ما يتضمنه كتابي "حول الأزمة اللبنانية ونهاية الزعامة العالمية للولايات المتحدة" دراسات معمقة وغير مسبوقة في السياسة والإستراتيجيا والتنمية والسوسيولوجيا؛ من بينها: أربع نظريات جديدة في الأنتروبولوجيا المجتمعية، وخطة لحلّ الأزمة في لبنان، وإستراتيجيا تعتمد وسائل المحاربة الإعلامية والسياسية والاقتصادية لهزيمة الولايات المتحدة وإنهاء زعامتها العالمية، والتي سيكون من نتائجها الاستقرار الأمني والنمو الاقتصادي والتطور في العالم العربي ومعظم دول الجنوب.

الأربعاء، 1 يوليو 2015

اغتيال رفيق الحريري، القراءة المختلفة له


1 - كيفية توجيه الاتهام في أية جريمة.
     عندما يتم توجيه الاتهام بارتكاب أية جريمة، أي الاتهام الإعلامي، فإن الموضوعية والمنطق يقتضيان أن يتم توجيهه وفق قاعدة أن المستفيد الأول من الجريمة يكون المتهَم الأول، بشرط توفر إمكانات التنفيذ لديه. وبغض النظر أكان هذا المستفيد الأول عدواً للقتيل أم صديقاً له أم حليفاً له.
     وكذلك الأمر في العمل القضائي، فإن الموضوعية والمنطق يقتضيان العمل بقاعدة أن المستفيد الأول يكون المشتبَه به الأول، بشرط توفر إمكانات التنفيذ لديه (ليصبح لاحقاً يُسمى المتهَم الأول في سياق إجراءات التحقيق). أيضاً بغض النظر أكان هذا المستفيد الأول عدواً للقتيل أم صديقاً له أم حليفاً له، وحتى أكان أباه أم أمه أم زوجته أم ابنه أم ابنته.
     جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في لبنان في 14/ 2/ 2005، كانت ولا تزال جريمة استثنائية في تاريخ البشرية؛ أولاً لجهة النتائج الضخمة التي ترتبت عليها على الأصعدة المحلية والإقليمية والعالمية، فهي من أهم الجرائم السياسية التي حصلت في تاريخ البشرية؛ وثانياً، لأنه من بعد دقائق من وقوعها ولغاية الآن يتم، بشكل عام، توجيه الاتهام (إعلامياً) بارتكابها إلى الطرف المتضرر أكثر من غيره منها والذي هو النظام الأمني اللبناني - السوري (في ذلك الوقت) وحليفه حزب الله. وأيضاً على الصعيد القضائي، في المحكمة الدولية الخاصة بهذه الجريمة، لا يزال هذا الطرف هو المشتبَه به الأول. بينما الطرف الأكثر استفادة من هذه الجريمة والذي هو الولايات المتحدة فمن النادر أن نجد شخصاً في العالم يقوم بتوجيه الاتهام (الإعلامي) إليها، كما لا تزال مستبعَدة نهائياً من لائحة المشتبَه بهم على الصعيد القضائي.
     ومع الإشارة إلى أن هناك فريقاً أقل في العدد مؤلَّف، بشكل خاص، مما يُعرَف بمحور المقاومة وحلفائه يقوم بتوجيه الاتهام (الإعلامي) بهذه الجريمة إلى إسرائيل أو إلى تنظيمات أصولية متطرفة سُنية.

2 - الولايات المتحدة هي المستفيد الأول والمتهَم الأول باغتيال الحريري.      
