر لردعه...
     سنتطرق فيما يلي إلى مسألة حق الدفاع عن النفس في الأرثوذكسية على الصعيدين الفردي والجماعي، ثم إلى دعوة سيادة المطران للمسيحيين الأرثوذكسيين في هذه المنطقة إلى عدم الدفاع عن أنفسهم، ثم إلى حديثه عن "الحرب المقدَّسة" المزعومة.

2- توضيحنا لمسألة حق الدفاع عن النفس في الأرثوذكسية سيكون من خلال تفسير الآيات: "لا تقاوموا الشرَّ، بل مَن لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضاً"، متى 5: 39، "أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصَلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم"، متى 5: 44، وما شابهها.
     بدايةً، المنهج العلمي والصحيح في تفسير أيةِ آيةٍ أو نصٍ ديني في أيِّ مذهب ديني يجب أن يكون متوافقاً مع السياق العام (أي النظام العام) للعقائد والتعاليم في هذا المذهب وليس بشكل منفصل أو متناقض معه، وإلا لدَخَلَ هذا المذهبُ في التناقضات الداخلية أو أصبح بالإمكان توليد عدد كبير من المذاهب الدينية من ضمنه.
     السياق العام للعقائد والتعاليم في المسيحية الأرثوذكسية، وفيما يتعلق بعلاقة المؤمِن مع نفسه ومع الآخرين، هي أنه المطلوب منه، ولخلاص نفسه، أن يسعى في القداسة والتي هي طريق التنقية اللانهائية للسلوك والتفكير والشعور. هي الاتحاد بالله، أي المشاركة في الطبيعة الإلهية أي في الحياة الإلهية... هي النجاح في "التألّه بالنعمة الإلهية غير المخلوقة" التي يحصل عليها المؤمِنُ من خلال مشاركته في الأسرار الكنسية... "قد وَهَبَ لنا المواعيد العظمى والثمينة لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية"، 2بطرس 1: 4؛ "ليكون الجميعُ واحداً كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيكَ ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا"، يوحنا 17: 21.  
     الشرط الأساسي للنجاح في السَير في هذا الطريق هو السَعي المستمر لتحجيم وتقزيم الأنانية، أي محبة الذات، المتجذِّرة في النفس البشرية (في اللاوعي النفسي) والتي هي أصل كل الشرور، لصالح نمو المحبة لله وللآخرين... "تحبُّ الربَّ إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك، هذه هي الوصية الأولى والعظمى، والثانية مثلها، تحبُّ قريبَك كنفسك"، متى 22: 37 - 39)، والقريب هنا هو أي شخص في العالم مهما كانت فئته أو دينه أو انتماؤه بناءً على ما ورد في لوقا 10: 29 - 37.
     الترجمة الأساسية لموضوع محبة الآخر، وقبل أن تكون في أعمال الخير والرحمة معه، هي في السَعي لكي يحصل بدوره على تلك النعمة الإلهية وينجح في مسيرة التقدّس بها. والتي هي الجوهرة الأثمن في الوجود والعطية الأكبر كونها تجعل من الإنسان شريكاً في الطبيعة الإلهية. فالحصول على هذه النعمة والنجاح في التقدّس بها (أي تألّه بها) كان السبب في تجسد المسيح وصلبه وقيامته (ومن هنا يتضح لنا القيمة الكبيرة والعالية المعطاة للإنسان في الأرثوذكسية والتي هي أكثر مما تكون في أي مذهب ديني آخر في التاريخ).
     هذه المحبة اللانهائية نحو الآخر لا تكون في الاستعلاء أو الانعزال عنه بل في التواضع نحوه والانفتاح عليه والاهتمام به إلى أقصى الحدود، بسبب كونه مدعواً لحيازة تلك النعمة الإلهية وبهدف إنجاح سَعيه في التقدّس بها. هذه المحبة والتواضع والانفتاح والاهتمام بالآخر مهما كان دينه أو انتماؤه، في أبعادها، هي غير موجودة في أي مذهب ديني آخر (من هنا يتضح لنا أيضاً كيف أن الأرثوذكسية هي أكثر مذهب ديني في التاريخ يتوافق مع التعايش مع الآخرين ومبادئ حقوق الإنسان).     
