مع بدء انتخاب رئيس جمهورية جديد في
لبنان، لا بد من تسليط الأضواء على طروحات فريق اليمين المسيحي، أي مسيحيي 14
آذار، وإظهار ما فيها من نزعة عنصرية تجاه المسلمين في لبنان والمنطقة، ولا سيما
أن أهم مرشحَين للرئاسة، أي سمير جعجع وأمين الجميّل، هما من ضمن هذا الفريق.
هذا الفريق، كان يُعرَف قبل الحرب الأهلية باليمين وأيضاً بالمارونية السياسية نسبةً إلى تمسّكه بالامتيازات السياسية التي كانت
للموارنة والتي كانت تفوق تلك المخصصة لأية طائفة أخرى، وبعد هذه الحرب أصبح يُعرَف بالمعارضة المسيحية، وحالياً يُعرَف بمسيحيي 14
آذار. ومع التنبيه إلى أن المقصود حالياً بهذا الفريق ليس جميع مسيحيي 14 آذار بل
القسم الأكبر من هؤلاء، وبالتحديد الذين مواقفهم هي امتداد لمواقف ما كان يُعرَف
بالمعارضة المسيحية والمارونية السياسية.
أهم موقف كان ولا يزال عند هذا الفريق منذ عشرات السنوات هو تصوير أن الأخطار
والأطماع الأساسية التي يتعرض لها لبنان هي تلك المتأتية من الجوار العربي، وتقديم
نفسه على أنه المدافع الأول عن "حرية وسيادة واستقلال" لبنان بوجه هذه
الأخطار والأطماع. فنراه دائماً يحاول تصوير وجود وحش (أو غول أو بعبع) في الجوار
العربي يريد ابتلاع هذا البلد، هذا الوحش كان أولاً المد الناصري ثم أصبح الفلسطينيين
ثم السوريين والآن هو السوريون والإيرانيون.
سنقوم فيما يلي بتوضيح السبب الذي يجعل هذا الفريق المسيحي أكثر المغالين
في التحدث عن هذه الأخطار والأطماع العربية المزعومة، وكيف أن هذا الموقف يصبّ فيما
لديه من عنصرية تجاه المسلمين.
أولاً لا بد من التنبيه إلى أن ليس كل مسيحيي لبنان هم من ضمن هذا التوجّه.
فمسيحيو لبنان كانوا دائماً من ضمن توجهين أساسيين. الأول هو هذا اليمين المسيحي،
والثاني هم من ضمن الفريق العروبي أو الوطني (حالياً 8 آذار). كما لا بد من التنبيه
إلى أن اليمين المسيحي هو ليس مختصاً بالموارنة، بل كان ولا يزال يوجد فيه موارنة
كما غيرهم من أبناء باقي الطوائف المسيحية. والحال نفسه مع الفريق المسيحي الآخر
الذي كان ولا يزال يوجد فيه هكذا تنوع طائفي مسيحي.
بهدف الوصول إلى التفسير الصحيح والعلمي (الأنتروبولوجي) لأي موقف سياسي
يصدر عن أية فئة لفترة طويلة من الزمن، هذا لا يمكن أن يتم إلا من خلال ربطه مع
بقية المواقف التي تصدر عنها والتي تعاش من قبل قيادييها كما من قبل قاعدتها
الشعبية.
فيكون الوصول إلى التفسير الصحيح والعلمي للموقف الصادر عن اليمين المسيحي والمتعلق بتصوير
دائم لوجود وحش في الجوار العربي يريد ابتلاع لبنان، لا يمكن أن يتم إلا من خلال ربطه مع بقية
المواقف التي كانت ولا تزال تصدر منذ عشرات السنوات عن هذا الفريق، والتي تعاش من
قبل قياداته كما من قبل قاعدته الشعبية.
سنقوم فيما يلي بإجراء هكذا ربط لمجمل مواقف هذا الفريق، في محاولة لفهم
عقليته ودوافعه وطموحاته.