     لتوضيح كيف أن هذه الدولة هي المستفيد الأول من هذه الجريمة والتي من المفترَض أن تكون المتهَم الأول (إعلامياً) بها، والمشتبَه به الأول (قضائياً) بها، سنعود إلى احتلالها للعراق في العام 2003. فقَبلَ هذا الاحتلال، قامت آلتُها الإعلامية بتصوير نظام الرئيس صدام حسين على أنه أسوأ نظام ديكتاتوري ودموي في العالم؛ فهو يقمعُ شعبَه بشكل دموي، واستعمل ضده السلاح الكيميائي، وورَّطه في حروب عبثية مع جيرانه، وهو يشكل خطراً على الشعوب في هذه المنطقة وفي العالم بأسره من خلال سَعيه لامتلاك أسلحة الدمار الشامل وتحالفه ودعمه لتنظيم القاعدة... وأنها، أي الولايات المتحدة، ستكون هي المنقِذ من خلال جلبها للحرية والديمقراطية والسلام إلى هذا البلد.
     وكان هناك معارضة شبه عالمية لهذا الاحتلال، إذا قد حصلت تظاهرات في أنحاء كثيرة من العالم رافضة له، ولم توافق الأمم المتحدة عليه. بل قد وجَّهت الولاياتُ المتحدة إهانة كبرى لهذه المنظمة بعد أن أدَّعَت أن مفتشي الأمم المتحدة عن أسلحة الدمار الشامل في العراق يقصِّرون بشكل فاضح في مهامهم.
     وعوض أن يحاسبها مجلسُ الأمن على الاحتلال فقد رضخ لها وأصدر القرارات التي تُبيِّض صفحةَ الاحتلال وتعطي الشرعية له، كمثل القرار 1511/ 2003 الذي ينصُّ على تشكيل قوة متعددة الجنسيات في العراق... والقرار 1546/ 2004 الذي اعتَبر أن الاحتلال يصبح منتهياً بوجود حكومة في العراق وأن القوة المتعددة الجنسيات تبقى قائمة بمهامها بشراكة مع قوى الأمن العراقية التابعة لهذه الحكومة...
     وبالرغم من التظاهرات في العالم الرافضة للغزو إلا أن أية دولة، عربية أو غير عربية، لم تتجرأ على اتخاذ خطوات عملية لمنع الغزو أو لمعاقبة الولايات المتحدة بسببه، كمثل تخفيض أو قطع العلاقات الاقتصادية أو الدبلوماسية.
     حتى إن إيران، العدو الأكبر لهذه الدولة في المنطقة، سارَت تظاهراتٌ فيها وصدرت تصريحاتٌ عن مسؤولين كبار فيها تعبِّر عن الفرح بسقوط نظام صدام حسين.
     فأصبحت الولاياتُ المتحدة إثر الغزو في أوج زعامتها العالمية، ولم تكن هذه الزعامة في أوجها، منذ أن وُجدَت هذه الدولة عبر تاريخها، كما كانت في ذلك الوقت. وقد كان المسؤولون الأمريكيون يصرحون بكل وقاحة حول أن نتائج احتلال العراق لن تتوقف عند حدوده بل سوف يُصار إلى خلق شرق أوسط جديد ورسم خريطة جديدة للمنطقة، وأن العراق سيكون النموذج لنشر الحرية والديمقراطية في المنطقة، وأن أمريكا بإمكانها أن تخوض عدة حروب في العالم في نفس الوقت.
    لكن هذه الزعامة ما لبثت أن أصبحت مهدَّدة بانتكاسة خطيرة، فبعد سقوط نظام صدام حسين لم يكن هناك أدلَّة على وجود أسلحة الدمار الشامل أو على وجود التحالف والدعم لتنظيم القاعدة؛ كما تزايد عدد القتلى من الجنود الأمريكيين في العراق، وأصبحت أوضاعُ الشعب العراقي أسوأ بكثير من ذي قبل من حيث غياب الأمن وتردِّي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وأصبحت أرضُ العراق مرتعاً لمنظمات إرهابية كثيرة من الممكن أن تشكِّل خطراً جدِّياً ليس فقط على الشعب العراقي وغيره من شعوب الجوار بل أيضاً على الشعب الأمريكي وغيره من الشعوب الغربية التي ساندت الغزو.