     وانطلاقاً من هذا الموقف من الآخر، فمن البديهي، أنه في حال صدر عنه شرورٌ من شأنها أن تعيق مسارَه، أو مساراتِ غيره، في هذه القداسة فيكون المطلوب هو ردعه عن هذه الشرور، ليس فقط من خلال النصح والإرشاد بل أيضاً من خلال السلوك الجازر إن تطلب الأمر. ومن البديهي أيضاً أنه إذا وصلت تلك الشرور إلى مستوى محاولته قتل الآخرين فيجوز هنا الدفاع عن النفس حتى وإن تطلب الأمر أن يتم قتله، في حال عدم توفر خيار آخر؛ لأن السماح له بقتل الآخرين ظلماً لن يكون (بشكل عام) مساعداً له للنجاح في السَير في طريق القداسة.  
     بالتالي، وفيما يتعلق بتفسير تلك الآيات موضوع حديثنا، أولاً يُفترَض بالمؤمِن أن يحبَّ جميعَ الناس ويصلِّي من أجلهم، بغض النظر أكانوا أصدقاءه أم أعداءه، قريبين منه أم بعيدين، يعرفهم أم لا يعرفهم، من دينه أم من خارجه. ويكون الهدف الأساسي من صلاته هو أن يحصلوا بدورهم على تلك "الجوهرة الأثمن" وأن يتوبوا عن سيئاتهم وينقُّوا ذواتهم وينجحوا في مسيرة التقدّس بها. وعادة يتم التعبير عن هذه الصلاة بالقول: يا رب ارحم عبدك فلان، أو ارحم عبيدك الموجودين في المكان الفلاني، أو العاملين في المهنة الفلانية، أو المنتمين إلى الدين الفلاني، أو الذين هم في مرض أو سفر أو فقر أو ثراء أو رَخاء أو لهو، وغيره...    
     وفي حال حصل لهذا المؤمِن أذيةٌ من شخص ما فالمفترَض به، في المرحلة الأولى، المسامحة القلبية معه، أي أن يتغلب على أية مشاعر سلبية تجاهه كالكره أو الحقد أو العدوانية أو الخوف وأن يستبدلها بالمشاعر الإيجابية والتي أهمها المحبة، وهذا بالطبع ليس بالأمر السهل؛ كما عليه أن يصلي له. وبالطبع، ليس الهدف من الصلاة هو زيادة التحسن في أحواله المادية وليصبح أكثر قدرة على الأذية، بل لكي يرشده الله إلى ما هو خير ولخلاص نفسه، أي لكي يتوب عن شروره ويحصل على تلك النعمة الإلهية وينجح في مسيرة التقدّس بها (هنا أيضاً يتم عادة التعبير عن هذه الصلاة بالقول: يا رب ارحم عبدك فلان)...  
     وبعد ذلك، في المرحلة الثانية، تأتي المسامحة السلوكية في القول والفعل، والظاهرة للعيان. لكن هذه الأخيرة هي مشروطة بخلاص نفسه للآخر. أي في حال وجد ذلك المؤمنُ - الضحيةُ أن التنازل عن بعض أو كل حقه (كمثل في الملاحقة القضائية أو التعويض أو الاعتذار أو الدفاع عن نفسه في وجه أية اعتداءات جسدية أو لفظية أو معنوية أو غيره) من شأنه أن يدفع  المعتديَ إلى التوبة والابتعاد عن الشر فبإمكانه أن يقوم بذلك، وفي حال وجد أن هذا التنازل لن يؤدي إلى هذه النتيجة فالمفترَض به عدم القيام به... وبطبيعة الوضع، في حال كان هذا المعتدي يحاول الاعتداء بالقتل فيجوز ردعُهُ من خلال قتله دفاعاً عن النفس وفي حال عدم توفر أي خيار آخر، لأنه من البديهي أن السكوت عن هذا الأمر (وبشكل عام) لن يكون مساعداً له في خلاص نفسه.
     إضافة، هذا المؤمِنُ - الضحيةُ هو ليس فقط معنياً بخلاص نفس ذلك الطرف المعتدي، بل أيضاً بخلاص نفس أي طرف ثالث قد يكون معيناً بشكل أو بآخر بهذا النزاع. أي إنه إذا وجد أن التنازل عن بعض أو كل حقه سيدفع هذا الطرفَ الثالثَ إلى الشر أو يزيد من شروره، فبالطبع عليه أخذ هذا الوضع بعين الاعتبار... أيضاً في هذا السياق نفسه، فإن هذا المؤمِن هو معنيٌ بخلاص نفسه شخصياً، أي إنه إذا وجد أن التنازل عن بعض أو كل حقه سيزيد بشكل كبير من مشاكل الشخصية ويجعل حياتَه مأساوية إلى حدّ يعيق مسيرته في خلاص نفسه، فعليه هنا أيضاً أن يأخذ هذا الوضع بعين الاعتبار... وبالتالي، سيكون عليه أن يقرر، فيما يتعلق بالتنازل عن بعض أو كل حقه، ما هو مناسب لخلاص أنفس كل هذه الأطراف المعنيَّة. 