نرى أن هذا الفريق يتحدث أيضاً في، قراءته الخاصة للتاريخ، عن أن لبنان كان
ولا يزال منذ الفتح الإسلامي "بلد الملجأ" الذي يحمي الملتجئين إليه من المسيحيين وغيرهم من باقي
المضطهدين في الجوار من قِبَل الأكثرية المسلمة، وعن أن المسيحيين في هذه المنطقة
كانوا ولا يزالون منذ الفتح الإسلامي معرَّضين لاضطهادات وتجاوزات من قِبَل الأكثرية
المسلمة. فيكون مقصَد هذا الفريق من هذه
المواقف هو تصوير أن الدافع الحقيقي من الأخطار والأطماع العربية على لبنان هو هذا
الكره الطائفي القديم - الجديد من قبل المسلمين نحو المسيحيين؛ كون أكثرية سكان
الجوار العربي هم من المسلمين وكون لبنان هو بلد الملجأ للمسيحيين.
وقد كان قياديو
هذا الفريق يتحدثون عن هذا الأمر صراحة قبل وأثناء الحرب الأهلية، فيقولون إن
الهدف الحقيقي من التوترات الأمنية المستمرة في هذا البلد هو ليس الإصلاحات
السياسية أو رفع الغبن بل النَيل من المسيحيين أو من هذا البلد كملجأ أو حصن لهم
وإلغاء الوجود المسيحي في المنطقة، و"إن المسيحيين لن يصبحوا مهجَّرين
كالفلسطينيين"، و"إن لبنان هو شوكة في عيون المسلمين لأنه البلد العربي
الوحيد الذي يُحكَم من قِبَل المسيحيين"، وإنه يوجد خوف دائم عندهم، وما إلى ذلك...
أما بعد الحرب الأهلية فقد أصبحوا يتحدثون عن هذا الأمر أكثر الأحيان بشكل
غير مباشر، كمثل التحدث عن الغبن والتهميش للمسيحيين كنتيجة للوصاية السورية على
لبنان وللنفوذ الإيراني فيه، والقول "إن ثورة الأرز هي امتداد لنضال مستمر
منذ 1400 عام"، و"إن من صمد أمام الإمبراطوريات الكبيرة في القرون
الماضية لن يصعب عليه الصمود حالياً".
سنكمل فيما يلي عرض المواقف الصادرة عن هذا الفريق وتوضيح الترابط بينها:
يَعتبر هذا الفريقُ، أيضاً في قراءته الخاصة للتاريخ، أن لبنان كان ولا يزال منذ الفينيقيين "بلد الإشعاع" الذي ينقل
الحضارة إلى جواره، وحتى إلى أبعد من هذا الجوار، وأن الحضارة الفينيقية كانت من
أعظم الحضارات التي عرفها التاريخ،
وأن الحضارة البشرية بمجملها مدينة للفينيقيين كونهم هم من اخترعوا الأحرف
الأبجدية (وهو أمر غير صحيح تاريخياً).
وفي رؤيته لواقع المجتمع اللبناني، يَعتبِر أن هذا المجتمع مؤلَّف من مجتمَعَين وحضارتين وثقافتين،
مسيحية وإسلامية، حيث إن مجتمع المسيحيين أكثر تطوراً من مجتمع المسلمين؛ وأنه
يعود الفضل إلى مجتمع المسيحيين في نقل الحضارة إلى مجتمع المسلمين وفي إعمار
لبنان وازدهاره وفي المحافظة على دوره الإشعاعي في المنطقة.
هذان الموقفان مرتبطان ببعضهما، فالقول إن حضارة الفينيقيين كانت من أعظم
الحضارات، يعني، بشكل غير مباشر، أن المسيحيين في لبنان قد ورثوا عنهم بعضاً من
تفوقهم الحضاري كونهم قد أتوا بعدهم في التواجد الزمني. وهذا هو السبب في المبالغة
الدائمة من قبل هذا الفريق في تعظيم حضارة الفينيقيين في كتب التاريخ والأعمال
الفنية والأدبية وغيرها؛ أي إنه كلما زاد تعظيم الحضارة الفينيقية زادت حجة هذا
الفريق قوةً بادعائه بأن مسيحيي لبنان أكثر تطوراً من مسلميه.
عند الجمع بين كل هذه المواقف أعلاه، يصبح المقصود، أو المفهوم منها، أن
هناك أقلية مسيحية متطورة في لبنان معرَّضة للأخطار من قبل أكثرية مسلمة متخلفة،
وبسبب هذا، يصبح لبنان، الذي هو "بلد الملجأ" لهذه الأقلية، معرَّضاً
بدوره للأخطار والأطماع من قبل الجوار العربي الذي يُحكَم من قبل هذه الأكثرية.
