تشطح مسألةُ
الربط بين العروبة والإسلام في كثير من الأحيان إلى نواحٍ رجعية ومتطرفة وتكفيرية.
فقسم من المسلمين الذين يعتقدون بهذا الربط يفسرونه بما يعني تهميش المسيحيين وغيرهم
من غير المسلمين العرب وجعلهم مواطنين درجة ثانية وطمس ثقافتهم وتاريخهم في هذه
المنطقة. من جهة ثانية، نجد قسماً قليلاً من المسيحيين العرب (خاصة منهم
المتأمركين) يرفضون كل ما له علاقة بالعروبة من منطلق أن العروبة هي صنيعة الإسلام،
وأن المسيحي الذي يدافع عن العروبة يكون بعمله مناصراً للإسلام وخائناً لدِينه
وحتى كافراً !
لتوضيح
مسألة الربط بين العروبة والإسلام وأبعادها، سنذهب مباشرة إلى أمثلة مقارنة
توضيحية:
1 - المثل الأول عن الكيان اللبناني، فقد تم إيجاد هذا
الكيان بفضل المذهب المسيحي الماروني والكنيسة المارونية وشريحة واسعة من الموارنة
وبالتعاون مع الدولة المنتدبة فرنسا، ولولا المارونية والموارنة لكان لبنان حالياً
ليس أكثر من محافظة سورية. ولا يزال إلى الآن يوجد بصمة واضحة للمارونية والموارنة
على الثقافة والحضارة في لبنان، كمثل: التعطيل يوم الأحد وغيره من الأعياد
المسيحية، المساحة الواسعة للإعلام الدِيني المسيحي، المظاهر المسيحية الكثيرة في
الحياة العادية، المدارس والجامعات والمستشفيات الكثيرة والضخمة التابعة للموارنة،
وصولاً إلى حصر مناصب قيادية مهمة في الدولة للموارنة.
ما نقصده
بالثقافة في هذه المقالة هو مختلف ضروب السلوك التي تجعل أيَّ مجتمع متميزاً عن
غيره، كمثل العادات الاجتماعية وطرق المعيشة والآداب والفنون وصولاً إلى القوانين
ومؤسسات الدولة؛ وما نقصد بالحضارة هو مجمل العلوم والمعارف، في مجتمع معيَّن، وكل
ما يتعلق بكيفية التوصل إليها أو امتلاكها وتطبيقاتها واستخداماتها.
بالتالي، السؤال هو: هل يصح الربط بين لبنان
والمارونية ؟ وبخصوص سكان لبنان من غير الموارنة، كالسنة والشيعة والدروز
والأرثوذكس وغيرهم، في حال كانوا متمسكين بوطنهم ومدافعين عنه ومتحمسين له هل يصح
وصفهم بالمناصرين للمسيحية المارونية وخائنين لمذاهبهم الدينية أو حتى كافرين ؟
وما هو المطلوب من هؤلاء لكي يبقوا أوفياء لمذاهبهم الدينية، هل عليهم أن يحاربوا
الموارنة في لبنان (الذين هم أقلية عددية) ويطردوهم ويطمسوا كل ما له علاقة
بالثقافة والحضارة من قبل المارونية والموارنة، أم هل عليهم أن يعيشوا بسلام مع هؤلاء
ويعترفوا بمساهمة المارونية والموارنة في إيجاد لبنان وفي نفس الوقت أن يسيروا في
مشروع بناء الدولة التي تضمن حقوق الجميع وثقافاتهم وخصوصياتهم ؟
الجواب هو
أنه يوجد بالفعل ربط بين لبنان والمارونية، لكن ليس بمعنى أن كل لبناني يجب أن
يكون مارونياً أو مناصراً للمارونية على حساب دِينه، بل بمعنى أنه كان من نتائج
الوجود التاريخي للمذهب الماروني في هذه المنطقة إيجاد الكيان اللبناني، وحيث لا
يزال الكثير من المظاهر الثقافية والحضارية الخاصة بالمارونية والموارنة موجودة
بشكل مميز في هذا البلد... وبخصوص باقي سكان لبنان من غير الموارنة فالخيار الصحيح
أمامهم هو بالطبع أن يعترفوا بما للموارنة من فضل في إيجاد الكيان اللبناني
وببصمتهم الخاصة على الثقافة والحضارة فيه، وفي نفس الوقت أن يسيروا في مشروع
بناء الدولة التي تضمن حقوق الجميع وثقافاتهم وخصوصياتهم.
