1 - مما أورده رأسُ الكنيسة الكاثوليكية، البابا فرنسيس
في عظته بمناسبة اختتام أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين في 25/ 1/ 2016 : طلب الرحمة والمغفرة بسبب التصرفات السيئة التي قام بها
الكاثوليك تجاه المسيحيين، أتباع الكنائس الأخرى، والحثّ لجميع الكاثوليك على
مسامحة المسيحيين الآخرين الذين أساؤوا إليهم... ومما قاله: "لا يسعنا أن
نمحو ما حصل، لكن يجب ألّا نسمح لذنوب الماضي بأن تلوث علاقاتنا. إن رحمة الله
ستجدد علاقاتنا". ( http://goo.gl/z65hKX )
هذا الكلام الذي صدر عن قداسته في طلب تبادل المسامحة
والمغفرة عن الإساءات، بين الكاثوليك وغيرهم من المسيحيين، هو بالطبع مهم في مجال
الحوار والتلاقي والسَعي نحو الوحدة بين مختلف الكنائس المسيحية... لكن أهميته في
الأرثوذكسية تبقى ثانوية وليست أساسية.
فمن وجهة النظر الأرثوذكسية، الانقسام بين
الأرثوذكسية والكاثوليكية والذي ابتدأ منذ القرن الحادي عشر، وبالرغم من أن له
أسبابه السياسية أو ما يمكن وصفه بالتصرفات السيئة المتبادلة، لكنه يبقى أساساً
اختلافاً في العقائد والتعاليم (عدم اعتراف الكاثوليكية: بتأله الإنسان بالنعمة
الإلهية غير المخلوقة... وتعاليمها حول: انبثاق الروح القدس من الآب والابن،
المسؤولية عن الخطيئة الجدية، المطهَر، خزانة استحقاقات القديسين، صكوك الغفران،
الحبل بلا دنس، عصمة البابا، وغيره...).
أيضاً، الانقسام
بين الأرثوذكسية والكنائس الشرقية غير الخلقدونية (الأقباط، الأرمن، السريان،
الحبشة...) الذي ابتدأ منذ القرن الخامس، وبالرغم من أن له أسبابه السياسية أو ما
يمكن وصفه بالتصرفات السيئة المتبادلة، لكنه يبقى أساساً اختلافاً في العقائد
والتعاليم (عدم اعترافهم بتأله الإنسان بالنعمة الإلهية غير المخلوقة... وتعليمهم
حول طبيعتي المسيح، وغيره...).
أيضاً، الانقسام
بين الأرثوذكسية والكنائس البروتستانتية الذي ابتدأ منذ القرن السادس عشر، هو
أساساً اختلاف في العقائد والتعاليم ( عدم اعترافهم: بالأسرار الكنسية، وتأله
الإنسان بالنعمة الإلهية غير المخلوقة، ودوام بتولية مريم العذراء وبأنها "أم
الله"، وشفاعة القديسين، والتسليم الرسولي... وتعاليمهم حول انبثاق الروح
القدس من الآب والابن، وغيره...).
فيصح القول:
إن طريق الإيمان في الأرثوذكسية هي ليست نفسها طريق الإيمان في الكنائس غير
الخلقدوية أو الكاثوليكية أو البروتستانتية، وإن القيم الدينية ورؤية الإنسان
لنفسه ولعلاقاته مع الله ومع الآخرين في الأرثوذكسية هي ليست نفسها في هذه الكنائس،
وإنه من وجهة نظر الأرثوذكسية تكون هذه الكنائس بمثابة الهرطقات...
2 - للتوسع أكثر بالشرح.
من وجهة
النظر الأرثوذكسية، صحيح أنه يوجد أسباب سياسية أو ما يمكن وصفه بالتصرفات السيئة
قد حصلت في الماضي (ولا تزال تحصل من وقت لآخر)، على أصعدة القيادات الزمنية
والفكرية والدينية والجماعات والأفراد، وساهمت في وجود الانشقاقات والخلافات بين
الكنائس؛ لكن كل هذا يمكن حلّه في وقت قصير، في حال صفاء النيَّات، من خلال
الاعتراف بالأخطاء وطلب المسامحة بشكل متبادل... لكن تبقى المسألة الأساسية هي
الاختلاف في الإيمان، أي في العقائد والتعاليم...
العقائد
والتعاليم في الأرثوذكسية هي ليست نظريات فارغة أو فلسفات عقيمة، بل هي أمور تُعاش
عند المؤمِن ويسلكُ بها في سلوكه وتفكيره وشعوره، وتتجدد من خلالها علاقاتُه مع
الله والآخرين ونفسه، ويصبح بفضلها إنساناً متألهاً (أي بفضلها وبفضل النعمة
الإلهية التي يحصل عليها في الأسرار الكنسية)... أي متحداً فعلياً وحقيقةً
بالطبيعة الإلهية غير المخلوقة ومشاركاً في المجد الإلهي، مع كل ما يترتب على ذلك
من تغيير إيجابي غير محدود في شخصيته وعلاقاته مع الآخرين...