فيصبح الحل الأفضل، هو في أن يكون
المسيحيون هم المتحكمين في السياسة العامة للبلاد، لأنهم المقصودون قبل غيرهم بتلك
الأخطار والأطماع، والأفضل في قيادة البلاد كونهم الأكثر تطوراً، ولأنه يعود الفضل
إليهم في إيجاد الكيان اللبناني، (ومن الحجج التي كانت تقال في هذا السياق قبل
الحرب الأهلية هي أن المسيحيين هم الأكثرية العددية).
أي يكون من الأفضل في فترة ما قبل الحرب الأهلية، الإبقاء على الامتيازات
التي للمسيحيين والتي تجعل منهم حكام البلد الفعليين. أما في فترة ما بعد الحرب
الأهلية، وبعد التقليل من هذه الامتيازات في "اتفاق الطائف" الذي أنهى
هذه الحرب، فيكون من الأفضل زيادة تحكّم المسيحيين في السياسة العامة للبلاد، كمثل من خلال:
زيادة صلاحيات رئيس الجمهورية وإقرار
صلاحيات لكِلا نائبي رئيسي مجلسي النواب والوزراء، وزيادة نفوذ السياسيين
المسيحيين، سواء أكانوا في السلطة أم خارجها، أي الدور والأهمية المعطاة لهم،
وتعديل بعض القوانين لصالح المسيحيين، وما إلى ذلك...
ولما كانت مسألة حماية لبنان من تلك الأخطار والأطماع العربية المزعومة لا
يمكن أن تتم إلا من خلال التحالف مع الغربيين، أي القوة العظمى في هذا العالم،
فهذا ما يفسِّر الموقف القديم - الجديد عند هذا الفريق حول التحالف مع السياسات
الغربية في المنطقة، والذي من ضمنه رفع شعارات كمثل: "تحييد لبنان عن صراعات
المنطقة"، و"حماية الوجود المسيحي" و"جلب الحرية والسيادة إلى
الشعب اللبناني"... الأمر الذي كان، ولا يزال، يثير المخاوف لدى الفريق الآخر،
العروبي، أي 8 آذار حالياً، من إمكانية تحول لبنان إلى جسر أو ممر للسياسات الغربية
في المنطقة...
إضافة، من المواقف التي ظهرت عند فريق اليمين المسيحي هي القول بتقسيم
لبنان. فمنذ ستينات أو سبعينات القرن الماضي، وبعد أن أصبح واضحاً أن مسيحيي لبنان
لم يعودوا هم الأكثرية العددية؛ أصبح هذا الفريق يعلن، إما بشكل صريح أو غير
مباشر، برؤيته لحل مشاكل لبنان من خلال تقسيمه لكانتونين أو دويلتين مسيحية وإسلامية.
فالكانتون المسيحي، سيكون، في تصورات هذا الفريق، من ضمن نفس المواقف التي
درج عليها؛ أي الكيان الذي سيؤمِّن الحماية للمسيحيين من الأخطار والأطماع العربية
المزعومة والذي يجعلهم يتطلعون إلى الحماية الغربية له ويتيح لهم الاستمرار في
القيام بدورهم الإشعاعي – الحضاري في المنطقة... وبالتالي، سيكون بمثابة
فسحة أوروبية في المنطقة العربية والمحور لها ومحطّ الأنظار فيها وجاذباً للسياح
ورؤوس الأموال منها. وفي حال التقسيم التام، ستكون الدويلة المسيحية إضافة إلى ذلك
بمثابة القاعدة العسكرية الغربية في المنطقة.
إلى هنا أصبح بالإمكان فهم السبب في تحدث اليمين المسيحي الدائم عن أن
الأخطار والأطماع الأساسية التي تهدد لبنان هي تلك المتأتية من الجوار العربي؛ وهو
لأنه ما يُفهَم منها هو أن مسيحيي لبنان هم المقصودون أساساً
بها. فيكون أنه كلما زادت هذه الأخطار والأطماع (في تصريحات وكتابات هذا اليمين
المسيحي) زادت حجةُ هذا الفريق قوةً فيما يسعى إليه في
زيادة تحكّم المسيحيين في السياسة العامة للبلاد أو الوصول إلى التقسيم... ويكون الرافد الأساسي لهذه النتيجة هو التحدث
عن التفوق الحضاري للمسيحيين، والمستنَد على التفوق الحضاري للفينيقيين؛ الأمر الذي يُفهَم منه أنهم الأفضل في قيادة البلاد.