     وكانت النتيجة الواضحة والمفترَضة لهذا الفشل هي انسحاب سريع للولايات المتحدة من العراق وفقدانها لزعامتها الشامخة ولدورها كقطب وحيد في العالم، مع كل ما قد يترتب على هذا من نتائج كمثل الانهيار الاقتصادي وغيره.
     لكن ما جنَّبَها كلَّ ذلك هو أنها عملت، ومباشرة بعد سقوط بغداد، على تصوير وجود نظامٍ قمعيٍّ في بلد عربي آخر لا يقل سوءًا عن نظام صدام حسين وأنها هي التي ستكون المنقِذ لذلك البلد. أي وفق المنطق الذي يَعتبِر أنها إذا فشلت في جلب الحرية والديمقراطية والسلام إلى العراق فتكون قد نجحت في جلبها إلى بلد آخر.
     فكان دورُ ما يُسمى النظام الأمني اللبناني - السوري المشترَك في لبنان... فابتدأت الإدارةُ الأمريكية منذ 2003 بحملات إعلامية وسياسية على النظام السوري تصوِّره على أن لديه برنامجاً لأسلحة الدمار الشامل، وأن قواته تتواجد في لبنان رغماً عن اللبنانيين، وأن النظام الأمني اللبناني - السوري يشكِّل خطراً على الشعب اللبناني بسبب قمعه الوحشي للمعارَضة، ويشكِّل خطراً على الشعوب المجاورة والسلام العالمي بسبب دعمه لحزب الله وغيره من التنظيمات الإرهابية.
     ومن أبرز المحطات في هذه الحملات كان القانون الأمريكي "قانون محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان" في 2003، والذي ينصُّ على فرض عقوبات اقتصادية وسياسية على سوريا إلى أن تتوقف عن دعم الإرهاب وتتخلى عن برامج أسلحة الدمار الشامل وتسحب قواتها من لبنان. وقرار مجلس الأمن رقم 1559 / 2004، الذي يدعو إلى احترام سيادة واستقلال لبنان وانسحاب جميع القوات الأجنبية منه وحَلّ الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وإجراء انتخابات رئاسية حرة ونزيهة من دون تدخُّل أجنبي.
     لكن أي مراقِب للأوضاع في لبنان كان بإمكانه أن يدرك بسهولة أكاذيب الإدارة الأمريكية. فالاتهامات بوجود برنامج لأسلحة الدمار الشامل في سوريا كانت تلقائياً موضع شكٍّ كبير بالنظر لأكاذيب الأمريكيين والبريطانيين حول هكذا برنامج في العراق، ووجود الجيش السوري في لبنان لم يكن وجود احتلال بدليل عدم وجود عمليات مقاومة شعبية مسلحة ضده كما كان الوضع مع الجيش الإسرائيلي، والمعارَضة في لبنان، التي كانت تدَّعي وجود نظام قمعيّ وبالرغم مما قد حصل لها من تقييد محدود في عملها الإعلامي والسياسي، قد كانت تنمو باستمرار وتحظى منذ التسعينات بحرية من العمل الإعلامي والسياسي غير متوفرة في أي بلد عربي آخر، وحزب الله لم يكن منظمة إرهابية تهدد السلام العالمي بل حركة مقاومة شعبية يعود الفضل إليها في تحقيق أهم انتصار في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي.
     لذلك كان لا بد من عمل دموي مروِّع يثبِّت ادعاءات الإدارة الأمريكية حول ما هو وارد أعلاه (باستثناء مسألة أسلحة الدمار الشامل). والطريقة الأسهل كانت في اغتيال قيادي كبير في المعارضة في لبنان له وزنه العالمي، من خلال عمل إرهابي مروِّع، وأن تُثار ضجةٌ عالمية توجِّه الاتهام بالاغتيال إلى ذلك النظام الأمني اللبناني - السوري.
     وهكذا كان اغتيال الحريري بمثابة هذا الدليل. فتم تنفيذه من خلال تفجير ضخم ومروِّع في قلب العاصمة، وكان هناك مباشرة إثره ضجةٌ إعلامية عالمية (من قبل الآلة الإعلامية الأمريكية ومَن معها) توجِّه الاتهامَ به، بشكل مباشر وغير مباشر، إلى ذلك النظام الأمني وحليفه الأساسي حزب الله.