     باختصار، المرحلة الأولى، أي المسامحة القلبية، هي دائماً ضرورية مهما كانت شِدَّة تلك الأذية التي قد تلقاها المؤمِنُ، وإلا لعجز عن السَير في النقاء الداخلي وخسر خلاصَ نفسه. أي، على سبيل المثال، حتى ولو شاهد أفرادَ عائلته يُقتَلون أمامه فالمفترَض به هنا أيضاً أن يَصِلَ إلى هذه المسامحة وأن يُصَلِّي من أجل القتلة... أما المرحلة الثانية، أي المسامحة السلوكية، فهي استنسابية، فتخضع الأمور لتقدير هذا المؤمِن - الضحية بأن يتنازل عن بعض أو كل حقه أو أن لا يتنازل عن أي شيء، وبما يساهم في خلاص أنفس كل الأطرف المعنية، وحيث لكل حالة ظروفها وأحكامها؛ كما كنا قد أوضحنا.
     وهذا هو التفسير الصحيح للآيات "لا تقاوم الشر، بل مَن لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضاً" وللأخرى التي تشابهها...
     فالتفسير لهذه الآيات بالشكل السطحي ومن خارج السياق العام في الأرثوذكسية، والذي يعني أن يمتنع الإنسانُ، في مطلق الأحوال، عن الدفاع عن نفسه، يجعل منها غير منطقية البتة. وقد قلنا أعلاه إن هذا المنهج في التفسير هو غير صحيح وغير علمي. أما عندما يتم التفسير لها بالمنهج العلمي الصحيح أي من ضمن السياق العام، وكما هو الحال في المذهب الأرثوذكسي، فتصبح هي الأكثر سمواً ومنطقية وأخلاقية وإنسانية فيما يتعلق بعلاقة الإنسان مع الآخرين عند وقوع الخلافات والعداوات، مقارنةً بما هو الوضع في أي مذهب ديني آخر في التاريخ.
     هذا المبدأ في التعامل مع الآخرين هو يسري فقط على العلاقات بين الأفراد، حيث يكون المؤمِنُ على اطّلاع على أوضاعه الشخصية وأوضاع الطرف الآخر المعتدي وعلى أوضاع أي شخص آخر يكون معنياً بشكل أو بآخر بهذا الخلاف ويستطيع أن يقرر ما هو المناسب لخلاص أنفس الجميع... ولا يسري هذا المبدأ على النزعات بين الدول، حيث من البديهي أن الحاكم أو المسؤول ليس بإمكانه أن يكون على اطّلاع على الأوضاع الشخصية لكل فرد في دولته وفي الدولة الأخرى المعتدية وفي أي دولة أخرى معنيَّة وليقرر ما هو المناسب لخلاص أنفس الجميع. فكل ما بإمكان هذا الحاكم أن يقوم به هو إنشاء الجيش وتدريبه وتسليحه للدفاع عن الوطن، وبما هو حق وعدل...