هذا التأله
بالنعمة الإلهية غير المخلوقة، هو ما كان عليه حال آدم وحواء قبل السقوط وهو الذي
سيأخذ بُعدَه الكامل مع المخلَّصين في القيامة. وهو السبب الذي من أجله حصل تجسد
الرب وصلبه وقيامته ("لقد صار الإلهُ إنساناً، ليستطيع الإنسانُ أن يصير إلهاً"
كما ردَّد آباءُ الكنيسة منذ القرن الثاني).
هذه العقائد والتعاليم، التي بفضلها
تكون الأرثوذكسية أكثرَ مذهب دِيني أو فكري
في التاريخ: يتوافق مع مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والأخلاق البيئية، ويؤمِّن السعادةَ للإنسان، ويتيح له التغلبَ على مخاوفه وضعفاته وخطاياه،
ويفتَح المجالَ أمامه للتغيير نحو الشخصية الفاعلة والبنَّاءة والإيجابية، ويتوافق
مع طبيعة نفسيته من حيث تغييرها إلى الأفضل، ويتيح له التغيير الإيجابي في هذا العالم من خلال أفكاره
ومبادراته ومشاريعه، ويُظهِر رفعةَ قيمته... هذه العقائد والتعاليم، التي بفضلها تكون الأرثوذكسية أكثر مذهب دِيني
في التاريخ يتوافق مع القيم الأخلاقية والإنسانية ومع المنطقية.
بالتالي،
طالما الأرثوذكسيون مقتنعون أن لديهم هذه "الجوهرة الأثمن"، فهم
يعتبِرون أنفسهم مؤتمنين عليها وأن واجبهم إرشادُ الآخرين إليها. يعني عندما
يقولون إن غير الخلقدونيين أو الكاثوليك أو البروتستانت هم هراطقة، فهذا ليس
إطلاقاً من باب الشماتة أو التشفّي أو الاستعلائية أو الفوقية أو العنصرية أو الانعزالية،
بل من باب المحبة لهم ولكي يتشاركوا بدوهم بهذه "الجوهرة الأثمن".
والهدف هو نفسه عندما يقولون للملحدين أو اليهود أو المسلمين أو الهندوس أو
البوذيين أو غيرهم، إن المسيحية الأرثوذكسية هي الدِين الوحيد الصحيح في الوجود...
هذا مع التنبيه إلى أن الأرثوذكسية:
- ترفض إطلاقاً أي شكل من نشر الدِين بالقوة العسكرية أو
الترهيب أو الإذلال الجماعي (كما يوجد في الإسلام) أو تحت ضغوطات أو إغراءات
الاستعمار (كما فعل الكاثوليك والبروتستانت) أو بغيره من أشكال التهديد أو التخويف
أو الإغراءات بالمكاسب الدنيوية.
- ترفض إطلاقاً أي تمييز في التعامل الاجتماعي
والاقتصادي والسياسي بين مَن هم أرثوذكسيين وغيرهم.
- هي أكثر مذهب دِيني في التاريخ يدعو إلى محبة الآخرين
(سواء أكانوا أرثوذكسيين أم من أي مذهب آخر) والتواضع في التعامل معهم والانفتاح
عليهم والتعايش معهم والتضامن الإنساني وأعمال الخير نحوهم؛ والابتعاد عن أي شكل
من التعامل الاستعلائي أو الفوقي أو الانعزالي أو العدائي تجاههم... وذلك على
صَعِيدَي السلوك والشعور... أي إنه على المؤمن، ليس فقط أن يسير بسلوكه بهذا
الشكل، بل أيضاً أن يبقى في حالة مستمرة من التيقّظ والمراقبة الذاتية والتوبة
والابتعاد عن أية مشاعر استعلائية أو فوقية أو انعزالية أو عدائية تجاه الآخرين
(فالأرثوذكسية تشدد كثيراً على النقاء الداخلي للمؤمن وأن يكون هذا النقاء متجهاً
نحو محبة الآخرين والتواضع نحوهم).
3 - واعتماداً، إذا كان غير الخلقدونيين أو الكاثوليك أو
البروتستانت على قناعة أن هم مَن لديهم تلك "الجوهرة الأثمن"، أي
الإيمان المسيحي الصحيح كما هو مؤسَّس من المسيح والمسلَّم من الرسل، فما عليهم
إلا أن يثبتوا ذلك بالأدلة والبراهين والمنطق... وليس أن يلتجئوا إلى طروحات كمثل:
"الاختلافات العقائدية تُبَعِّد، والمحبة وأعمال الخير تُقَرِّب"، أو
"مختلف المذاهب المسيحية هي أغضان مختلفة تتفرع من شجرة واحدة، هي
المسيح"، أو "مختلف المذاهب المسيحية هي أوجه عدة مختلفة لحقيقة واحدة،
هي المسيح"، أو "الانشقاق بين المذاهب المسيحية هو بسبب الضعف البشري
عند رؤساء الكنائس والكره والأحقاد وعدم الرغبة في التفاهم والتلاقي فيما
بينهم"... هذه الطروحات، أقل ما يقال عنها إنها سخيفة...