2 - المثل الثاني عن روسيا، حيث قد لعبت المسيحيةُ
الأرثوذكسية الدورَ الأساسي تاريخياً في سياسة هذا البلد وحروبه والدفاع عنه وثقافته
وحضارته وهو البلد الأرثوذكسي الأهم والأكبر عالمياً، وبرغم أنه في فترة الحكم
الاشتراكي قد تمّ بذل الجهد لطمس كل ما له علاقة بالأرثوذكسية وبأيِّ دِين آخر،
لكن بعد التغييرات في الاتحاد السوفياتي عادت الأرثوذكسية إليه وبكل قوة وزخم.
بالتالي،
السؤال هو: هل يصح الربط بين روسيا والأرثوذكسية ؟ وبخصوص سكان روسيا من غير
الأرثوذكس، والذين هم أقليات كالمسلمين وغيرهم، في حال كانوا متمسكين بوطنهم
ومدافعين عنه ومتحمسين له هل يصح وصفهم بالمناصرين للأرثوذكسية وخائنين لمذاهبهم
الدينية أو حتى كافرين ؟ وما هو المطلوب من هؤلاء لكي يبقوا أوفياء لمذاهبهم
الدينية، هل عليهم أن يهاجروا من روسيا ؟ أم عليهم أن يحاربوا لكي يقيموا كيانات سياسية
مستقلة لهم لا يكون لها أية علاقة بالأرثوذكسية ؟ أم عليهم أن يعيشوا بسلام مع الأرثوذكس
في روسيا ويعترفوا بمساهمة الأرثوذكسية الأساسية في تاريخ هذا البلد وثقافته
وحضارته وفي نفس الوقت أن يسيروا في مشروع بناء الدولة التي تضمن حقوق الجميع
وثقافاتهم وخصوصياتهم ؟
الجواب هو
أنه يوجد بالفعل ربط بين روسيا والأرثوذكسية، لكن ليس بمعنى أن كل روسي يجب أن
يكون أرثوذكسياً أو مناصراً للأرثوذكسية على حساب دِينه، بل بمعنى أنه كان من
نتائج وجود المذهب الأرثوذكسي أن أصبحت روسيا البلد الأرثوذكسي الأهم والأكبر...
وبخصوص باقي سكان روسيا من غير الأرثوذكس فالخيار الصحيح أمامهم هو بالطبع أن
يعترفوا بما للأرثوذكسية من تأثير أساسي في تاريخ وثقافة وحضارة هذا البلد وبجعله
البلد الأرثوذكسي الأهم والأكبر، وفي نفس الوقت أن يسيروا في مشروع بناء الدولة
التي تضمن خصوصيات الجميع وثقافاتهم وحقوقهم.
3 - المثل
الثالث عن أمريكا اللاتينية، هي تضم أكبر تجمع كاثوليكي في العالم وتُعرَف بالقارة
الكاثوليكية، ويعود الفضل بذلك إلى المذهب المسيحي الكاثوليكي وإلى المستعمرين
الأوروبيين والمبشرين الكاثوليك الذين نشروا المذهبَ الكاثوليكي فيها تحت مظلة
الاستعمار، وطمسوا إلى حد بعيد ثقافات وحضارات السكان الأصليين فيها، ونشروا اللغتين
الإسبانية والبرتغالية (وغيرها من اللغات الأوروبية) فيها...