     فالذي حصل بعد هذا الاغتيال مع النظامين اللبناني والسوري وحلفائهما في الداخل اللبناني أنهم ضَعفوا في مواجهة الحملات الأمريكية، لأن مجلس الأمن وأنظمة الحكم والقواعد الشعبية في مختلف أنحاء العالم الذين ساندوا احتلالَ الولايات المتحدة للعراق أو عجزوا عن منعها كانوا سيساندونها في ضغوطاتها على هذين النظامين وحلفائهما أو سيعجزون عن منعها. كون الحملات الإعلامية والسياسية من قبل هذه الدولة ضد هذين النظامين كانت مشابهة، ووفق نفس المبدأ، لحملاتها التي كانت ضد نظام صدام حسين. هذه الضغوطات التي لن تبقى إعلامية وسياسية بل قد تزداد لتصبح اقتصادية أو حتى عسكرية كمثل القيام بعمليات في الداخل اللبناني والسوري تحت حجة حماية المعارَضة أو اعتقال المسؤولين عن الاغتيال أو قصف مواقع للإرهابيين أو غيرها.
     فلم يبقَ أمام النظامين اللبناني والسوري وحلفائهما إلا تقديم التنازلات لتجنّب هذه الضغوطات، والتي كان أهمها:
1 - استقالة حكومة الرئيس عمر كرامي الحليفة لسوريا.
2 - إسقاط التُهم القضائية عن القيادي في المعارَضة العماد ميشال عون وعودته إلى لبنان.
3 - انسحاب الجيش السوري من لبنان.
4 - العفو عن قائد حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، أحد أهم رموز المعارَضة، وخروجه من السجن.
5 - القبول بالتحقيق الدولي في اغتيال الحريري وفقاً لقرارات مجلس الأمن، بدءًا من لجنة تقصِّي الحقائق الدولية ثم بلجنة التحقيق الدولية ثم بالمحكمة الدولية الخاصة بلبنان.
     وهكذا قد ابتدأ في ذلك الوقت عصر نفوذ الولايات المتحدة في لبنان. وقد استفادت هذه الدولة من اغتيال الحريري، وبشكل أساسي، في إنقاذ نفسها من هزيمة تاريخية في العراق وفي التمهيد لاستمرار سياستها المهيمنة في العالمين العربي والإسلامي. أي إنه لو لم يكن هذا الاغتيال لكانت هذه الدولة قد انسحبت في ذلك الوقت من العراق وتقلص نفوذُها وزعامتها في العالم، أي لكانت قد مُنيَت بهزيمة تاريخية غير معروفة النتائج.
     وبالطبع كان أمام هذه الدولة خياراتٌ أخرى لتنقِذ نفسها من هذه الهزيمة، كمثل أن تفجِّر ناطحة سحاب أخرى في نيويورك وتَتهِم أحد الأنظمة في العالمين العربي والإسلامي بها، أو أن تقوم بعملية إبادة بأسلحة كيميائية في مكان ما في العالم ثم تَتهِم هكذا جهة بها، وما إلى ذلك... لكن تبقى عملية اغتيال الحريري هي الأضمن والأسهل والأقل كلفة... ولاسيما أنه قد سبقتها محاولة اغتيال القيادي في المعارَضة مروان حمادة في 1/ 10/ 2004 والتي على ما يبدو كانت بمثابة تجربة "مخبرية" لمعرفة نتائج اغتيال قيادات في المعارَضة في أجواء تلك الحملات الأمريكية على النظامين اللبناني والسوري؛ فأتت النتيجةُ لمصلحة السياسة الأمريكية إلى أبعد حدود. إذ قامت المعارَضةُ بتوجيه الاتهام (إعلامياً) بالقيام بهذه المحاولة إلى النظام الأمني اللبناني - السوري، ونمَت بشكل ملحوظ خلال الأشهر التي كانت بينها وبين اغتيال الحريري، وازداد الدعم الخارجي لها، وأصبحت خطاباتها أكثر تطرفاً وحِدَّة.