يعني، لو
كان أيُّ طرف، أو أيُّ شخص، على قناعة بصحة أيٍّ من هذه الطروحات فعليه أن يثبت
ذلك بالأدلة والبراهين والمنطق. لكن أن يستعمل أياً منها كشعار للتغطية على ما في
مذهبه من انحرافات أو أخطاء أو نواقص، فهذا سخافة و"ضحك على الذقون"
واستغباء للعقول.
وغنيّ عن
البيان، أنه في المنطق المسيحي، عندما يقوم المنتمون إلى أي مذهب بإثبات أن مذهبهم
هو وحده حامل "الإيمان المسيحي الصحيح"، فيكون المطلوب من المنتمين إلى
المذاهب الأخرى، عند اقتناعهم بهذا الأمر، أن ينتسبوا إلى هذا المذهب... هذا في
حال أرادوا أن يكونوا مسيحيين حقيقيين ويحصلوا على خلاص أنفسهم وليس أن يكون
تمسكهم بالمسيحية هو مجرد عادات اجتماعية أو تحقيقاً لمكاسب دنيوية ما.
4 - أخيراً، حول أهمية وضرورة السَعي لتحقيق الوحدة بين
الكنائس.
في
الأرثوذكسية، السَعي نحو الوحدة بين الكنائس هو أمر بالغ الأهمية ولا غنى عنه. وبالطبع
ليس الهدف منه هو توحيد جميع المسيحيين في مذهب واحد ليصبحوا قوةً سياسية وإعلامية
واقتصادية فاعلة على الصعيد العالمي، بل هو لكي يحصل الجميعُ على فرصة الإيمان
الصحيح والنجاح في خلاص أنفسهم... فسَعيُ الفرد لخلاص نفسه لا يمكن عزله عن سَعيه
لخلاص أنفس الآخرين أي نقل البشارة إليهم أي إرشادهم إلى الإيمان الصحيح... فيكون
على الأرثوذكسي أن يسعى دوماً لنقل البشارة إلى المسيحيين الآخرين (كما إلى أبناء
باقي الديانات)، والذين في حال قبلوهم لها يكونون قد حققوا الوحدةَ المسيحية
الصحيحة، أي التوحّد تحت الإيمان المسيحي الصحيح.
يوجد
طريقتان لنقل البشارة إلى باقي المسيحيين، في السَعي نحو الوحدة.
الطريقة
الأولى، هي أن نقول لهم: "نحن الأرثوذكسيين لوحدنا مَن نمتلك الإيمان المسيحي
الصحيح ولسنا مستعدين للتفريط به، فإما أن تقبلوه كما هو وتصبحوا أرثوذكسيين
وتتحقق بذلك الوحدة المسيحية، وإما أن ترفضوه...".
المشكلة في
هذا الطرح، وخاصةً عندما يتم تداوله عبر الوسائل الإعلامية العالمية، أنه قد يُساء
فهمه ويُظن أن الأرثوذكسيين يتكلمون بهذه الطريقة من منطلق الاستعلائية أو
الانعزالية أو الكيدية أو العنصرية... ومن المؤكَّد أنه سيكون هناك مَن سيصورون
الأمورَ بهذا الشكل عن سوء نيَّة وبهدف التشويه في الأرثوذكسية.
الطريقة الثانية، هي أن نقول لهم: "تعالوا
لنتحاور على قدم المساواة، إما أن نقنعكم بما عندنا وتصبحوا أرثوذكسيين، وإما أن
نقتنع بما عندكم ونصبح غير خلقدونيين أو كاثوليك أو بروتستانت، وإما أن يتبيَّن
لنا أن جميعنا محقّون وأن الخلافات في العقائد والتعاليم بيننا هي ليست بذات أهمية.
وسواء اتفقنا أم لم نتفق فهذا لن يؤثِّر على الانفتاح والتعايش الأخوي والتضامن
الإنساني فيما بيننا، كما لن يؤثِّر على انفتاحنا وتعايشنا الأخوي وتضامننا
الإنساني مع أبناء باقي الديانات...".
وكما هو واضح، هذه الطريقة الثانية هي الأفضل
كونها تقطع الطريق على أن يُساء الظن بالأرثوذكسيين وعلى اتهامهم بالاستعلائية أو
الانعزالية أو الكيدية أو العنصرية.
وبالطبع، في
حال حصول أي حوار بين مختلف الكنائس المسيحية فيجب دوماً أن يسبقه الاعترافُ
المتبادل بالأخطاء الماضية التي ساهمت في الانشقاقات، أي الأخطاء السياسية أو
التصرفات المسيئة وما شابه، والاعتذار عنها.
عامر سمعان، كاتب وباحث
6/
2/ 2016