     ولهذا أجازت الأرثوذكسية أن يتم إنشاء الجيش وتدريبه وتسليحه بهدف الدفاع عن الوطن. وفي الخِدَم الكنسية (الصلوات الكنسية) هناك طلبات مخصصة إلى هذا الجيش وللملوك في الحروب (كون هذه الخِدَم قد كُتِبت فيما مضى حين كانت أنظمة الحكم لا تزال ملكية). كمثل: "لنصلِّ من أجل توفيق وتأييد الجند المحبّ المسيح" (أي المباركة للجنود الذين يقومون بواجبهم بالشكل الذي يرضي الله)، وكمثل ما يقوله الكاهن في "قداس باسيليوس": "أذكر يا رب ملوكَنا المؤمنين الحسني العبادة... توّجهم بسلاح الحق، كلّلهم بسلاح رضوانك، ظلّل على رؤوسهم في يوم القتال... أخضِع لهم كل الأمم البربرية القاصدة الحروب، هَبهُم سلاماً وطيداً لا يُنتزَع". وفي "كتاب الأفخولوجي الكبير" (أي كتاب الصلوات الخاص بذوي الكهنوت) يوجد صلاة تحت عنوان: "خِدمة تقال حين محاربة الأعداء ودفع هجوم الأمم الغريبة"، وعلى سبيل المثال مما هو وارد في أحد الأفاشين: "أما أنت (أيها الرب) فقادر أن تخلصنا من أعدائنا المحارِبين الكافرين، فقوِّ شعبَك وشدِّد جُندَنا وعَزِّزه في ساحة القتال، وأقهِر أعداءنا البرابرة الكافرين وأسحقهم وأبدهم". ومن المهم الإشارة في هذا الصدد إلى وجود عدد من القديسين في الأرثوذكسية الذين كانت مهنتهم هي الجندية.
     وهكذا نكون قد أوضحنا كيف أن تصريح المطران عودة بأن الأرثوذكسية لا تبارك أي حرب وترفض أي قتل (في كل الظروف وحتى بهدف الدفاع عن الوطن والذات)... هو خطأ وتشويه للأرثوذكسية.
     مع العلم أن هذه التعاليم فيما يتعلق بإقرار الكنيسة في الحق في الدفاع عن الوطن والمباركة والصلاة من أجل الجيش هي واضحة ولا تحتاج إلى تعمق لاهوتي لفهمها، ويكفي أن يستمع المؤمِنُ إلى ما يقال في الخدم الكنسية، وأن يطَّلع على سِيَر حياة بعض القديسين الذين كانت مهنتهم الجندية؛ حتى يفهم هذا الموضوع.  

  3 - بخصوص ما يطلبه المطران عودة، وبكل صراحة ووضوح، من المسيحيين الأرثوذكسيين في "الكرسي الأنطاكي" (أي في سورية ولبنان والعراق...) أن لا يدافعوا عن أنفسهم في وجه الجرائم والأخطار التي تهددهم حتى وإن اضطروا إلى ترك مناطقهم التي صمدوا فيها طيلة ألفي عام والمهاجرة منها!!!!!
     الردّ هو التالي: ما هو مطلوب منا نحن الأرثوذكسيين في هذه المناطق (وخاصة في سورية والعراق)، وحين تعجز القوى المسلحة الرسمية عن حمايتنا، هو حمل السلاح والدفاع عن وجودنا وأعراضنا في مواجهة أبشع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي تستهدفنا... فنحن أصحاب الأرض الأصليين وكنّا دوماً الأكثر تعايشاً مع الآخرين وانفتاحاً نحوهم وتمسكاً بالوحدة الوطنية، وبالتالي، يكون لنا الحق قبل غيرنا في التواجد على هذا الأرض وأن نعيش فيها بكل كرامتنا وحقوقنا.  
    
4 - عظة المطران التي هي موضوع حديثنا، المرجَّح أنها ليست مجرد عظة في موضوع لاهوتي، بل إن لها دلالتها السياسية بالنظر إلى الظرف التي قيلت فيه والعبارات المستخدَمة فيها... فإذا كان هذا المطران هو إلى جانب المعارضة السورية وضد النظام السوري وضد التدخل العسكري الروسي في سورية، أي كما هو حال فريق 14 آذار في لبنان، فليقل هذا الأمر علانية وصراحة وبوضوح. لا يوجد أية مشكلة، هذا حقه في حرية الرأي السياسي... لكن المشكلة الكبيرة والتي لا يمكن السكوت عنها هي في التشويه أو التلاعب بالتعاليم الأرثوذكسية لتبرير موقف سياسي ما. وبالأخص عندما يصدر هذا التصرف عن أحد الأساقفة الذين يُفترَض بهم أن يكونوا المؤتمنين قبل غيرهم في المحافظة على العقائد والتعاليم المسيحية.
    إضافة أن يقوم هذا المطران بالدعوة الصريحة للمسيحيين الأرثوذكسيين في هذه المنطقة إلى عدم الدفاع عن أنفسهم، وخاصة في هذا الظرف بالذات حيث وجودهم، كما وجود باقي الأقليات الدينية، هو مهدد أكثر من أي وقت مضى، فلا يمكن التعليق إلا: قد طفح الكيل.