3 - اغتيال الحريري وتشويه صورة حزب الله.
     عندما يُتهَم النظامان اللبناني والسوري بهذه الجريمة فمن الطبيعي أن أهم حليف لهما في الداخل، أي حزب الله، الذي لديه ترسانة ضخمة من الأسلحة ويشكِّل دولةً داخل دولة، هو متهَم بدوره بالموافقة أو بالمشاركة أو بالتنفيذ.
     ومع الإشارة إلا أنه لاحقاً أصبحت الاتهاماتُ بالاغتيال تُوجَّه إعلامياً إلى هذا الحزب بدوره. وحالياً المتهَمون بالاغتيال في المحكمة الدولية هم من المنتمين إليه.
     وبنتيجة هذا الوضع، لا يعود هذا الحزب بصفته حركة مقاومة شعبية بل كإحدى المنظمات الأصولية الإرهابية. ما يعني أنه في أية مواجهة عسكرية مع إسرائيل ستكون يدها طليقة في استهداف الداخل اللبناني، أي العمق الإستراتيجي لحزب الله، أكثر من ذي قبل، وهذا ما كان قد حصل في حرب تموز 2006. أي إنه لو لم يحصل هذا الاغتيال لما كانت قد حصلت هذه الحرب بهذا الشكل.
     وهذه هي استفادة أخرى للولايات المتحدة من هذا الاغتيال، كما لحليفتها الأساسية، أي إسرائيل.

4 - اغتيال الحريري والفتنة السُنية - الشيعية.
     عندما تحدث ضجةٌ إعلامية عالمية متهِمةً أهم حزب شيعي في العالم، وبالمشاركة مع النظام السوري "العَلَوي"، باغتيال إحدى أهم الشخصيات السُنية في العالم؛ وحيث أن كلا هذا الحزب وهذا النظام لديهما تحالف إستراتيجي مع إيران (الدولة الشيعية الأهم في العالم) ويحصلان على الدعم الأساسي منها؛ فما يعنيه هذا هو أن الشيعة بشكل عام هم مَن اغتالوا هذه الشخصية السنية العالمية. وأيضاً مع الإشارة هنا إلى أنه لاحقاً أصبح هناك أصوات تقول صراحة بالمشاركة الفعلية من قبل إيران بهذا الاغتيال.
     ومن الطبيعي أنه كان من شأن هذه الأجواء تأجيج المخاوفَ والكرهَ المتبادل بين السُنة والشيعة على الصعيد العالمي... فالذي حصل من بعد أسابيع من اغتيال الحريري أن العمليات الإرهابية بين السُنة والشيعة في العراق قد نشطت بشكل متزايد وغير مسبوق، وبلغت الذروة في تفجيرين استهدفا مرقد الإمامين العسكريين في العراق، أحد أهم الأماكن المقدسة عند الشيعة، في العامين 2006 و2007. والذَين استتبع كل منهما عمليات انتقامية واسعة طالت سُنَّة العراق لا تزال تداعياتها موجودة إلى الآن.
     ومنذ ذلك الحين، بلغ العداء والكره والشتائم والجرائم المتبادلة بين السُنة والشيعة على الصعيد العالمي ربما إلى مستوى غير مسبوق في التاريخ؛ كما بلغ العداء بين إيران والعالم العربي إلى هكذا مستوى.
     كل هذه العداوات والجرائم الإرهابية والدموية، بين السُنة والشيعة وبين العالم العربي وإيران، التي نشهدها في هذه السنوات الأخيرة تعود أولاً وأساساً إلى اغتيال الحريري، وثانياً إلى تفجير مرقد الإمامين العسكريين. ولو لم يكن هذا الاغتيال لما كان قد حصل كل هذا.
