الخميس، 14 يوليو 2016

الأرثوذكسية وحقوق المرأة

     قدَّمت الأرثوذكسية المسيحية، منذ 2000 عام، منظومةً فكرية متكاملة رَفَعَت من قيمة المرأة إلى أقصى ما يمكن أن تكون الحدود... ولغاية الآن، لم يشهد التاريخُ أيَّ مذهب دِيني أو فكري رَفَعَ من هذه القيمة إلى هذه الحدود.
     هذه القيمة النسوية الرفيعة، هي فيما يلي:
- شخص السيدة مريم العذراء التي جاهدت في طريق التقوى والصلاح فاستحقت أن تحمل في أحشائها، بتدبير إلهي ومن دون زرع رجل، الإله المتجسد، ولتصبح "المنعَمُ عليها" (لوقا 1: 28) والقديسة الأولى والشفيعة الأولى عند الله. ما يعني أن أية فتاة في المسيحية بإمكانها أن تجاهد في طريق التقوى والصلاح ولتتقدم فيها إلى أبعد الحدود.
- رفع الطبيعة البشرية (التي لكِلا الذكور والإناث) إلى أقصى الحدود بفعل تجسد الله وضمّ الطبيعة البشرية إلى الطبيعة الإلهية في أقنوم يسوع المسيح ("والكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا"، يوحنا 1: 14).
- طريق القداسة التي أصبحت مفتوحة أمام المؤمنين، سواء أكانوا رجالاً أم نساء، على قدم المساواة... والتي هي طريق التأله بالنعمة الإلهية غير المخلوقة والتي يحصل عليها المؤمنُ من خلال مشاركته في الأسرار الكنسية ("لكي تصيروا شركاء الطبيعة الإلهية"، 2 بطرس 1: 4)، والتي تتيح له اكتساب صفات إلهية لا متناهية من التواضع والمحبة والخير والتغلب على الضعفات والجرأة والشجاعة والقوة النفسية والتبصُّر والحكمة وغيرها...
- حياة القديسين المخلَّصين في القيامة، حيث لا زواج ولا نكاح ولا حوريات، بل مشاركة الجميع في المجد الإلهي غير المخلوق ("حينئذ يضيءُ الأبرارُ كالشمس في ملكوت أبيهم"، متى 13: 43).
     أما بخصوص الآيات "أيها النساء اخضعن لرجالكن كما للرب، لأن الرجل هو رأس المرأة"، أفسس 5: 22، 23)، فقد قيلت في ذلك الوقت من باب التدبير ومراعاة النظم السياسية والاقتصادية القائمة... لأنه في حال كان هناك دعوة صريحة لأن تأخذ المرأةُ حقوقَها وتتساوى بالرجل، ولأن يأخذ العبيدُ حقوقَهم ويتحرروا من العبودية، وما شابه... فقد كان سيترتب على هذا الوضع ثورات وحروب وتوترات أمنية عنيفة ومآسٍ كبيرة نتيجة التصادم مع تلك النظم السائدة والراسخة في ذلك الوقت... وبالتالي، كان هذا سيؤدي إلى تشويه كبير للمسيحية وإعاقة لانتشارها... لذلك، كان التدبير من قبل بولس وبطرس الرسولين، وغيرهما من رواد المسيحية، هو في الإبقاء على تلك النظم في ذلك الزمان؛ وفي نفس الوقت، الدعوة، غير المباشرة، للتغيير الداخلي وبما يتوافق مع القيمة الكبيرة وغير المحدودة المعطاة لكل إنسان في المسيحية ("كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح، ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حرٌّ، ليس ذكر وأنثى، لأنكم جميعاً واحدٌ في المسيح يسوع" غلاطية 3: 27، 28    .(



عامر سمعان، باحث وكاتب
14/ 7/ 2016

الثلاثاء، 12 يوليو 2016

التخلف والتطور والتدين


      التخلف هو ليس في التدين، بل هو في فرض الدين بالقوة على الآخرين أو في استخدام الدين كغطاء للاعتداء على الآخرين.
     والتطور هو ليس في الإلحاد، بل هو في احترام الحريات الدينية للآخرين، سواء أكانت تديناً أم إلحاداً.
     أيضاً التطور هو ليس في الإيمان بالإله الواحد أو في الجمع بين التدين والحركات المسكونية، بل هو في احترام الحريات الدينية للآخرين سواء أكانوا يعبدون إلهاً واحداً أم مائة إله أم لا يعبدون أي إله.
     والعلمنة هي ليست في محاربة التدين أو في الإلحاد ، بل هي في احترام الحريات الدينية للآخرين ، وفي نفس الوقت هي بالضرب بيد من حديد ضد كل من يحاول التعدي على الحريات الدينية للآخرين ، أو في استخدام الدين كغطاء للاعتداء على الآخرين.