5 - أخيراً، بخصوص تصريح المطران أنه لا يوجد حرب مقدَّسة في الأرثوذكسية، وإذا كان قصده هو ما صدر عن الكنيسة الروسية الأرثوذكسية بخصوص التدخل العسكري الروسي في سورية، فيجدر التوقف عند حقيقة ما قاله أحد المسؤولين في هذه الكنيسة، الأب تشابلين، في هذا الصدد، فهو لم يعلن بأي شكل أن الكنيسة الروسية قد أعلنت حرباً أو معركة مقدَّسة أو جهاداً مقدساً مسيحياً أو أرثوذكسياً في سورية... ما قد قاله هو إن المعركة ضد الإرهاب هي "أخلاقية بامتياز، وإن أردتم، فهي معركة مقدسة"... والمقصود بهذا هو أنه بالنظر إلى فداحة الجرائم المرتكَبة من قبل الإرهابيين في سورية والعراق يصبح المطلوب من أبناء أي دين أن يعتبروا أن وقفها، حتى من خلال العمل العسكري، هو أمر أخلاقي؛ وأن أخلاقيته هي مهمة إلى درجة أنها توازي أهمية ما هو مقدَّس عندهم...
     فقام إثر ذلك الكثيرُ من السياسيين والوسائل الإعلامية في مناطق كثيرة من العالم والداعمين للمعارضة السورية بالتحريف والتحوير (كذباً ونفاقاً) لتصريح الأب تشابلين وقالوا إن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أعلنتها حرباً مقدَّسة دينية - أرثوذكسية - صليبية ضد الإسلام والمسلمين... وهدفهم هو تصوير وجود أصولية أرثوذكسية في روسيا معادية للإسلام والمسلمين وبأنها هي التي كانت وراء التدخل العسكري الروسي في سورية، ولكي يتم استغلال هذا الأمر في إحباط وتقويض هذا التدخل...
     وكان قد صدر عن "المركز الأنطاكي الأرثوذكسي للإعلام" في 2/ 10/ 2015 في البلمند بياناً توضيحاً لحقيقة ما قاله الأب تشابلين وأنه قد تم التحريف له (انظر: http://goo.gl/vDZZ95)... وقامَ إثر ذلك الكثيرُ من الوسائل الإعلامية من صحف ومواقع على الانترنت بنشر هذا البيان أو توضيح هذه المسألة. والمستغرَب هو كيف أن سيادة المطران لم يطَّلع على هذا البيان؟؟؟؟؟ ليأتي تصريحه في هذا الوقت مساهماً بدوره في الإساءة للكنيسة الروسية.
     أنظر أيضاً تصريحاً آخر للأب تشابلين في 19/10/ 2015 يوضح فيه أن روسيا لا تَعتبِر التدخل العسكري في سورية حرباً دينية كون الكثير من المسلمين هم إلى جانبها، وأن الدوافع الروحية والأخلاقية لهذا التدخل "تكمن في كِلا التعليمَين المسيحي الأرثوذكسي والإسلامي التقليدي":
     أيضاً للتوسع في شرح كلام الأب تشابلين والأسباب في تحويره وتحريفه، انظر مقالتي: ""الحرب المقدسة" الروسية والتضليل في LBCI":



عامر سمعان، كاتب وباحث
29/ 10/ 2015




السبت، 10 أكتوبر 2015

"الحرب المقدسة" الروسية والتضليل في LBCI


    لم يصدر أي بيان رسمي من قبل الكنيسة الروسية يعتبِرُ التدخلَ العسكري الروسي في سورية حرباً مقدسة. الذي جرى هو تحوير للكلام وتضليل إعلامي من قبل سياسيين ومؤسسات إعلامية غربية وعربية، داعمين للمعارضة السورية ولداعش والنصرة وأخواتهما، بهدف تصوير وجود أصولية مسيحية أرثوذكسية متطرفة في روسيا معادية للمسلمين والإسلام كانت الدافع الأساسي لهذا التدخل العسكري الروسي في سورية... ولكي يساهم هذا الأمر وما سيترتب عليه في تقويض هذا التدخل لاحقاً.