بالتالي،
السؤال هو: هل يصح الربط بين أمريكا اللاتينية والكاثوليكية ؟ وبخصوص سكان هذه
القارة من غير الكاثوليك، والذين هم أقليات، في حال كانوا متمسكين بأوطانهم
ومدافعين عنها ومتحمسين لها هل يصح وصفهم بالمناصرين للكاثوليكية وخائنين لمذاهبهم
الدينية أو حتى كافرين ؟ وما هو المطلوب من هؤلاء لكي يبقوا أوفياء لمذاهبهم
الدينية، هل عليهم أن يهاجروا من أمريكا اللاتينية ؟ أم عليهم أن يحاربوا لكي
يقيموا كيانات سياسية طائفية مستقلة لهم لا يكون لها أية علاقة بالكاثوليكية
ويرفضوا التكلم بالإسبانية والبرتغالية (وغيرها من اللغات الأوروبية) ؟ أم عليهم
أن يعيشوا بسلام مع الكاثوليك ويعترفوا بمساهمة الكاثوليكية الأساسية في إيجاد
قارتهم اللاتينية وثقافات وحضارات مجتمعاتها وفي نفس الوقت أن يسيروا في مشروع
بناء الدولة التي تضمن حقوق الجميع وثقافاتهم وخصوصياتهم، وأيضاً أن يسيروا في
طريق التنسيق والتعاون بين مختلف دول أمريكا اللاتينية، بالنظر إلى ما يربطها من
قواسم مشتركة، لبناء قوتها وتنميتها وتطورها ؟
الجواب هو أنه
يوجد بالفعل ربط بين أمريكا اللاتينية والكاثوليكية، لكن ليس بمعنى أن كل أمريكي
لاتيني يجب أن يكون كاثوليكياً أو مناصراً للكاثوليكية على حساب دِينه، بل بمعنى
أنه كان من نتائج وجود المذهب الكاثوليكي إيجاد القارة الأمريكية اللاتينية...
وبخصوص باقي سكان هذه القارة من غير الكاثوليك فالخيار الصحيح أمامهم هو بالطبع أن
يعترفوا بما للكاثوليكية من تأثير أساسي في إيجاد قارتهم اللاتينية وثقافات
وحضارات مجتمعاتها، وفي نفس الوقت أن يسيروا في مشروع بناء الدولة التي تضمن حقوق
الجميع وثقافاتهم وخصوصياتهم، وفي طريق التنسيق والتعاون بين مختلف دول أمريكا
اللاتينية والذي هو الطريق الطبيعي الصحيح لبناء قوتها وتنميتها وتطورها.
والأمثلة هي
كثيرة حول وجود هكذا نماذج من الربط بين كيان سياسي ما ومذهب دِيني ما، كمثل
الولايات المتحدة والبروتستانتية، وإيطاليا والكاثوليكية، وإيران والمذهب الشيعي،
والهند والهندوسية، واليابان والشنتوية والبوذية، وإندونيسيا والمذهب السنيّ، وغيره...
والواقع أنه في معظم دول العالم يوجد هكذا
حالات من الربط، أي حيث يكون من نتائج وجود المذهب الدِيني إيجاد دولة ما، أو عدة
دول، أو جعلها متميزة بقوة عن غيرها... والحل المنطقي والأخلاقي والإنساني هو ليس
في إعادة البشرية إلى عقلية القرون الوسطى وفرزها على أسس طائفية ومذهبية، بل هو
في التعايش الأخوي والإنساني والوطني الذي يضمن حقوق كل الفئات وثقافاتهم وخصوصياتهم
في أيِّ بلد في العالم.
وبخصوص كل
الأمثلة الواردة أعلاه، من البديهي القول إنه عند تعرّض أية أقلية دينية لاضطهادات
أو إبادة أو غيرها من الجرائم بحق الإنسانية أن يكون لها الحق في اتخاذ أية تدابير
للدفاع عن نفسها، والني من ضمنها المحاربة للانفصال والاستقلال السياسي أو غيره.
نأتي الآن
إلى حالة العالم العربي، فقد كان من نتائج وجود الدِين الإسلامي إيجاد العالم
العربي، أي انتشار اللغة العربية لدى معظم سكان هذه المنطقة مع بصمة واضحة للثقافة
والحضارة الإسلاميتين في مجتمعاتها، كما أصبح، بنتيجة كل ذلك، الطريق ممهدة
للتنسيق والتعاون بين كافة الكيانات السياسية في هذا العالم العربي والذي هو الطريق
الطبيعي الصحيح لبناء قوتها وتنميتها وتطورها...