عامر سمعان، باحث وكاتب
12/ 7/ 2016 

الثلاثاء، 5 يوليو 2016

صيام المسلمين، تطرف وشطحات

     بمناسبة عيد الفطر التمنيات لجميع المسلمين بصيام مقبول وعيد مبارك… لكن لا بد من التطرق إلى ظاهرتين تتعلقان بالسلوكيات أثناء صيام شهر رمضان عند قسم غير قليل من المسلمين، وليس جميعهم، تتعارضان مع المنطقية… 
     الظاهرة الأولى، تتعلق بتقصير ساعات العمل في القطاع العام أثناء شهر رمضان، وبحجة أن الصائمين يكونون متعَبين (يقدِّر الاقتصاديون تراجع الإنتاج في هذا الشهر في الدول العربية نتيجة تقصير ساعات العمل بحوالي 25% ، http://goo.gl/NhoX2d  ).
     الظاهرة الثانية، هي المطالبة بمنع المجاهرة بتناول الطعام في الأماكن العامة قبل الفطور بحجة أن هذا يجرحُ مشاعرَ المؤمنين الصائمين (هناك 11 دولة عربية تضع قوانين تعاقب على هذا الفعل، عدا عن الدول التي يتم فيها منع هذه المجاهرة بفعل العرف القائم في المجتمع، http://goo.gl/oIrjtA ).
     نأتي الآن إلى مناقشة هاتين الظاهرتين...    
     حول الظاهرة الأولى، أيُّ شخص يمارس الصيام، أكان مسلماً أم غير مسلم، وفي حال تبيَّن أن صيامه يؤثِّر سلباً على إدائه في العمل بوظيفته، فيُفترَض به إما أن يقصِّر ساعات العمل وحيث يتم التقليل من معاشه بما يتناسب مع هذا التقصير، وإما أن يأخذ إجازة غير مدفوعة خلال صيامه، وإما أن لا يصوم… لكن من غير المنطقي أن يبقى في وظيفته في تقصير لساعات العمل ويبقى معاشه هو نفسه. كون هذا يشكِّل تعدياً على حقوق الآخرين، أي غير المتدينين وأبناء الديانات الأخرى والملحدين، الذين لديهم الحقوق في أن لا تتعطل أعمالهم وأن لا تقلَّ استفادتهم من خدمات مؤسسات القطاع العام بفعل هذا التقصير في ساعات العمل.
     وحتى لو كان جميع سكان البلد هم من دِين واحد أيضاً لا يصح هذا التدبير، لأنه لا بد أن يتواجد بينهم مَن هم ملحدون أو غير متدينين. فليس هناك من مجتمع في التاريخ كان جميع أبنائه متدينين.
     من النتائج السلبية المترتبة على هذا التدبير، أي تقصير ساعات العمل في القطاع العام في شهر الصيام ومع الإبقاء على نفس المعاش للموظفين، هي تغذية نزعة التطرف الدِيني والتشجيع على فرض الدِين بالقوة. والسبب هو بما أن هذا التقصير لساعات العمل يشكِّل تعدياً على حقوق الآخرين لجهة تعطيل أعمالهم وتقليل استفادتهم من المؤسسات العامة؛ فيصبح القرار الرسمي من قبل الدولة الذي يُشرِّع هذا التقصير بمثابة التسويغ أو التحليل لهذا التعدي على هذه الحقوق... الأمر الذي من شأنه أن يُشجِّع المتدينين على ممارسة أشكال أخرى من التعديات أو التجاوزات في المجال الديني كمثل ممارسة الضغوطات على أبناء دِينهم لإلزامهم بزيادة تدينهم أو منعهم من مغادرة دِينهم وما شابه...    
     حول الظاهر الثانية عن منع المجاهرة بتناول الطعام قبل الفطور.
     في منطق الصوم، وعند جميع الأديان عبر التاريخ، أن الهدف الأساسي منه هو تقوية إرادة الإنسان في التقوى وفعل الخير... والدِين الإسلامي، بالطبع، لا يخرج عن هذا الإطار. لننظر إلى أحد النصوص الإسلامية عن هذا الموضوع:
"سُئل الشيخ ابن عثيمين عن الحكمة من إيجاب الصوم ؟