     ما قد قاله بطريرك الكنيسة الروسية أنه هناك إرهاب يستهدف كلا المسيحيين والمسلمين في سورية، وإن روسيا قررت من خلال العمل العسكري حماية الشعب السوري من هذا الإرهاب، وأنه يأملُ أن يعيدَ هذا الأمرُ السلامَ والحقَ إلى سورية. وما قد قاله الأب تشابلين (رئيس دائرة العلاقات بين الكنيسة والمجتمع في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية): "موقف الأديان المختلفة في روسيا (المسيحية والإسلام واليهودية والبوذية) هو موقف متعاطف مع الدولة الروسية... الدور الأخلاقي الذي تلعبه روسيا في المناطق المختلفة بالعالم وخصوصاً في الشرق الأوسط، هذا الدور يُعنى بالضعفاء والمعنَّفين، وبحماية المسيحيين الذين يعيشون بالشرق الأوسط، وهؤلاء الذين يتعرضون اليوم للإبادة الجماعية... الإرهاب هو تهديد خطير جداً لكل العالم، وهو يحارب بلدنا الذي هو من أقوى بلاد العالم... غير ممكن أن يُعطى أي تبرير للإرهاب. لذلك المعركة ضد الإرهاب هي من أجل العدالة في العالم، وكرامة الشعب المضطهَد. هذه المعركة أخلاقية بامتياز، وإن أردتم، فهي معركة مقدسة. واليوم روسيا ربما هي أهم قوة ناشطة في العالم تحارب الإرهاب، ليس من أجل مصلحة سياسية لها، ولكن لأن الإرهاب غير أخلاقي. ومن الضروري أن ندافع عن الضعفاء، وبالأخص يجب أن يُحمى الشعب الواقع تحت التهديد والتهجير والإبادة الجماعية".
     هذا باختصار ما قد قاله هذان المسؤولان في الكنيسة الروسية.
     للوصول إلى النص الكامل، وعن أنه قد تم تحريف الكلام الصادر عن الأب تشابلين "بترجمة غير دقيقة تدل على سوء فهم أو استخدام" انظر البيان الصادر عن المركز الأنطاكي الأرثوذكسي للإعلام في بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، والصادر بتاريخ: 2/ 10/ 2015، على الرابط: http://goo.gl/vDZZ95
     للتوضيح أكثر بخصوص تصريح الأب تشابلين، فلنفترِض أنه في بلد ما في العالم يحدث فيه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية شبيهة بالتي تحدث في سورية والعراق من: إبادة جماعية بحق أبناء الأقليات الدينية وتهجير جماعي لهم ومجازر جماعية بحقهم وتهديم معابدهم وطمس هويتهم وتاريخهم وسَبي فتياتهم ونسائهم ووضعهن في معاقل الاغتصاب الجماعي وبيعهن في أسواق النخاسة, وارتكاب مختلف أشكال العنف الدموي بحق الأعداء كتقطيع الرؤوس والذبح والنحر والحرق مع تصوير هذه المشاهد والمفاخرة بها ونشرها في أوسع نطاق ممكن، وتهديم ومحو الآثار التي تعود إلى آلاف السنين، وغيره... في هذا الوضع، يصبح المطلوب من أبناء أي دين ( في المسيحية، أو الإسلام، أو اليهودية، أو البوذية، أو الهندوسية، أو غيرها...) أن يعتبروا أن وقف هذه الجرائم، حتى من خلال العمل العسكري، هو أمر أخلاقي؛ وأن أخلاقيته هي مهمة إلى درجة أنها توازي أهمية ما هو مقدَّس عندهم بالنظر إلى فداحة ووحشية تلك الجرائم التي تُرتكَب.   
     هذا، ببساطة، المقصود بما قاله الأب تشابلين، وكما هو واضح من كلامه الوارد أعلاه. ولم يقل هو، أو غيره من المسؤولين في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، إن التدخلَ العسكري الروسي في سورية هو حربٌ مقدسة، أو إن هذه الكنيسة أعلنت حرباً أو معركة مقدَّسة أو جهاداً مقدَّساً مسيحياً أو أرثوذكسياً (كما تم تصوير الأمور في الوسائل الإعلامية).
     ونذكر في هذا السياق أن عدداً من أهم الشخصيات الإسلامية في روسيا صدر عنها تأييدٌ للتدخل العسكري الروسي في سورية واعتبروه حرباً أخلاقية ضد الإرهاب ودفاعاً عن الإسلام وما شابه، كمثل: رئيس مجلس المفتين في روسيا، ورؤساء جمهوريات الشيشان وإنغوشيا وداغستان في الاتحاد الروسي.