     أما عن الجهة التي قامت بتفجير مرقد الإمامين العسكريين، فالأمر لا يحتاج إلى الكثير من الذكاء، فالاحتمال الأول هو أن تكون جهة ما أصولية سُنية، متأثرةً بالأجواء الإعلامية العالمية التي تتهِم الشيعةَ باغتيال الحريري، قد قامت بهذا الأمر. أما الاحتمال الثاني، والأكثر ترجيحاً، هو أن أكثر جهة في العالم تستفيد من العداء بين السُنة والشيعة وبين إيران والعالم العربي، أي الولايات المتحدة، هي من دبَّرت هذين التفجيرين (في ظلّ احتلالها للعراق).
     هناك رأيٌ يُعيدُ السببَ الأساسي للفتنة السُنية - الشيعية إلى الحرب العراقية - الإيرانية. هذا الرأي هو غير صحيح، كونه مجتزِأً للواقع. لأنه في فترة هذه الحرب، أي الثمانينات، كانت الردة الأصولية الإسلامية السُنية هي في طور التوسع في القواعد الشعبية في العالمين العربي والإسلامي. وبما أن هذه الردة قد سبق حصولها في إيران الشيعية (وكانت النتيجة المذهلة لها هي قيام الجمهورية الإسلامية)، فيكون التفسير الأصح هو أن حصول هذه الردة في إيران كان له مساهمته الكبيرة في تسريع حصولها في القواعد الشعبية عند كِلا السُنة والشيعة خارج إيران. وبالتالي، لا يصح القول إن العداء السُني - الشيعي، كما هو مستشري في القواعد الشعبية، قد حصل أساساً بسبب تلك الحرب.  
     هناك رأيٌ آخر يُعيدُ السببَ الأساسي للفتنة السُنية - الشيعية إلى الاحتلال الأمريكي للعراق في العالم 2003. هذا الرأي هو بدوره غير صحيح، كونه أيضاً مجتزِأً للواقع. لأن هذا الاحتلال لم يتم فقط بفعل التحالف بين الولايات المتحدة وشيعة العراق، بل قد حصل أساساً بفعل تحوُّل هذه الدولة إلى قطب واحد وتعاظم زعامتها العالمية منذ بداية التسعينات، وأيضاً بفعل موافقة قسم غير قليل من السُنة في الخليج العربي عليه.
     بالعودة إلى سياسة الولايات المتحدة في إذكاء الفتنة السُنية - الشيعية، فالأمر لا يحتاج إلى كثير من الذكاء لإدراك أن هذه الدولة، وعلى قاعدة أجواء هذه الفتنة، كانت ولا تزال تقوم منذ العام 2012 (مباشرة أو من خلال حلفائها في الشرق الأوسط) بتقديم كافة أشكال الدعم للمعارضة السورية، والترويج لشعار "وجود أكثرية سُنية في سوريا تتعرض لأبشع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية من قبل نظام حكم عَلَوي مدعوم من قبل حزب الله وإيران". وأنها، أي الولايات المتحدة، هي التي أمَرَت مجموعةً من الدول العربية (السُنية) التي تحت مظلتها لتشنَّ حرباً على الحوثيين الشيعة في اليمن... وحيث من ضمن الأهداف لما يجري في كِلا سوريا واليمن هو تعميق الخلاف بين السُنة والشيعة وبين إيران والعالم العربي وتفتيت المنطقة وإضعافها والهيمنة عليها...
    ومنذ اغتيال الحريري في العام 2005 لا يزال المايسترو الأمريكي يحرِّك اللعبةَ، ولا تزال الأديان والمذاهب والشعوب في الشرق الأوسط تتناطح.     
 
5 - النظامان اللبناني والسوري (في العام 2005) وحليفهما الأساسي حزب الله كانوا الأطراف الأكثر تضرراً في العالم من اغتيال الحريري.