فأجاب :إذا قرأنا قول الله عز وجل: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، (البقرة: 183)، عرفنا ما هي الحكمة من إيجاب الصوم، وهي التقوى والتعبد لله سبحانه وتعالى، والتقوى هي ترك المحارم وهو عند الإطلاق تشمل فعل المأمور به وترك المحظور، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ"، (رواه البخاري، 6057).
     وعلى هذا يتأكد على الصائم القيام بالواجبات وكذلك اجتناب المحرمات من الأقوال والأفعال، فلا يغتاب الناس ولا يكذب، ولا ينم بينهم، ولا يبيع بيعاً محرماً، ويجتنب جميع المحرمات، وإذا فعل الإنسان ذلك في شهر كامل فإن نفسه سوف تستقيم بقية العام".     
https://islamqa.info/ar/38064   
     فمن البديهي أن لا يخرج الصوم في الإسلام عن ذلك الإطار، أي تقوية إرادة الإنسان في التقوى وفعل الخير...
     لكن هنا ­­­­­­­­­­­­­­­يظهر التناقضُ الكبير، فكيف تكون إرادة المسلمين خلال الصيام في حالة التقوية بهدف النمو في التقوى وعمل الخير، وفي نفس الوقت تكون هذه الإرادة في حال الإضعاف إلى درجة أن مشاعرهم ستُجرَح عند رؤيتهم الآخرين يأكلون في الأماكن العامة قبل الفطور ؟
     المفترَض بأي شخص صائم، ولأيٍّ دِين انتمى، أن لا يعترِض البتّة وأن لا تُجرَح مشاعرُه بأيِّ شكل عند رؤيته الآخرين، سواء أكانوا من دِينه أو من أديان أخرى، يأكلون في الأماكن العامة في وقت الصيام (حتى ولو كانوا يشوون اللحمَ ويملؤون الحيَّ من رائحة الشواء). بل على العكس، عليه أن يفرح بذلك ويعتبره بمثابة التجربة له في سياق تقوية إرادته في ضبط نفسه والسيطرة على أهوائه وزيادة ما لديه من التقوى والمثابرة على أعمال الخير وما شابه.  
        فالقول إن المجاهرة بتناول الطعام قبل الفطور من شأنه أن يجرح مشاعر المؤمنين الصائمين، هذا لا يقبله أيُّ عقل أو منطق... ويكون السبب الحقيقي في ذلك العدد الكبير من الفتاوى التي تصدر من قبل الكثير من المرجعيات الدينية الإسلامية على امتداد العالمين العربي والإسلامي والتي تندد بالمجاهرة بتناول الطعام قبل الفطور وتدعو السلطات للتصدي لهذا الأمر ومعاقبة القائمين به هو بدوره لتغذية نزعة التطرف الدِيني والتشجيع على فرض الدِين بالقوة.
     فبالنظر إلى أنه من حق الآخرين، أي غير المتدينين والملحدين وأبناء الديانات الأخرى، أن يأكلوا ويشربوا في الأماكن العامة ساعة يشاؤون، سواء قبل الفطور أم بعده، وبالنظر إلى كون أيِّ إجراء، يُفضي إلى منع تناول الطعام في الأماكن العامة قبل الفطور، سواء بفعل القرار الرسمي من قبل الدولة أم بفعل العرف القائم في المجتمع، هو تَعَدٍ على هذا الحق... فيصبح هكذا إجراء بمثابة التسويغ أو التحليل لهذا التعدي على هذا الحق... الأمر الذي من شأنه أن يُشجِّع بدوره المتدينين على ممارسة أشكال أخرى من التعديات أو التجاوزات في المجال الديني كمثل ممارسة الضغوطات على أبناء دِينهم لإلزامهم بزيادة تدينهم أو منعهم من مغادرة دِينهم وما شابه...   
     واعتماداً على ما تقدَّم، يصح القول إن أيِّ شخص يصوم لدواعٍ دينية، وبغض النظر لأيِّ دِين انتمى، ويدعو إلى تقصير ساعات العمل في الدوائر الحكومية مع الإبقاء على نفس المعاش خلال الصيام وإلى عدم المجاهرة بتناول الطعام في الأماكن العامة في وقت الصيام، وحتى ولو كان مطالبته هي بالوسائل الديمقراطية، يكون موقفه هو أحد أشكال التخلف والرجعية والتشجيع على التطرف الديني وفرض الدِين بالقوة.
    

عامر سمعان، باحث وكاتب
5/ 7/ 2016