وهذه هي العنصرية بذاتها، فطروحات
العنصريين في أيِّ مكان في العالم تقوم على أسس: أنهم سيقودون بلادهم بشكل أفضل
نحو التطور، وأنه إذا ما تولَّت الفئة الأخرى المتخلفة الحكم فستشكِّل خطراً عليهم
في حال كان أبناؤها هم الأكثرية أو كانت لهم امتدادات خارجية، فضلاً عن كونهم
سيقودون البلاد نحو التخلف.
بالعودة إلى انتخاب رئيس جمهورية جديد في لبنان، وفي حال وصول سمير جعجع أو
أمين الجميّل أو غيرهما من اليمين المسيحي إلى هذه الرئاسة، فهذا يعني، وبالنظر
إلى مواقف هذا الفريق التي لا يزال متمسكاً بها منذ عشرات السنوات، أن هكذا رئيس
جديد سوف يستمر بذلك النهج من حيث تصوير أن الأخطار والأطماع الأساسية التي يتعرض
لها لبنان هي تلك المتأتية من الجوار العربي. الأمر الذي سيُفهَم، وبالنظر إلى باقي
مواقف هذا الفريق، إلى أن الفئة المسيحية المتطورة في لبنان هي المقصودة أساساً من
هذه الأخطار والأطماع، وأن مصدر هذه الأخيرة ما هو إلا الأكثرية المسلمة المتخلفة
في لبنان وجواره... الأمر الذي سيُفهَم بدوره أنه من الأفضل زيادة تحكّم المسيحيين
في السياسة العامة للبلاد، كضمانة لهم ولكونهم الأكثر تطوراً والأفضل في قيادة
البلاد، أو الوصول إلى التقسيم.
أي إنه إذا افترضنا أن النظام السوري قد سقط وأن المسلمين السنة هم مَن
استلموا الحكم في سوريا، فهذا لا يعني أن رئيس الجمهورية الجديد في لبنان، وفي حال
كان من هذا اليمين المسيحي، أنه سيكفّ عن النهج المعتاد عند فريقه في تصوير أن الأخطار والأطماع الأساسية التي تهدد لبنان هي المتأتية من قبل حكام سوريا الجدد؛ طالما العقلية المعتادة وما فيها
من غرائز طائفية وعنصرية لا تزال قائمة عنده.
أي إنه في حال كان المسلمون السنة في تيار المستقبل جادين في ترشيح سمير
جعجع إلى رئاسة الجمهورية فهم يكونون بذلك كمن "يُدخِل الدبَّ إلى
كرمه"، وكمن يعملون على إيصال إلى الرئاسة مَن سيصورهم في مواقفه على أنهم،
وكغيرهم من الأكثرية المسلمة في العالم العربي، بمثابة فئة متخلفة تنساق وراء
كرهها القديم للمسيحيين وتستهدف الفئة المسيحية المتطورة في لبنان.
في النهاية، أفضل كما قد يقوم به
السنة والدروز في 14 آذار هو الكفّ عن المواقف التي لا يزالون يعملون بها منذ
الاحتلال الأمريكي للعراق، أي الكفّ عن التحالف مع اليمين المسيحي في لبنان طالما
هو متمسك بعقليته وما فيها من غرائز طائفية وعنصرية، والكفّ عن التحالف مع
الأمريكي والرهان عليه.
فهذا
الأمريكي لن يكون وفياً لحلفائه من 14 آذار مهما بالغ هؤلاء في الوفاء له، بل هو
سيستعملهم وقوداً لمدافعه، تماماً كما قد استعمل الرئيس رفيق الحريري وقوداً لهذه
المدافع وقام باغتياله للتغطية على فشله في احتلال العراق وللتمهيد على هيمنته على
لبنان وسوريا. وأصبح واضحاً من الأحداث الأخيرة في سوريا ومصر أن الأمريكي يفضِّل
أن يحكم هذه المنطقة الإسلام المتطرف على شاكلة الأخوان المسلمين والنصرة وداعش،
على أن يحكمها من هم على شاكلة السنة والدروز في 14 آذار أو الائتلاف السوري؛ حتى
ولو تظاهر بغير ذلك.
أو كتابي "حول الأزمة اللبنانية
ونهاية الزعامة العالمية للولايات المتحدة".
عامر سمعان ، باحث وكاتب
14/ 5/ 2014