     فقد كان بإمكان هذه الأطراف أن تَعِيَ حملاتِ الإدارة الأمريكية عليها التي تتهمها بقمع الحريات ورعاية الإرهاب وغيره، وبأنها تشكِّل خطراً على شعوبها وعلى السلام العالمي، وأن تَعِيَ أن اغتيال القيادي الأهم في المعارَضة، أي رفيق الحريري، سيكون بمثابة الدليل المهم والوحيد عن هذه الاتهامات... وأن تَعِيَ أن حملات أمريكية مماثلة قد اُستخدِمت لاحتلال العراق... وأن تَعِيَ أنه في حال توفر هكذا دليل فإن مجلس الأمن وأنظمة الحكم والقواعد الشعبية في مختلف أنحاء العالم الذين ساندوا احتلال الولايات المتحدة للعراق أو عجزوا عن منعها سيساندونها في حال قررت زيادة ضغوطاتها عليها أو سيعجزون عن منعها.
     كما كان بإمكان هذه الأطراف أن تَعِيَ نتائجَ اغتيال الحريري على تشويه صورة حزب الله وعلى إشعال الفتنة السُنية - الشيعية وعلى تسعير الخلاف بين إيران والعالم العربي.
     وإذا افترضنا أن هذه الأطراف كانت تخشى من دخول النفوذ الأمريكي إلى لبنان من خلال رفيق الحريري فقد كان بإمكانها أن تستوعب هذا الأمر، كمثل من خلال "تظاهرات القمصان السود" وشلّ الحركة في العاصمة وغيرها من المدن من خلال التظاهرات والاعتصامات الطويلة الأمد وما شابه. أي إنه مع بقاء الحريري على قيد الحياة، وحتى إذا افترضنا فوزه الكبير في الانتخابات البرلمانية وموافقته الكاملة على القرار 1559 وسَيرِه في السياسة الأمريكية، فإن هذا لن يشكِّل أدنى خطر على تلك الأطراف؛ في مقابل ما سيشكِّله اغتيالُه وتوجيه الاتهام إليها بهذا الأمر من خطر كبير عليها. 
     وبما أن هذه الأطراف هي الأكثر تضرراً في العالم من اغتيال الحريري فالمنطق يقتضي أن تكون في أسفل لائحة المتهَمين به.
     أهم حجة قام فريقُ 14 آذار في لبنان (الفريق المؤيِّد للسياسة الأمريكية والمعادي لسوريا وحزب الله) بترويجها لاتّهام النظامَين اللبناني والسوري وحزب الله باغتيال الحريري، هي أن الرئيس بشار الأسد كان قد هدد رفيق الحريري بالقول: إنه سيكسِّر لبنان فوق رأسه وفوق رأس وليد جنبلاط إذا لم يوافقا على التمديد للرئيس لحود...
     هذه الحجة هي قمة سخافة التفكير وانعدام المنطق، لأن توجيه الاتهام في الجريمة السياسية لا يكون إلى الطرف الذي كان يهدد القتيل أو يهينه أو يعاديه، بل إلى الطرف المستفيد أكثر من غيره من الجريمة، حتى ولو كان حليفاً له أو صديقاً له أو حتى من أكثر المقربين منه؛ كما أوردنا أعلاه. 

6 - المهزلة الكبرى في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.
     هذه المحكمة الدولية التي أُنشِأت من قبل مجلس الأمن الدولي خصيصاً لجريمة الرئيس الحريري، وغيرها من الجرائم المرتبطة بها؛ تقوم ببذل الكثير من الجهد والوقت لاستقدام شهود  يزعمون أن الرئيس الحريري قد تلقى التهديد من قبل الرئيس الأسد بأنه "سيكسِّر لبنان فوق رأسه ورأس وليد جنبلاط إذا لم يوافقا على التمديد"، وأنه قد تلقى تهديداً آخر من قبل حزب الله، وأنه قد أُهين من قبل هذين الطرفين، وأن هذين الطرفين، إضافة إلى حليفهما الرئيس لحود، قد عادوه وعرقلوا سياستَه ومشاريعه بكثرة أثناء وجوده في رئاسة الوزراء... وبالطبع الهدف من كل هذا، هو ليكون بمثابة الدافع السياسي لارتكاب الجريمة من قبل هذه الأطراف وللمساهمة في إدانتهم بها.