     إذاً، عَلامَ كل تلك الضجة العالمية والعربية، من قبل سياسيين وإعلاميين، الذين يقولون إن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أعلنت التدخلَ الروسي في سورية حرباً مقدَّسة وجهاداً مقدَّساً ؟ وإنها قامت بإضفاء الطابع الديني المسيحي الأرثوذكسي على هذه الحرب ؟ وإن هناك حرباً صليبية جديدة من قبل هذه الكنيسة والدولة روسية بحق المسلمين والإسلام في هذه المنطقة ؟
     الجواب هو أن قسماً من هؤلاء السياسيين والإعلاميين هو، بلا شك، على جهل بحقيقة ما قد قاله الأب تشابلين نتيجة تضليل إعلامي وما شابه حول هذه المسألة... لكن القسم الآخر منهم قد تعمَّد التحوير والتحريف والتضليل وإثارة الضجة الإعلامية. والهدف هو، كما ذكرنا أعلاه، تصوير وجود أصولية مسيحية أرثوذكسية متطرفة في روسيا معادية للمسلمين والإسلام كانت الدافع الأساسي للتدخل العسكري الروسي في سورية، فيفقدُ بذلك هذا التدخلُ مبرراته الأخلاقية والإنسانية؛ الأمر الذي يساهم: في التقليل من التأييد له في مناطق مختلفة كثيرة من العالم، وفي ازدياد التأييد لداعش والنصرة وأخواتهما في العالم الإسلامي في مواجهة هذا العدو "الصليبي الجديد" القادم من الشمال، وفي حصول أعمال انتقامية واسعة بحق المسيحيين، خاصة منهم الأرثوذكس، في هذه المنطقة... فيساهم كل هذا الوضع في الإحباط والتقويض لهذا التدخل العسكري...  
     مَن يريد أن يعترض على التدخل العسكري الروسي في سورية، هذا حقه بموجب حرية العمل السياسي والإعلامي... لكن أن يتم الاعتراض من خلال الطريقة الواردة أعلاه، فهذا هو العمل السياسي والإعلامي في أحط وأحقر أشكاله. 
     نأتي الآن إلى الوضع في لبنان.
     كما ذكرنا أعلاه، كان قد صدر ذلك البيان عن المركز الأنطاكي الأرثوذكسي للإعلام والذي يوضح حقيقة الكلام الذي صدر عن الأب تشابلين. وكانت أكثر من صحيفة لبنانية قد قامت بنشر هذا البيان، أو قامت بتوضيح حقيقة هذه المسألة؛ وكذلك الأمر مع عدد كبير من مواقع الانترنت وعلى صفحات التواصل الاجتماعي. 

     بتاريخ 8/ 10/ 2015 وعلى شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال (LBCI) في برنامج "نهاركم سعيد" الذي كانت تقدمه الإعلامية ديما صادق، قد تكلمت خلاله مع ضيفها حازم الأمين (كاتب وصحفي) عن موضوع الضجة العالمية الناتجة عن تصريح الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بأن الحرب (الروسية) في سورية هي حرب مقدَّسة، وعن إضفاء الصبغة المسيحية عليها...

     عن هذه الحلقة انظر الرابط: http://goo.gl/thzt4u

     هذه المؤسسة الإعلامية هي من بين الأفضل والأعرق في لبنان، وكذلك هذه الإعلامية هي من بين الأهم في لبنان؛ لهذا من المستبعَد جداً أنه تم ارتكاب هذا الخطأ عن جهل وعن عدم اطلاع على البيان الذي صدر عن المركز الأرثوذكسي للإعلام وعلى كل تلك المقالات والكتابات التي أوضحت حقيقة تصريح الأب تشابلين. والتفسير المرجَّح هو أنه لما كانت هذه المؤسسة معروف عنها الموالاة لفريق 14 آذار ومعاداة النظام السوري، فتكون قد ركبَت في تلك الموجة في التضليل وفي تصوير وجود أصولية مسيحية أرثوذكسية متطرفة في روسيا معادية للمسلمين وللإسلام كانت الدافع الأساسي للتدخل العسكري الروسي في سورية...
     والأمر المثير للسخرية هنا هو أن هذه المؤسسة كانت دائماً ومنذ نشأتها تقدِّم نفسها على أنها المدافعة عن حقوق المسيحيين وتقوم ببثّ الصلوات والقداديس والاحتفالات الدينية المسيحية...


عامر سمعان، كاتب وباحث
10/ 10/ 2015