هذا التنسيق
والتعاون بين كافة الكيانات السياسية في العالم العربي، الذَين أصبحا ممكنَين
بالنظر إلى القواسم الثقافية والحضارية المشتركة والتاريخ المشترك بينها، هو
المقصود بالعروبة؛ فبغض النظر عن أية طروحات أو نظريات موضوعة لتفسير العروبة فهي
في النهاية تصب في هذا الاتجاه.
بالتالي،
السؤال هو: هل يصح الربط بين العروبة والإسلام ؟ وبخصوص سكان العالم العربي من غير
المسلمين، والذين هم أقليات، في حال كانوا متمسكين بأوطانهم ومدافعين عنها
ومتحمسين لها ومصرّين على التحدث بالعربية ومناصرين للعروبة هل يصح وصفهم
بالمناصرين للإسلام وخائنين لمذاهبهم الدينية أو حتى كافرين ؟ وما هو المطلوب من
هؤلاء لكي يبقوا أوفياء لمذاهبهم الدينية، هل عليهم أن يهاجروا من العالم العربي ؟
أم عليهم أن يحاربوا لكي يقيموا كيانات سياسية طائفية مستقلة لهم لا يكون لها أية
علاقة بالثقافة والحضارة الإسلاميتين ويرفضوا التكلم بالعربية ويعارضوا كل ما له
علاقة بالعروبة ؟ أم عليهم أن يعيشوا بسلام مع المسلمين ويعترفوا بما للإسلام من
تأثير أساسي في إيجاد عالمهم العربي وثقافات وحضارات مجتمعاته وفي نفس الوقت أن
يسيروا في مشروع بناء الدولة التي تضمن حقوق الجميع وثقافاتهم وخصوصياتهم، وأيضاً
أن يسيروا في طريق التنسيق والتعاون بين مختلف دول العالم العربي لبناء قوتها
وتنميتها وتطورها ؟
الجواب هو
أنه يوجد بالفعل ربط بين العروبة والإسلام، لكن ليس بمعنى أن كل مواطن عربي يجب أن
يكون مسلماً أو مناصراً للإسلام على حساب دِينه، بل بمعنى أنه كان من نتائج وجود
الدِين الإسلامي إيجاد العالم العربي... وبخصوص باقي سكان هذه العالم من غير
المسلمين فالخيار الصحيح أمامهم هو بالطبع أن يعترفوا بما للإسلام من تأثير أساسي
في إيجاد عالمهم العربي وثقافات وحضارات مجتمعاته، وفي نفس الوقت أن يسيروا في
مشروع بناء الدولة التي تضمن حقوق الجميع وثقافاتهم وخصوصياتهم، وفي طريق التنسيق
والتعاون بين مختلف دول العالم العربي والذي هو الطريق الطبيعي الصحيح لبناء قوتها
وتنميتها وتطورها.
وهكذا نكون قد أوضحنا أبعاد الربط بين
العروبة والإسلام. والتي هي شبيهة تماماً بمثيلاتها في معظم دول العالم حيث يكون
من نتائج وجود مذهب دِيني ما إيجاد دولة ما أو عدة دول أو جعلهم مميَّزة بقوة عن
غيرها...
واعتماداً
على ما تقدَّم، أن يقوم بعض المسلمين العرب الذين يعتقدون بالربط بين العروبة
والإسلام بتفسيره بما يعني تهميش المسيحيين وغيرهم من غير المسلمين العرب وجعلهم
مواطنين درجة ثانية وطمس ثقافاتهم وتاريخهم في هذه المنطقة؛ فهذا ليس إلا نهجاً متطرفاً
ورجعياً ومتخلفاً... ومن جهة ثانية، عندما يقوم قسمٌ من المسيحيين العرب برفض كل
ما له علاقة بالعروبة أو بعدم التكلم بالعربية، فهذا حقهم من ضمن حرية الرأي
والمعتقد، لكن أن يتهِموا غيرَهم من المسيحيين العرب الذين يناصرون العروبة
ويتحدثون بالعربية بأنهم مناصرون للإسلام وخائنون لدِينهم أو حتى كافرون، فهذا
بدوره نهج رجعيّ ومتخلف وتكفيري.
عامر سمعان، باحث وكاتب
1/
4/ 2017