     وكما كنا قد أوضحنا أعلاه، أنه في سياق: توجيه الاتهام (الإعلامي) في الجريمة السياسية، أو التحقيق القضائي فيها، أو المحاكمة، أو أي استئناف أو تمييز للمحاكمة، أو إعادة المحاكمة؛ في كل هذا، ليس مهماً مَن كان عدواً أو حليفاً للقتيل بل المهم هو مَن كان مستفيداً أكثر من غيره من الجريمة، حتى ولو كان من أقرب المقربين من القتيل، وبشرط أن يتوفر عنده إمكانات تنفيذ الجريمة.
     بكلمة أخرى، حتى ولو افترضنا أن النظام السوري وحليفيه النظام اللبناني وحزب الله، قد قاموا بالفعل بتهديد الرئيس رفيق الحريري ألف مرة بالقتل، وأنهم عادوه ألف مرة، وأنهم وجَّهوا إليه الإهانات ألف مرة؛ فكل هذا لا يساوي إلا صفراً في كونهم المشتبَه به الأول في جريمة اغتياله أو ليكون بمثابة الدافع السياسي عندهم للاغتيال؛ طالما هم الطرف الأكثر تضرراً في العالم من هذا الأمر... أي إن الحد الأدنى من المنطق والموضوعية والمهنية يقتضي أن لا تقوم المحكمة الدولية ببذل الجهد والوقت في تحديد من كان عدواً للحريري أو يهدده أو يهينه، بل في تحديد مَن كان مستفيداً أكثر من غيره من اغتياله.
      باختصار، ما يجري في المحكمة الدولية ما هو إلا مهزلة كبرى في عمل المحاكم والقضاء عبر التاريخ؛ ومن شأنه أن يعزز فرضية كون هذه المحكمة هي مُسَيَّسَة، أي خاضعة للنفوذ الأمريكي أو غيره، بهدف التزوير وإدانة أطراف معينة بهذا الاغتيال.  
       
7 - في النهاية، للتوسع في كل ما تقدَّم عن اغتيال الرئيس الحريري انظر كتابي: "حول الأزمة اللبنانية ونهاية الزعامة العالمية للولايات المتحدة"؛ وأيضاً للاطلاع على النقاط التالية التي لم يتسع المجال لها هنا:
- عرض كافة الحجج المقدَّمة من قبل فريق 14 آذار في توجيه الاتهام بهذا الاغتيال إلى النظامين اللبناني والسوري وحزب الله، ودحض هذه الحجج.
- تبيان كيف أن الولايات المتحدة كان عندها كل الإمكانات في لبنان لتنفيذ هذا الاغتيال.
- تبيان كيف أن الولايات المتحدة هي المستفيد الأول والمتهَم الأول بباقي الجرائم التي طالت قيادات أخرى من 14 آذار في لبنان وبالتفجيرات التي حصلت في مناطقهم السكنية في الأعوام 2005 و2006 و2007.
 -مقاربة سوسيولوجية (أنتروبولوجية) لتبيان نمو الزعامة العالمية للولايات المتحدة خلال التسعينات وبعد حادثة 11 أيلول 2001 وكيف أثَّر ذلك على عدم توجيه أي اتهام إعلامي إليها باغتيال الحريري.
- تبيان كيف أن الولايات المتحدة هي المستفيد الأول والمتهَم الأول بنشوء ودعم تنظيم فتح الإسلام في لبنان.
- تبيان كيف أن المعارضة السورية وحلفائها في الخارج (وصولاً إلى الأمريكيين) هم المستفيدون أكثر من غيرهم والمتهَمون قبل غيرهم بقضية ميشال سماحة.

أيضاً حول قضية ميشال سماحة أنظر مقالتي: "ميشال سماحة، وقصر النظر عند 14آذار"



عامر سمعان، باحث وكاتب
1/ 7/ 2015